الأزمة المثارة الآن بخصوص الصحف القومية هي جزء أصيل من أزمة إدارة العمل الوطني منذ تفجر ثورة الخامس والعشرين من يناير وإسقاط رأس النظام المخلوع يوم11 فبراير.2011. هذه الأزمة بدأت بالإدارة المرتبكة للمجلس العسكري وفشل القوي الثورية في استكمال الثورة الأمر الذي مكن فلول نظام مبارك من إعادة ترميم صفوفه, وامتلاك زمام المبادأة مستعينا بكل إمكانيات الدولة للانقلاب علي الثورة وهو ما تجلي مؤخرا في نجاحهم في تمرير مرشح رئاسي باسم النظام استطاع أن يوظف كل إمكانيات الدولة من ناحية وأن يستفيد من أخطاء أداء التيار الإسلامي في البرلمان, وأن يروع المواطنين من خطورة تمكين رموز هذا التيار من مؤسسة الرئاسة. الآن لا يمكن أبدا عزل المعركة الفرعية المثارة بخصوص الصحف القومية عن الأزمة الأم, أي أزمة الصراع بين الثورة وبين الثورة المضادة, ولأن الصراع ضد الثورة جري تلبيسه في صراع رمزي ضد الأخوان, فإن أزمة الصحف القومية المثارة الآن أخذت للأسف شكل المواجهة بين بعض المنتسبين لهذه الصحف القومية ضد الأخوان ممثلين في مجلس الشوري بسبب ما تضمنه التقرير الصادر عن المجلس بخصوص الصحافة القومية. فقد تضمن هذا التقرير, الذي تحول إلي مصدر للأزمة, تقييما عاما لأداء المؤسسات الصحفية القومية, وكشف فداحة المشاكل التي تواجه هذه المؤسسات علي كافة المستويات وخلص إلي أمرين; أولهما, السعي إلي اختيار رؤساء تحرير جدد للصحف القومية ضمن معايير محددة وآلية مقترحة. وثانيهما, توصيات عامة لإصلاح أحوال هذه المؤسسات. بأمانة شديدة, وبعد قراءتي هذا التقرير ومن خلال متابعتي الأزمة أستطيع أن أقدم مجموعة ملاحظات أولية قبل أن أدخل في جوهر الأزمة والسبيل إلي الحل. أولي هذه الملاحظات أن التقرير استهدف الإصلاح, مجرد الإصلاح ضمن ما هو موجود, أي ضمن إطار ملكية مجلس الشوري للمؤسسات الصحفية القومية, ولم يستهدف التغيير الثوري الذي ينهض جذريا بأوضاع هذه المؤسسات ويحررها من كل القيود والقوانين الجائرة التي فرضت عليها منذ أصبح مجلس الشوري مالكا لهذه المؤسسات. وعندما أقول أن التقرير استهدف الإصلاح فإنني أؤكد أنه لم يستهدف تصفية حسابات مع أحد أو فرض هيمنة الأخوان علي الصحافة واستبدال الحزب الوطني بالأخوان وغيرهم من المنتسبين للتيار الإسلامي ولكنه اجتهاد ربما يكون خاطئا, لكنه استهدف الإصلاح. ثاني هذه الملاحظات أن التوصيات التي تضمنها التقرير بها ما هو إيجابي جدا وبها ما هو سلبي جدا, ولكن لأن الموقف الصحفي العام من هذا التقرير جاء ضمن مناخ ما أخذ يعرف ب فوبيا الأخوان فقد جري اجتزاء بعض التوصيات السلبية وتضخيمها لترويع الجماعة الصحفية من الخطر الهائل القادم مع السعي الأخواني للسيطرة علي الصحافة, كما جري تجاهل كل ما هو إيجابي من هذه التوصيات وبعضها كان مطلبا مستمرا للجماعة الصحفية علي مدي عقود طويلة مضت. أبرز التوصيات السلبية التي جري التركيز عليها في إدارة الصراع ضد تقرير مجلس الشوري التوصية الثامنة التي جاءت علي النحو التالي: تعديل المادة(57) من القانون رقم96 لسنة1996 التي تنص علي( تخصيص نصف صافي أرباح المؤسسة للعاملين والنصف الآخر لمشروعات التوسع والتجديدات) بحيث يخصص جزء من الأرباح للدولة. واضح من هذا النص أمران; الأول, أن يتحدث عن شئ موجود بالفعل بالنسبة لتقسيم الأرباح الصافية. والثاني, أنه سعي إلي توجيه جزء من هذه الأرباح إلي خزينة الدولة. لكن