تموج التذكارات فى لحظات التوجس . وأيامنا تدور على نيران الحلم فى استقرار يتيح لنا بناء واقع مختلف بدلا من حالة التشرذم التى صاغتها سنوات سابقة . وكان خبر قرب ميلاد «المجلس الأعلى لمحاربة الإرهاب» يحمل، فى أفكارى مهام جهاز سياسى يملك سلطة التنفيذ ، فبدون تلك القدرة سيكون من الصعب إنجاز الهدف . وجوهر المسألة هو قهر التخلف المرتدى ثياب تيارات متأسلمة متخلفة ، فضلا عن قهر «المظهرية» التى تقود إلى اتساع الهوة بين الواقع والعمل الجاد لبناء مستقبل يخرج فيه المواطن من بيته مشتاقا لعمله ، ويعود من عمله مشتاقا لبيته . وقد تبدو كلماتى حالمة ، ولكن أليس الواقع المرير هو سبب ميلاد الأحلام الكبيرة ؟! ويأخذ هذا المجلس فى أحلامى مكانة الرحم لميلاد قوة سياسية لها فى قلبى إيقاع من تاريخ قديم ، تعودنا فيه على الأمل ، لكن الأطماع الصغيرة اغتالته بعد حين . فذاكرتى لا تنسى أيام بناء «هيئة التحرير» فى أوائل ثورة يوليو ، رغبة من قادتها وحلما فى تكوين نخبة سياسية تتفق على خطوط عريضة تمارس شحن قدرات المجتمع ليطرد الاستعمار من مدن القناة ويبنى فى نفس الوقت المجتمع على أساس اكتفاء وعدالة . وبنقاء قيادتنا فى تلك الأيام وتنظيم طاقات المجتمع طردنا الاستعمار بجدية قتاله فى المناطق التى كان يعسكر فيها على طول قناة السويس، وطبعا كان حادث طرد الاستعمار من الخريطة المصرية ، مصحوبا بيقظة عالمية صحا عليها العالم الثالث فى إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وكان ميلاد عدم الانحياز كإطار لواقع سياستنا الخارجية ؛ هو جرس إنذار من الشعوب الرافضة للقهر ؛ وطبعا كانت هناك مقاومة شرسة إما من قوى الاستعمار القديم أو أدواته التى أضافت لأسالبيها تحديثا علميا كبيرا متمثلا فى قوة الولاياتالمتحدة . ولن أذكر أحدا بجون فوستر دالاس وزير خارجية الولاياتالمتحدة الذى أراد ربط مصر بسلسلة الأحلاف الأجنبية ، ولن أكرر ما هو معروف من موقف عبد الناصر الحازم فى هذا المجال ، فمن خلال هذا الحزم ورفض مبدأ اعتبار شرقنا الأوسط منطقة فراغ لابد أن تملأه قوى عظمى بأساطيلها وقواعدها . ومن خلال هذا الحزم من ثورة يوليو استيقظت فكرة القومية العربية لتشعل المنطقة من محيطها إلى خليجها بضرورة الاستقلال السياسى مصحوبا بعدالة اجتماعية . ومن ينظر إلى مشاركة مصر فى تحرير العالم العربى يمكنه ان يترحم على الأبطال والشهداء الذين سقطوا مع المليون شهيد الذين منحتهم الجزائر ثمنا لاستقلالها عن فرنسا ؛ويمكنه أن يرى بريطانيا وهى تركض خارج الخليج العربى ، وكيف انتهى وجود أنظمة شاءت أن تعادى فكرة العروبة . وطبعا تغيرت طبيعة الجهاز السياسى المصاحب لأحلام 23 يوليو ، فجاء «الاتحاد القومى » الذى ترهل من بدايته لأنه لم يملك خطة ينتشر بها ليرفع أحلام الخريطة ويعيد تنسيقها ، وهو نفس ما جرى للاتحاد الاشتراكى فيما بعد . ولم تكن عند القيادة قدرة على حسن اختيار المقاتلين لمختلف قضايانا ولحظات المواجهة بيننا وبين قوى التخلف ، ولا أدل على ذلك من وقوع انفصال سوريا عن مصر ؛ فضاعت فرصة وحدة عربية اكبر وليكون ذلك الحدث هو بداية لسلسلة طويلة من المآسى ، ولو صلح الرجال الذين قاموا بالوحدة لما نزل بعضهم فى بحيرة الخيانة للأفكار التى ملأت آمال الجماهير ، لا أحد ينسى دوامات الثرثرة السياسية التى أغرقت كلا من سوريا والعراق بحكم حزب البعث الذى ادعى انه عربى واشتراكى ، بينما كان القتل وألعاب الخيانة تجرى تحت سطح الكلمات الزاعقة ، دون ولاء للعروبة أو العدالة. وبسبب التوجس لم يستطع عبد الناصر أن ينقى