مضى علىّ أكثر من عامين، لم أكن أستطيع أن أغادر القاهرة إلا فى أحوال استثنائية، ولم يكن ذلك بسبب زهدى فى السفر أو رغبتى فى البقاء داخل جدران منزلى، وإنما لما لا رد لقضائه، وهو مرض زوجتى الذى تطاول وأجبرنى على البقاء لرعايتها إلى أن أراحها الله من آلامها فغادرتنى فى مساء الثالث من مارس الماضى، تاركة فى نفسى مشاعر متضادة، فمن ناحية كانت هناك مشاعر الألم والحزن على الفراق واحتمال لوعته، خصوصا مع امرأة تحملتنى حوالى نصف قرن من الزمن، كانت فيه نعم الزوجة والزميلة والصديقة والأم الحنون، ومن ناحية مقابلة كانت هناك مشاعر الراحة العاجزة بسبب انتهاء آلامها ومعاناتها من المرض اللعين وانتهاء معاناتى معها. ولكن ما بين هذين النقيضين لم أكن على ما أنا عليه، فقد ذهب عنى الكثير مما كان يحبب إلىّ الحياة والرغبة العنيدة فى مقاومة كل ما يحول بينى وبين الاستمرار فى مقاومة شرورها ومفاسدها والتصدى لكل ما يحول بين الإنسان وأن يعيش كريما فى العالم الذى استخلفنا الله عليه، كى نكون مصدرا للسعادة وحراسا للعدالة والحرية فيه، مقاومين كل ما يحول بين البشر وحرية اختياراتهم لكى يعيشوا متساوين فى الحقوق والواجبات دون تمييز. ...................................................... وكان لا بد أن يصيبنى الاكتئاب وأن تغادرنى الرغبة فى فعل أى شىء. وبعد أن عدت من قبر زوجتى التى وضعتها فيه إلى جوار ابنتنا التى سبقتنا إلى القبر الذى بنيته للعائلة لم يعد للحياة عندى طعم ولا معنى، وضاعت منى الرغبة فى مواصلة ما أنا فيه، فاستسلمت إلى حالة يائسة من السكون والوحدة والصمت الذى يتيح لى إعادة النظر فى حياتى كلها. ولكن أخرجنى من هذا كله إلحاح كريم من أصدقاء قدماء طالبونى بأحد حقوقهم علىّ، وهو الذهاب إلى تونس ومشاركتهم فى وقائع حفل افتتاح معرض الكتاب التونسى الدولى، فى دورته الثالثة والثلاثين لسنة 2017. وكان الإلحاح حاسما، بحيث لم أستطع إلا قبوله. وهكذا وجدتنى أركب الطائرة مغادرا إلى تونس فى الثالث والعشرين من مارس الذى لم ينته بعد، وجلست فى الطائرة اقرأ الجرائد التونسية، ووقعت عينى أول ما وقعت على جريدة «الشروق» بصفحاتها العديدة، وكانت إلى جانبها جريدة «الصباح»، وشدتنى جريدة «الشروق» بصفحاتها السياسية، وأخذت اقرأ عن رؤى الأحزاب السياسية الموجودة، وكان أول ما طالعنى ولفت انتباهى مقال للأستاذ بلقاسم حسن عضو المكتب السياسى لحركة النهضة، وهى الحركة المعادلة لجماعة الإخوان المسلمين بمكاتبها العديدة فى مصر. وكان المقال بعنوان: «الرؤية الجديدة للإسلاميين الديمقراطيين»، وكان الموضوع عن «الديمقراطية الإسلامية»، ووجدت نفسى منجذبا إلى العنوان حريصا على مطالعته فى فضول سائلا نفسى: هل يمكن أن تكون هناك ديمقراطية إسلامية حقيقية لا تعرف التمييز بين المواطنين، وتضع المواطنين جميعا موضع المساواة على اختلاف أديانهم وعقائدهم ومذاهبهم السياسية ومواقعهم الطبقية؟ وقلت لنفسى: فلاقرأ المقال وأبحث لنفسى عن إجابة يمكن أن يقدمها عضو المكتب السياسى لحركة النهضة، وكانت بداية المقال عن الديمقراطية المسيحية فى أوروبا الغربية من حيث هى تيار سياسى ذو مرجعية دينية عامة ملتزمة بالمبادئ الديمقراطية المتمثلة فى سيادة الشعب والتعددية فى قيم المواطنة والتداول السلمى للسلطة عن طريق الانتخابات. وأخذ المقال يعرض للديمقراطية المسيحية فى ألمانيا، حيث يتولى الحزب الديمقراطى المسيحى الحكم بقيادة أنجيلا ميركل وقبلها هيلموت كول وقبلهما قادة آخرون تولوا الحكم بعد الحرب العالمية الثانية بالتداول مع الحزب الكبير المقابل، أعنى الحزب الاشتراكى الاجتماعى الديمقراطى، وذلك فى موازاة الحزب الموازى فى إيطاليا، وهو الحزب الديمقراطى المسيحى بوصفه أكثر الأحزاب توليا للحكم منذ بداية الحرب العالمية الثانية. ويؤكد المقال أن أمثال هذين الحزبين فى أوروبا ليست أحزابا للكنيسة ولا أحزابا ثيوقراطية، بل هى أحزاب حداثية ديمقراطية تعتبر المسيحية من بين مكونات مجتمعاتها ومن بين مكونات هويات شعوبها، ولا تقتصر على ألمانياوإيطاليا فحسب، فهى موجودة فى بلجيكا وكانت لها امتدادات فى فرنسا وهولندا، وإن كان الكثير من أحزاب أوروبا المستقلة كأحزاب اليمين والوسط تؤكد اعتبارها المسيحية أحد أركان الانتماء وإحدى ركائز الهوية فى بلدانها، بل أكثر من ذلك تتجاوز المسيحية الثقافة اليهودية المسيحية بشكل عام فى تأكيد التزامها بمبادئ سيادة الشعب والديمقراطية والتعددية والتداول السلمى للسلطة وقيم المواطنة والمدنية والحداثة. وقد دخلت فى صراعات مجتمعية حادة مع أقصى اليمين وأقصى اليسار مقابل تحالفها أكثر من مرة وفى أكثر من بلد، خصوصا إيطالياوألمانياوبلجيكا، مع بعض أحزاب الوسط وبعض أحزاب اليسار الاجتماعى على قاعدة برامج حكم وتفاهمات. ويمضى المقال مبررا ما تطرحه حركة النهضة فى تونس، الآن، من تصور جديد للعمل السياسى على أساس من القواعد التالية: 1- اعتبار المرجعية الإسلامية من أهم المرجعيات الفكرية والثقافية، وذلك على أساس من أن تعاليم الإسلام والهوية العربية للشعب هى من أهم ركائز الدستور التونسى الجديد، وذلك بالقدر الذى كانت به حركة النهضة من أهم القوى التى أسهمت فى صدوره عبر توافق وطنى واسع. 2- يؤكد التصور السابق الأساس الذى يسمح بمدى تحالف هذه القوى مع باقى القوى الاجتماعية المعتدلة، ويضعها فى موضع العداء مع القوى المقابلة التى تمتد من الإرهابيين والغلاة والمتشددين أمثال داعش والقاعدة وأنصار الشريعة والسلفية الجهادية وغيرها من الجماعات الأصولية والسلفية العلمية وحزب التحرير والإخوان المسلمين وغيرها من الأحزاب ذات النشاط الوطنى المحلى، دون أي امتدادات خارجية ولا انتماءات تنظيمية، خارج حدود أوطانها كما هو حال حزب العدالة والتنمية فى المغرب الأقصى أو حزب حركة النهضة فى تونس.3- الإسلام السياسى عبارة فضفاضة وحاملة معان، قصدها وضع الجميع تحت العباءة نفسها فى خانة واحدة على الرغم من الاختلافات الجوهرية العميقة بينها، سواء أكانت من القوى التكفيرية والإرهابية والمتطرفة التى تدعى الانتماء للإسلام، وهو منها براء، كما أنها أقرب ما يكون إلى اليمين المتطرف فى أوروبا، من حيث الانغلاق الفكرى، أو إلى النازية والفاشية من حيث