عندما شاهدت شأن ملايين الناس الدراما التى بثتها الميديا باللحم الحى عن التفجيرات الإرهابية فى كنيستين بالاسكندرية وطنطا، تذكرت على الفور كتابا للصديق السورى الراحل د. سامى الجندى الذى عمل وزيرا للإعلام فى الاقليم الشمالى من الجمهورية العربية المتحدة وسفيرا فى فرنسا، وكان من أبرز الساسة الذين تصدوا للانفصال، كان كتاب الجندى بعنوان «صديقى إلياس» ولهذا العنوان دلالات قومية وانسانية لا آخر لها، خصوصا أن مؤلف الكتاب كان يصر على الصلاة فى المسجد والكنيسة معا، ومن دعاة الوحدة الوطنية الذين كان لهم الفضل مبكرا فى افتضاح التضاريس الطائفية للعالم العربي، وأنا بدورى أستعير من د. الجندى عنوان كتابه لأتحدث عن صديقى جورج، قد يكون جورج احد شهداء الدراما الكنائسية فى مصر أو العراق أو أى مكان آخر، وقد يكون جورج حاوى الامين العام للحزب الشيوعى اللبنانى الذى اغتيل فى بيروت وقد يكون جورج حبش الذى قال لى الاستاذ هيكل بحضور صديقين لا يزالان على قيد الحياة ومد الله فى عمريهما انه تمنى لو انه قدمه الى الزعيم عبدالناصر، وقد يكون جورج حداد الكاتب القومى الذى تشبث بعروبته حتى الموت وقد يكون جورج غالاوى الذى تعرض للضرب فى احد شوارع لندن وبالقرب من البرلمان الذى هو عضو فيه لاسباب عربية خالصة، وأخيرا قد يكون جورج طفلا مصريا او ابا او قسيسا توضأ بدمه على طريقة الصوفى الحلاج الذى قال إن ركعتين فى العشق لا يكون وضوؤهما إلا بالدم . واعترف بأن مشهد الوداع الذى كان محفوفا بالتصفيق والاناشيد والصلوات لمن طالهم الارهاب كان تراجيديا بامتياز، اما العملية الانتحارية فقد فشلت لأنها استقرت كالشظايا فى اجساد الضحايا ولم تصل الى هدفها وهو النسيج الوطنى لمصر والبابا الذى قال ان مصر بلا كنائس خير من كنائس بلا مصر قدّم امثولة فى الوطنية تصلح ايقونة لكل من جعلوا الهوية الزم فوق كل الهويات، ومن قبله قال سلفة الراحل إن مصر وطن يسكن فينا اكثر مما نسكن فيه، وخلاصة المشهد هى زفاف مخضّب بالدم ولقاح باسل من امصال مضادة للطائفية وخطوط طولها وعرضها . صديقى جورج سواء كان مفكرا او فيلسوفا او امينا عاما لحزب او طفلا فى مصر او العراق او سوريا هو التوأم الحميم فى حضارة عاشت بفضل التكامل لا التآكل ، وديناميات الجمع لا الطرح والقسمة كما اراد لها فقهاء الظلام ممن تعهدوا جراحة التاريخ والجغرافيا كى يتحول الوطن الى كسور عشرية ونسب مئوية وعندئذ تكون الأوطان مهيأة لأن تصبح غنائم لغزاتها كان للعرب المسيحيين على امتداد تاريخنا وبالتحديد بدءا من نهضة القرن التاسع عشر دور ريادى فى التنوير وصياغة الوعى القومي، وفى بلاد الشام كان لهم الفضل فى التصدى للتتريك فأصدروا المعاجم اللغوية دفاعا عن اللغة العربية وهى آخر القلاع التى يجرى استهدافها بدءا من التفريس حتى التتريك والتهويد والعَبْرنة ! الفتى جول جمال الذى قفز برشاقة من دمشق الى القاهرة واستشهد فى عملية باسلة ضد العدوان الثلاثى هو اسم حركى لجورج، وكذلك جورج ابيض وجورج زيدان اللذان لم يجدا تربة أخصب من مصر ومن طمى نيلها لتحقيق ما حلما به من ثقافة ومسرح، ود. سامى الجندى الذى استعرت منه عنوان هذا المقال والذى ترجم مائه عام من العزلة لماركيز وملحمة اراغون الشهيرة مجنون الزا روى لى ذات يوم انه بعد ان سلّم اوراق اعتماده الى الجنرال ديجول سأله عن صورة معلقة على احد جدران الاليزيه ولم تكن لمفكر او فيلسوف او شاعر ممن يعرفهم فأجابه الجنرال انها صورة مثقف اطلق النار على رأسه عندما شاهد اول دبابة المانية تطأ باريس وهو ايضا حكى لى عن قصة كتبها فتى فرنسى باسم فيركور وهو اسم بلدته واسمه الحقيقى غير معروف، والتى قال فيها ان الربيع القادم فى فرنسا سيكون اكثر اخضرارا لان الدبابات عمّقت الجذور فى باطن الارض! والان بمقدور اى فتى من القاهرة او الموصل او حلب او القدس ان يقول شيئا كهذا، فالديناميت الذى تفجر فى كنائس مصر والعراق واستهدف القيامة المقدسية عمّق بذور الوحدة الوطنية ، وآخى بين التوأمين عيسى ومحمد وجورج وعبد الرحمن، لهذا افتدى شهداء وضحايا التفجير الوحدة الوطنية بأجسادهم لأن الشظايا استقرت فيها ولم تصل الى هدفها الأبعد. قبل قرون علمنا ابن عربى ان فى قلبه متسعا للعقائد كلها، وقبل قرون التقط صلاح الدين الصليب الذى سقط على الارض وقبّله واعاده الى مكانه، ولو كان لمثل هذه الاستراتيجية التى تسعى الى قضم احشاء الاوطان جدوى لأدت مفعولها فى ثورتى 1919 المصرية و1920 العراقية واطول اضراب فى التاريخ عام 1936 فى فلسطين. انها مناسبة رغم فداحتها انسانيا ووطنيا ورغم كل ما سأل فيها من دموع على الشموع للتذكير بما قاله المتنبى وهو تكسرت النصال على النصال فما من شبر فى تراب او ماء هذه الجغرافيا الرسولية النازفة الا وشهد تراجيديا انتصر فيها الحمام على الغراب وانتصر فيها الشفق على الغسق، وما اود قوله لصديقى سواء كان اسمه إلياس كما فى كتاب د . الجندى او جورج كما فى هذه السطور هو اننا اقتسمنا الوردة والرغيف والنصر والهزيمة وكذلك النشيد، فقدرنا التاريخى ان نكدح معا على هذا التراب وان نهجع معا فى باطنه ذات يوم . ولو صدقنا ما قاله ارنولد توينبى عن جدلية التحدى والاستجابة التى كتب مؤلفاته فى ضوئها فإن هذه التحديات استدعت كل ما لدينا من احتياطى تاريخى وحضاري، من اجل رفع منسوب المناعة. أنقول بعد ذلك ان من ينتحرون لقتلنا يساهمون رغما عن نواياهم فى احيائنا لأن ثقافة التبشير بالحياة ابقى من ثقافة سوداء جعلت من التوابيت اصناما!! لمزيد من مقالات خيرى منصور;