لأول مرة منذ إندلاع النزاع فى سوريا عام 2011، ردت قوات الدفاع الجوى السورية بإطلاق ثلاثة صواريخ على طائرات حربية إسرائيلية إخترقت المجال الجوى فى 17 مارس وأطلفت قذائفها على أهداف فى مدينة تدمر فى وسط البلاد. الرد السورى فاجأ الجميع لأن إسرائيل دأبت منذ إندلاع الحرب فى سوريا على مهاجمة أهداف غير معلنة دون تدخل من الجيش السورى الذى كان منهمكا فى المعارك الداخلية ضد المعارضة المسلحة. ومن المرجح أن تغير ميزان القوى العسكرى فى الأشهر الأخيرة لصالح نظام دمشق، خاصة منذ إستعادته السيطرة على حلب، كبرى المدن السورية، فى 22 ديسمبر الماضى، هو ما حدا به للرد لأول مرة على الهجمات المتكررة للطيران الإسرائيلى على أهداف تخص أساسا ميليشيات حزب الله اللبنانى المتحالفة معه. والواقع أن تدخل إسرائيل فى النزاع السورى، من خلال عشرات الغارات الجوية، لم يستهدف الأطراف السورية، وإنما تركز تحديدا على حزب الله بإعتباره ذراع إيران العسكرى فى سوريا، وفقا لتصور تل أبيب. ولذلك فإن القصف الإسرائيلى إنصب على بعض قيادات الحزب العسكرية وشحنات الأسلحة المتطورة التى يعتقد أن طهرانودمشق تمدان بها الحزب، دعما لمركزه على الساحة السياسية الداخلية فى لبنان وإستعدادا لإستخدامها فى مواجهة عسكرية محتملة مع إسرائيل. ولذلك، فإن القصف الإسرائيلى كان يستهدف منع شحنات الأسلحة المتطورة من الوصول إلى قواعد الحزب فى لبنان. وقد تواترت الأنباء أن الغارة الإسرائيلية الأخيرة كانت تسعى لمنع شحنة من الصواريخ المتطورة القادمة من كوريا الشمالية عبر إيران من الوصول إلى لبنان. وقد إستهدفت إسرائيل من قبل شحنات من الأسلحة المتطورة كانت فى طريقها إلى قواعد الحزب فى لبنان مثل بطاريات الصواريخ أرض-أرض والصاروخ الروسى أرض-بحر "أونيكس" والطائرات بدون طيار والقذائف وأجهزة الرادار وتحديد المواقع الجغرافية. لكن العديد من المصادر العربية تؤكد إن حزب الله نجح فى نقل الكثير من تلك الأسلحة بالفعل، برغم الغارات الإسرائيلية. ولا تخفى إسرائيل أن مصادر الخطر الأساسية بالنسبة لها تنبع من إيران وحليفها حزب الله، وهما متواجدان عسكريا بكثافة فى سوريا المجاورة حيث يقدمان دعما قويا لنظام الرئيس بشار الأسد. وقد أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو فى منتصف مارس إن "أكثر من 80% من مشاكل إسرائيل الأمنية الأساسية مصدرها إيران". ويرى قادة إسرائيل إن طهران هى العدو الأساسى وإنها تتجاوز الفلسطينيين وحركة حماس فى الأهمية والخطورة، نظرا لقدراتها العسكرية والإقتصادية الأعلى ولتصاعد نفوذها فى الشرق الأوسط وبعض الدول العربية خلال السنوات الأخيرة وهو ما يعطيها قدرة أكبر على المناورة والتحرك الخارجى. وهم يعتقدون أن تغير الأوضاع لصالح دمشق فى الأشهر الأخيرة، بفضل التدخل العسكرى الروسى منذ سبتمبر 2015، سوف يصب فى مصلحة طهران وحزب الله. وأكثر ما تخشاه إسرائيل فى هذا الصدد هو أن يتحول نفوذ هذين الطرفين إلى تواجد عسكرى دائم قرب حدودها الشمالية فى منطقة الجولان السورية المحتلة وأن يتمخض ذلك عن نشاط عسكرى مناوىء لها فى منطقة تميزت بالهدوء منذ حرب أكتوبر 1973. وقد رصدت إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة، وهو ما أكدته مصادر سورية محلية، تزايد تواجد ميلشيات شيعية مرتبطة بإيران وحزب الله، فى مرتفعات الجولان جنوب غرب سوريا، وهى أساسا ما يطلق عليها إسم "حركة النجباء". وهى قوات عسكرية عراقية شبه نظامية نشأت عام 2013 وحاربت تنظيم داعش فى العراق، ضمن قوات "الحشد الشعبى" الشيعية التى تدربها وتسلحها إيران. وقد إنتقل جزء منها إلى سوريا منذ 2013 حيث شارك بجانب نظام دمشق فى معركة حلب، حتى إستعادتها فى ديسمبر. وقد أعلنت تلك الميليشيا تشكيل "لواء تحرير الجولان" فى منتصف مارس 2017. وتعتقد تل أبيب إن طهران هى التى خططت لتلك التطورات وإن عناصر من "الحرس الثورى" الإيرانى قد تسللت هى الأخرى إلى الجولان توطئة لبناء تواجد عسكرى دائم، مستفيدة من ضعف الدولة السورية ومن الوضع الخاص الذى تتمتع به داخل سوريا بفضل الدعم الذى تقدمه لدمشق منذ سنوات. ولم تأل إسرائيل جهدا فى محاولة الإستفادة من تلك التحركات التى شددت على أنها تمثل مخاطر كبيرة على أمنها. فحاول نتانياهو خلال زيارته للولايات المتحدة فى فبراير أن يحصل على إعتراف من الرئيس دونالد ترامب بضم إسرائيل للجولان الذى أعلنه الكنيست عام 1981. وهو القرار الباطل الذى لم تعترف به أى دولة. لم يكن من الممكن لإسرائيل أن تستمر فى توجيه ضربات جوية لحزب الله دون الحصول على موافقة ضمنية من روسيا، منذ تدخلها العسكرى فى سوريا فى نهاية سبتمبر 2015. وهو ماحصل عليه نتانياهو خلال زيارته لموسكو بعد أيام قليلة من إرسال روسيا قواتها لمساندة نظام دمشق. كانت تلك الموافقة ضرورية لمنع أى حوادث إشتباك بين الطائرات الإسرائيلية ونظيرتها الروسية فى المجال الجوى السورى ولتفادى إستهداف مظلة الدفاع الجوى التى أقامتها موسكو فوق مناطق سيطرة نظام دمشق للطائرات الإسرائيلية. وقد سعى نتانياهو أثناء زيارته الأخيرة لموسكو فى 9 مارس للحصول على وعد من الرئيس فلاديمير بوتين بمنع إيران وحزب الله من إقامة تواجد عسكرى دائم فى سوريا بعد أن تضع الحرب أوزارها، وهو ما تعتقد تل أبيب إنه أمر قريب الحدوث. ولا يبدو أن نتانياهو قد نجح فى الحصول على هذا الوعد. فإذا كانت موسكو تعتقد إنه ينبغى التجاوب مع بعض المتطلبات الأمنية لإسرائيل، مثل منع حزب الله من الحصول على أسلحة متقدمة قد تؤدى لاحقا إلى حرب جديدة مع تل أبيب مثل تلك التى إندلعت عام 2006، فإن بوتين يرغب كذلك فى الحفاظ على صلاته الجيدة مع إيران، التى يتم التنسيق معها بشأن المعارك فى سوريا. وهو ما يتم كذلك مع حزب الله. :كما أن روسيا تحتفظ بعلاقات إقتصادية قوية مع إيران، التى يعتمد برنامجها النووى على التكنولوجيا الروسية. وإذا كانت موسكو ترى إن من مصلحتها كبح جماح إيران فى الشرق الأوسط بعد تبدل الأمور لصالح نظام دمشق، وذلك خوفا من إحداث توترات وإثارة نزاعات مسلحة جديدة، فإنه ليس من مصلحتها كذلك منح أفضلية خاصة لحليف الولاياتالمتحدة الرئيسى فى المنطقة. ومن المرجح أن يسعى بوتين لإيجاد توازن بين مصالح إيران وإسرائيل للحفاظ على أكبر قدر ممكن من الأوراق الإقليمية فى يده، خدمة لمصالح بلاده. إن نجاح موسكو فى إدراك هذا التوازن الصعب فى منطقة شديدة التوتر والإضطراب يتوقف كذلك على سياسة الولاياتالمتحدة الجديدة فى الشرق الأوسط والتى لم تتضح معالمها بعد. لمزيد من مقالات د. هشام مراد;