صف القيادة ممن اتسعت المسافة بين قدراتهم العلمية والعملية ؛ فوقعت علينا صاعقة النكسة فى يونيو 1967 ، ولكنها لم توقف بناء السد العالى، وكان للتعليم منذ 1952 وحتى 1967 شرف تكوين جيش من مليون مقاتل غزلوا انتصار أكتوبر بسهر الليالى ، وكان انتصار أكتوبر 1973 نموذجا لقدرة شعب على النهوض من ظلمات الهزيمة ، وأهدانا هذا الانتصار صحوة عربية كان يمكن أن تتطور لو كان لها جهاز سياسى يدير حركتها ، ولم تمتلك أمتنا ولا بلادنا مثل هذا الجهاز السياسى القادر على الخطو بالأمة العربية كلها إلى مستقبل مختلف. ولن أبكى على الأحلام السياسية التى أجهضها السادات بمحاولة اقتراب من ديموقراطية ديكورية ؛بينما كان صهره عثمان أحمد عثمان يقوم بإحدى يديه بتربية ثعابين التأسلم عبر المرشد السرى للإخوان المسلمين الراحل حلمى عبد المجيد الذى استدعاه من ليبيا ليبدأ مع عمر التلمسانى إعادة تأسيس تيار التأسلم ، فإذا كان عمر التلمسانى هو الوجه الناعم ؛ فالذاكرة لا تنسى مصطفى مشهور الذى أيقظ الجهاز السرى الإرهابى للإخوان؛ بينما كانت اليد الأخرى لعثمان أحمد عثمان تزلزل وتخلخل القطاع العام برأسمالية متوحشة ، تزرع الفقر فى جنبات الوادى . وكان من نتيجة هذا الانفتاح السداح مداح إتاحة الفرصة لحبس تيارات المعاصرة فى النظر إلى الحياة الاجتماعية المتكاملة ، واتسعت الهوة بين الجموع وبين «القطط السمان» الذين صاروا حيتانا ثم تحولوا إلى هيئة تحكم فى مصير مصر الاقتصادى بعيدا عن أفكار التنمية الشاملة المتعددة الأوجه ؛ وتسلمها مبارك ليقوم بتجميد كل وسائل النمو ، فترهل التعليم وغرقت قلة فى ثراء زاعق ، بينما كان الواقع غارقا فى الغياب عن الواقع إما باختراع المساعدات المادية من عمل خيرى مشبوه هو عمل المتأسلمين بجناحيهم «الإخوان والسلفيين» وإذا كان السادات قد سقط قتيلا برصاصات التأسلم فحركة تنمية المجتمع فى أيام مبارك لم تنقذ الوادى والصعيد وسيناء من أنياب الجانب اللين والسام من تيارات التأسلم . وطوال الوقت كانت خريطة مصر تطلب عقولا سياسية يمكنها أن ترسم خريطة عمل ينقذنا من واقع شديد التخلف ، قمته غارقة فى استهلاك أرعن بينما قاع المجتمع ممتلئ بالأجساد الباحثة عن مأوى والبطون التى تئن من عجز الثقة فى أنها يمكن أن تضمن الوجبات الثلاث، والأيدى التى لم تتعلم كيف تنتج طعاما وبيتا . أرى بعيون الألم مما فات وعيون الحلم بما هو قادم ضرورة أن يكون هذا الجهاز هو خطوة مجتمع بكامله خارج أقفاص الأنانية التى يحبس فيها كل فرد نفسه متجاهلا حقوق الآخرين. وفى القلب صور لنماذج من رجال أعطوا هذا الوطن ولم يسألوا عن ثمن ، وليكن صدقى سليمان مهندس بناء السد العالى هو أول الأسماء التى وردت على خاطرى الآن لأن قيادته للسد العالى هى من أعطتنا خبرة المهندس باقى زكى يوسف صاحب فكرة المضخة التى هدمت خط بارليف ، واسم عبد المنعم رياض الذى أعاد صياغة التفكير العسكرى المصرى ليعيد بناء قوات مسلحة هزمت خصما يعتمد على خبرة أكبر قوة نيران فى الكون ، ويوسف صبرى أبو طالب أول محافظ لسيناء الشمالية الذى لو رأت خطته لتنمية سيناء النور لما وصل إليها إرهاب لكن مبارك اغتال تلك الخطة بالركود، ويأتى للذاكرة اسم منصور حسن هذا الشهاب الذى حاول إنارة الطريق أمام السادات لكن زغللة النفاق حجبت عن السادات الرؤية فخرج منصور من دائرة القرار دون أن يفقد نفسه أوبريق عطائه ؛ لذلك لم يضن منصور حسن بعطاء فكان قبوله لرئاسة المجلس الاستشارى فيما بعد الخامس والعشرين من يناير ، وغير هؤلاء كثير كثير . لمزيد من مقالات منير عامر