مات الرجل الطيب، فحزن عليه كل أهل قريته، كعادتهم فى الحزن على غياب جار أو صديق لهم، لكن الذى لم يكن عاديا، وتفاجىء به الجميع، هو حزن هؤلاء الصغار الذين إصطفوا على جانبى الطريق من بيت الراحل العزيز، وحتى مقبرته، حيث سيرقد إلى الأبد، مشكلين أجمل وأنبل وداع عرفته مصر من شباب صغير فى مثل أعمارهم. الحكاية أن الأستاذ عطية عبد الحميد هاشم، مدرس الرياضيات بمدرسة شنبارة الميمونة الإعدادية بمحافظة الشرقية، قد توفى، وتم إعلان الخبر فى طابور الصباح بالمدرسة التى كان يعمل بها، وكانت إسرته تحضر لدفنه، والجنازة على وشك البدء، فطلب التلاميذه من مدير المدرسة أن يسمح لهم بالإنصراف للمشاركة فى وداع مدرسهم لمثواه الأخير، وأصطف التلاميذ بطول الطريق صفين، بنات وبنين، أولهم أمام منزله، وأخرهم عند مقبرته لمسافة كيلو متر، تحية لمدرسهم الطيب، الذى يصفونه بأنه كان يعاملهم كالأب، فلم يكن يبخل على أحد منهم بعلمه ولا حبه أو رعايته، حتى فى منازلهم، كان يمر عليهم ليسأل عنهم آبائهم وأمهاتهم، ليطمئن بنفسه على إنتظامهم فى دروسهم. العمل الصالح الذى غرسه هذا المعلم القدوة فى تلاميذه، بشكل عملى، فاق آلاف الخطب التى من الممكن أن يلقيها رجال الدين على منابرهم، لسنوات ثم لا تكون بمثل هذا الأثر، فقد تجاوز كونه معلما، وتخطى حدود وظيفته رغم قدسيتها، ليكون قائدا، والأجمل أنه كان إنسانا لن ينساه كل من تعامل معه. أتصور أن افعاله الطيبة، وكلماته التى أودعها وجدان تلاميذه، لن ينتهى أثرها من المجتمع، إذ أنها ستحيا بعده من خلالهم، وسيأتى اليوم الذى يحصد المجتمع فيه، ثمرات أعمال هذا المعلم الراحل، لتصل إليه فى حياته الأخرى، آلاف بل ملايين الدعوات بالرحمة، والمغفرة. إن أثر الأب الطيب لا يتخطى عدد أبنائه، الذين رباهم، أما أثر المعلم الصالح فيمتد لأجيال كاملة وأجيال أخرى تأتى بعدها.. لقد تحول هذا المعلم الإنسان، فور تغييبه فى باطن الأرض، إلى بذرة لشجرة طيبة، نبتت، ونمت فورا، وإمتدت فروعها بطول شوارع قريته، وأورقت لحينها بنينا وبناتا بوجوه بريئة، وقلوب صافية، كلها رحمة، كالتى أغدقها عليهم، حين كان بينهم. أن تتحول إلى شجرة حب ورحمة، بعد موتك، فهذا حقا ما يستحق المنافسة عليه. [email protected] لمزيد من مقالات وفاء نبيل ;