الممارسة، فأى إسلام هذا؟!. الإسلام دين الرحمة والسماحة والاعتدال والوسطية والتعاون والعلم النافع والعمل الصالح والحكمة والموعظة الحسنة؟. وكيف يمكن تصنيف هذه القوى فى خانة الإسلام السياسى مع قوى أخرى تعتبر المرجعية الإسلامية من بين مرجعياتها الأخرى، ومنها الديمقراطية والتعددية والمواطنة والمدنية والإصلاح والحداثة. ولذلك تطرح حركة النهضة اليوم موضوع الديمقراطية الإسلامية أو الإسلام الديمقراطى أو «المسلمين الديمقراطيين» لتأكيد التزام هذه القوى بتعاليم الإسلام، ضمن مرجعياتها المتمسكة بسيادة الشعب أولا، وبأولوية الدستور ثانيا، والمبادئ الديمقراطية ثالثا، والتعددية بكل معانيها رابعا، والتداول السلمى على السلطة عن طريق الانتخابات خامسا، ولتأكيد أن مفهوم الإسلام السياسى الذى يراد به وضع الجميع فى جبته أصبح بلا معنى وبلا عنوان. ولذلك يختصر صاحب المقال - بوصفه عضو المكتب السياسى لحركة النهضة - عنوان الديمقراطية الإسلامية بوصفه عنوانا دالا على جماعات أو جماعة تيار النهضة الإسلامى بوصفه تيارا ديمقراطيا إسلاميا تؤكد به حركة النهضة حضورها، لكن من خلال مقررات ولوائح مؤتمرها الوطنى العاشر الذى حسم التطور التاريخى والفكرى والسياسى للحركة منذ عقود، وأصبح واقعا ممارسا تجلت مواقفه وممارساته منذ نجاح ثورة 17 ديسمبر ثم انتخابات المجلس الوطنى التأسيسى ثم انتخابات مجلس نواب الشعب، فى سياق الحوار الوطنى والتوافق السياسى وروح التشارك المجتمعى الواسع فى إنجاح المسار الديمقراطى ودعوة كل القوى الوطنية الديمقراطية إلى العمل بكل وطنية ومسئولية لإنجاح المسار التنموى. هذا هو اختصار أمين– فيما أرجو- لما كتبه الأستاذ بلقاسم حسن عضو المكتب السياسى لحركة النهضة عن الرؤية الجديدة للإسلاميين الديمقراطيين. وبعد أن قرأته سألت نفسى عن مدى تطابق أفكاره مع أفكار السيد راشد الغنوشى الذى سبق أن قابلته منذ سنوات فى تونس بعد الثورة، وكنت عضوا فى الوفد الذى تشكل من أعضاء الصالون الثقافى العربى برئاسة المرحوم يحيى الجمل لكى نتعرف على التجربة التونسية التى وصلت للحكم فى تحالف مع القوى الوطنية الأخرى فيما يسمى «الترويكا»، ويومها قابلنا رئيس الجمهورية، وكان هو صديقى القديم المنصف المرزوقى إلى جانب راشد الغنوشى الذى كان يمثل حزب النهضة التونسى حين كان هذا الحزب موازيا لجماعة الإخوان المسلمين فى مصر وأذكر أننى كتبت عن لقائى وحوارى مع الاثنين، الغنوشى والمرزوقى فى هذه الجريدة فى ذلك الوقت الذى لم أعد أذكره تحديدا لعدم اعتمادى فى أثناء الكتابة الآن على مدونات تاريخية، وإنما أكتب عفو الخاطر، لكن ما أنا على ذكر منه هو أننى كنت أشعر بقوة أن الغنوشى فى انتمائه الإسلامى يعطى لكل ما يريد أن يسأله الإجابة التى يتوقعها منه، وكان رأيى الداخلى أنه رجل يعطى لكل من يريد ما يريحه، فيتحدث بلغات عديدة يمكن أن تكتسب نبرة ديموقراطية أو اشتراكية أو مدنية أو حتى حداثية على حسب هوى الطرف الذى يحاوره وتصوراته المسبقة. فهو اشتراكى مع الاشتراكيين، وديمقراطى مع الديمقراطيين، داعية دولة مدنية حديثة مع دعاتها، داعية إلى الحداثة مع الحداثيين. ولم أشعر فى حوارى مع صديقى القديم المنصف المرزوقى باستمرار الأفكار نفسها التى كان عليها أيام كنت أدعوه إلى مكتبة الإسكندرية فى تلك السنوات القليلة التى كنت مكلفا بتنظيم مؤتمراتها الفكرية بطلب من الصديق العزيز الدكتور إسماعيل سراج الدين. باختصار كنت أدرك أننى أمام تونس أخرى مختلفة عن تونس التى كانت موجودة أيام حكم الترويكا أو التحالف الثلاثى، ولا بد أن تكون تونس مختلفة عما كانت عليه من قبل. وما إن نزلت من الطائرة وأنهيت إجراءات الجوازات وخرجت إلى الطريق حتى أدركت أن هذه تونس ثالثة تختلف عن تونس الغنوشى والمرزوقى وتونس على بن زين العابدين وبورقيبة. وبعد أن نزلت فى الفندق الذى اعتدت النزول فيه حتى لاحظت الاختلاف فى الميدان القريب من الفندق الذى يطل على شارع بورقيبة، حيث تجمعت الملايين التى ابتدأت ثورة تونس والربيع العربى على السواء الذى لسوء الحظ لم يعد ربيعا عربيا وإنما صار إلى شىء هو النقيض تماما من كلمة الربيع. لكن كانت أولى الإيجابيات التى لاحظتها عيناى عودة تمثال بورقيبة راكبا حصانا كما كان عليه الحال قبل أن يقوم على زين العابدين بهدمه. فأعادته الدولة الجديدة ولكن إلى جوار ذلك النصب الذى أراد به على زين العابدين أن يضعه موضع تمثال بورقيبة. وما إن استرحت فى الفندق من وعثاء السفر (ولم يعد فى هذا الزمن للسفر وعثاء كما كان القدماء يقولون، وبالمناسبة فالوعثاء هى المشقة والتعب من الوعث وهو المكان الرملى الذى تغوص فيه الأقدام وتتحرك بمشقة)، حتى خرجت إلى شارع الحبيب بورقيبة كى أرقب الناس فى الطريق وأتأمل الوجوه والأزياء، وهذا ما تعودت أن أفعله بعد أن أخذت عيناى تتعود على انتشار الحجاب والنقاب بين النساء حولى فى مصر أينما ذهبت. وأشهد أن الحال فى تونس كان مختلفا كل الاختلاف، فأول ما لحظته عيناى بعد عودة تمثال بورقيبة إلى ما كان عليه فى الشارع الذى لا يزال يحمل اسمه هو أزياء النساء التى لم تتغير كثيرا، فلم أر فتاة أو امرأة محجبة أو منتقبة، فكلهن حولى سافرات سواء داخل الفندق أو خارجه، وتطلعت إلى الإعلانات الموضوعة فى الشارع فوجدتها لا تشير إلا إلى بلد يمكن أن نطلق عليه بلدا مدنيا ديمقراطيا حديثا بكل معنى الكلمة. فعناصر الدولة المدنية موجودة، ابتداء من المواطنين وانتهاء بنظام الحكم. وعاد ذهنى إلى الشارع نفسه الذى مضيت أرقب إعلاناته وأزياء النساء فيه فى آخر مرة زرت فيها تونس العاصمة، إذ لم تتغير المبانى التى اعتدت عليها ولا حتى أزياء الرجال والنساء، وكنت أرقب أجيال الشباب من حولى وأرى فى وجودهم العزم والبحث عن آفاق جديدة، وذلك بالقدر الذى كنت أرقب المرأة التونسية التى تمضى حولى فى عجلة أحيانا وبطء أحيانا أخرى. وقدر ما كنت أرقب حركة الناس، كنت أتذكر أن حيوية الحياة السياسية الاجتماعية التونسية تعتمد على قطبين أساسيين: أولهما قوة الاتحاد العام للشغيلة، وثانيهما الحركة النسائية التى كانت مع الاتحاد العام للشغيلة السبب الأساسى فى إسقاط الترويكا وإبعاد الجماعات الإسلامية (بما فيهم الإسلاميون الديمقراطيون) من الحكم. فقد خرجت النساء التونسيات ثائرات محتجات مع العمال لاستعادة الحقوق واستعادة تونس الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. وقد نجحوا فى ذلك. وكأنما أصبح الحضور الموجود للديمقراطية والتعددية يكمل نفسه بالأزياء الموجودة فى الطرقات، ابتداء من سفور المرأة الذى لا يزال يعنى سفورها وجها وعقلا. ولكنى لم أستطع التجول كثيرا، فقد كنت مرهقا، ولذلك عدت إلى الفندق وسرعان ما استغرقت فى النوم لاستيقظ فى الصباح كى أذهب إلى حفل افتتاح معرض الكتاب التونسى الدولى، وهناك كانت المفاجأة المبهجة، إذ وجدتنى على رأس المكرمين فى حفل الافتتاح، ويتولى السيد رئيس الوزراء التونسى الدكتور «يوسف الشاهد» منحى الدرع الخاص بالمعرض، فأخرج إلى المنصة وأتبادل معه التحية وأسمع منه كلمات رقيقة مثل تلك التى سمعتها من الدكتور محمد زين العابدين وزير الثقافة ومن صديقى العزيز (الذى هو من تلامذتى بمعنى غير مباشر) الدكتور شكرى المبخوت ومن بقية الأصدقاء الذين دبروا هذه المؤامرة المبهجة لإخراجى من أحزانى، وردى إلى ما يبعث البهجة فى نفسى. وهل هناك بهجة أكثر من أن تجد الأصدقاء يهتمون بك ويشعرون بآلامك وأحزانك ويشتركون جميعا فى مؤامرة لإعادتك إلى طريقك الذى اعتدت أن تمضى فيه، وهو طريق الفكر والثقافة. هكذا كنت أشعر وأنا أرى بسمة الاحترام والتقدير فى عينى رئيس الوزراء التونسى ووزير الثقافة وعينى شكرى المبخوت الذى أعتز بقربه إلى نفسى وقربى إلى نفسه. فقد كان يجلس إلى جوار صديقى القديم والأعز حمادى صمود وعدد من الأصدقاء التونسيين والعرب. ومرت لحظات التكريم سريعا وأخذت أصفق لبقية المكرمين، سواء من الذين كرمهم وزير الثقافة أو الذين كرمهم مدير معرض الكتاب. وانتهى حفل التكريم وخرجت عارفا بفضل الجميع، متذكرا أننى بفضل هؤلاء الأصدقاء وغيرهم، حصلت على الوسام الثقافى التونسى من رئيس جمهورية تونس، فى المعرض نفسه فى أكتوبر 1995. واستعدت سعادتى السابقة بالحصول على هذا الوسام. وها أنذا أشعر مرة أخرى بهذه السعادة الغامرة بما يفعله بنا الأصدقاء الأعزاء من المثقفين العرب فى كل أرض عربية. فمن المؤكد أننى نلت من صور التكريم خارج مصر أكثر مما نلته فى مصر وطنى. وهكذا مضى يوم الافتتاح فى لقاءات وحوارات، كانت نوعا آخر من التكريم والتحية. وجاء اليوم الثانى وإذا بى أجد نفسى مرة أخرى محاطا بمن لم أقابلهم من الأصدقاء فى مأدبة أقامها صديقى العزيز عبد المجيد الشرفى رئيس بيت الحكمة. وكانت المأدبة هى نفسها مؤامرة أخرى من المؤامرات غير المتوقعة، وذلك للاحتفال بإكمال عامى الثالث والسبعين. وصرت أسمع كلمة «happy birth day» فى أحد مطاعم قرطاج الساحرة، وتكاد تدمع عيناى من فرط شعورى بالسعادة وذهبت إلى الفندق وأستغرقت فى النوم البهيج ناسيا كل أحزانى، مترحما على زوجى التى كان لها الفضل فى كثير مما وصلت إليه من محبة الناس واحترامهم واحتفائهم بما أنجزته فكريا فى تيار الاستنارة الذى ما أزال على العهد نفسه فيما بدأته منذ سنوات طويلة. فتحية منى إلى كل أصدقائى وزملائى وتلامذتى فى تونس الخضراء التى هى من أحب البلدان إلى نفسى.