ما جري ترويجه علي نطاق واسع هو أن مجلس الشوري ومن ثم الأخوان سوف يقتسمون أرباح المؤسسات عنوة مع العاملين بها, مما أدي إلي بروز رأي عام ثائر في هذه المؤسسات ضد مجلس الشوري وضد الأخوان ضمن معركة التشويه والتنكيل المتبادل. في الوقت نفسه جري تعمد إغفال أي حديث عن توصيات أخري مهمة وردت في التقرير مثل التوصية رقم(5) التي تنص علي مخاطبة النائب العام لإعادة فتح ملفات الفساد في الصحف القومية والمطالبة برد الأموال التي تحصلوا عليها( يقصد الفاسدين من رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير وأعوانهم) بطرق غير مشروعة إلي خزينة الدولة ومثل التوصية رقم(7) التي تطالب ب تعديل المادة رقم(32) من القانون رقم(9 لسنة1996) بحيث توضع عقوبات علي الصحفي الذي يعمل في جلب الإعلان. أما ثالثة هذه الملاحظات فتتعلق بمسألة اختيار رؤساء تحرير جدد للصحف القومية وهي مسألة مهمة لأنها وحسب نص التوصية رقم(1) دعت إلي الإسراع باختيار رؤساء التحرير للمؤسسات الصحفية وفق المعايير والضوابط الموضوعية التي تم اقتراحها. وعندما يطالب التقرير باختيار رؤساء التحرير وفق معايير وضوابط فهذا شئ مهم بل شديد الأهمية والإيجابية, لكن هذه الخطوة المهمة جاءت معيبة شكلا وموضوعا وهذا ما يهمنا الآن. فالمعايير ضعيفة وملتبسة وغير دقيقة وتتصف بالعمومية وعدم الدقة. أما الإجراءات المطلوبة للترشيح فهي أشد عيبا حيث حولت شخص رئيس التحرير إلي متسول لمنصب, وأهانت هذا المنصب الرفيع عندما اشترطت أن يتقدم المرشح للمنصب بأرشيف خاص يتضمن كشف قدراته المهنية والإدارية. نأتي لما هو أهم وهو ما يتعلق بالنواحي الموضوعية دون الشكلية, وأهم ما يمكن أن نقوله بهذا الخصوص هو أن اختيار رؤساء تحرير جدد للصحف القومية ليس هو الحل الأمثل وليس هو الخطوة الأولي والأهم لمعالجة أزمات ومشاكل الصحف القومية. فقد سبق أن أسقطت الجماعة الصحفية رؤساء التحرير المعتقين الذين أمضوا في منصبي رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير أكثر من عشرين عاما لكن هذه الخطوة لم تصلح شيئا بل علي العكس كرست الفساد والاستبداد داخل المؤسسات الصحفية, فقد جاء البدلاء أسوأ ممن كانوا قبلهم, حيث كان هؤلاء علي وعي بشروط التحاقهم بوظائفهم وهو الولاء المطلق لشخص الرئيس والدفاع باستماتة عن سياساته. استبدال رؤساء التحرير لم يكن هو الخطوة المهمة الآن بل كان يجب الانطلاق نحو تثوير هذه المؤسسات الصحفية عن طريق التوجه نحو تجديد الميثاق الصحفي بأن نؤكد الالتزام بالثورة وأهدافها, بحيث يكون الارتداد علي الثورة وأهدافها خيانة وطنية, وبعدها يكون العمل من أجل تحرير الصحافة من أي تبعة لأي سلطة سواء كانت السلطة التنفيذية أو التشريعية ومن هيمنة أي حزب. وبناء علي ذلك فإنني أتمني وقف ما يجري الآن من إجراءات من جانب مجلس الشوري لاختيار رؤساء التحرير, وتأجيل ذلك لمدة ستة أشهر يجري خلالها فتح حوار وطني واسع تقوده نقابة الصحفيين بمشاركة المجلس الأعلي للصحافة هدفه وضع مشروع جديد للصحف القومية يرتكز أولا علي تحرير هذه الصحف من كل هيمنة, والحفاظ عليها. ثانيا, كمؤسسات وطنية والحيلولة دون التورط في تخصيصها. وثالثا, وضع قواعد ضابطة لإدارتها ومحاسبتها كي تكون مدخلنا للإصلاح الإعلامي والسياسي الذي نأمله ومنبرنا للانتصار للثورة وأهدافها. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس