قرأت ما حفلت به الأهرام في الأيام الماضية من مقالات عن الراحل الكبير السيد يسين كتبها محبوه وزملاؤه وتلاميذه.. كشفت هذه المقالات عن السمة الرئيسية التي كانت تميز الراحل الكبير - وهي أنه كان في الأساس باحثا ويستهويه البحث في عمله - بحيث يصرفه عن إغراءات الحياة يكرس وقته الذي هو حياته في البحث والتنقيب والقراءة والغوص في أعماق الفكر الإنساني وإبداعاته، أما السمة الأخري التي تكشفت لي ليس فقط من خلال ما كتبه عنه كل من كتبوا وهم كثيرون- ولكن أيضا مما قرأته له وسمعته منه شخصيا عندما كنا ندعوه للتحدث في المجلس المصري للشئون الخارجية، فألحظ مدي موسوعية اهتماماته، التي تأخذه من عالم الإستراتيجية وصراع القوي، إلي عالم البحث في شئون المجتمع... إلي الأبحاث المستقبلية، فاستطاع الدكتور يسين أن يقود مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية لقرابة العشرين عاما باقتدار، وأن يظل في نفس الوقت مساهما ومشاركا فيه حتي اللحظة الأخيرة. هنا تظهر شخصية الرجل القيادية الذي يعمل ويوجه ويحث زملاءه علي المزيد من الاطلاع والقراءة ومن خلال ذلك يعمل دائما علي فتح آفاق جديدة للمؤسسة التي يقودها، والتي أحدث بها تلك النهضة الكبيرة في تطور هذا المركز العتيد والذي يظل هو البداية المصرية في عالم مراكز البحث الاستراتيجي، وأعني مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية، ومن أهم ما أحدثه المركز بقيادته هو تخريج هذه الكوكبة من الباحثين والكتاب الذين أصبحوا نجوما في مجالهم وتتلقفهم الفضائيات وغيرها من أدوات الميديا. خرجَت أو تخرجت فى عباءة المركز في عهد السيد يسين شخصيات لعبت وتلعب دورا مهما في الحياة العامة، مثل صديقي الدكتور أسامة الغزالي حرب، الذي شارك معنا في تأسيسي المجلس المصري للشئون الخارجية وأصبح أحد رموزه. كان السيد ياسين في طليعة جيل الكتاب الذين تقوم كتاباتهم علي البحث العلمي فأنتج ما أنتج وألف ما ألف من خلال البحث العلمي ابتداء في الشأن الاجتماعي ثم في الشئون الإستراتيجية والسياسية واستشراف المستقبل، هذا هو الجيل الذي ظهر مع إنشاء معهد البحوث الجنائية والاجتماعية، وظهور كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وربما كان السيد ياسين هو في طليعة هؤلاء. ومن هنا فإن كتاباته كانت تتسم بالطابع العلمي الذي امتزج بملكة الكتابة والأسلوب الأدبي الرصين.. جمعتني مع الراحل الكبير عضوية المجلس الأعلي للثقافة وكان مقعده في الأغلب قرب مقعدي مما أعطانا الفرصة للتواصل الإنساني بالحديث. وفي إحدي المرات.. فاجأني بأن قال لي: هل تعرف أنني أعرفك من زمن طويل.. منذ أيام فترة الدراسة بمدرسة دمياط الابتدائية حين كنا نذهب سويا من عزبة البرج إلي دمياط.. وكنتم تمرون علينا في مسكننا بقسم السواحل لتأخذونا معكم في السيارة التي تقل الطلبة إلي دمياط... عند هذه النقطة في الحديث.. قلت له أنت إذن ابن القومندان الذي كان يرأس قسم خفر السواحل في عزبة البرج، فأجابني بابتسامته الرقيقة التي كانت تميزه نعم يا سيدي أنا ابن القومندان، فرددت عليه.. ها نحن نلتقي بعد طول غياب، زمناً لا يعد بالسنوات بل بالعقود. وتذكرت هذه الصباحات الممطرة في شتاء عزبة البرج القارس قبل أن تهبط عليه نازلة التغير المناخي التي أصابتنا وأصابت العالم. عندما كنا نبدأ الرحلة اليومية إلي المدرسة قبل السابعة صباحا لتتوقف بعد كيلو متر واحد في الطريق الترابي إلي دمياط بينما السائق «الحاج عوض» ينادي هل حجزتم مكانا لأبناء القومندان، ثم نتوقف عند مباني «السواحل» التي لابد أنها بنيت في القرن التاسع عشر، لتضم مسكن القومندان ومكاتب الإدارة وهي الآن من بين المباني الأثرية التي تنتظر دورها من أجل إنقاذها. كان يسين أو «الأستاذ السيد» كما كانوا يلقبونه في مركز الدراسات يتحدث في المجلس الأعلي للثقافة بصوته الخفيض وبأسلوبه الرشيق ينصت له الجميع ويتحدث دائما في صلب الموضوع ولا يحيد عليه مقترحا أو مضيفا ودائما بما يثري النقاش. فاجأني خبر رحيل الباحث والمفكر الكبير بينما كنت أتأهب للكتابة عن راحل آخر من أعضاء المجلس الأعلي للثقافة هو المرحوم الأستاذ الدكتور مصطفي العبادي أستاذ التاريخ ،اليوناني الروماني الذي كان يحلم منذ أكثر من نصف قرن بإعادة إحياء مكتبة الإسكندرية وقد أفردت له مجلة الإيكونوميست في عددها الأخير صفحة كاملةً متحدثةً عن دوره في الدعوة إلي إحياء أم المكتبات أي مكتبة الإسكندرية والذي لم ينتبه الإعلام لرحيله. لكن الإيكونوميست كواحدة من أهم الدوريات العالمية تذكرته ولقد كان المرحوم الدكتور عبادي- كشأن الدكتور السيد يسين- عالما متجرداً للعلم وزاهدا في بريق الحياة... وبينما أترحم اليوم علي هؤلاء الأعلام أتساءل عن الفراغ الموحش الذي يتركونه للأجيال التالية. وكم أدعو الله لأن تهبنا مصر الولادة ما يعوضها عنهم ويقطع الوحشة، ويضيف الجديد والمبدع في مشوار مصر نحو التنوير.. نحو تحقيق آمال ابن القومندان العالم الموسوعي والمؤرخ العلّامة الدكتور مصطفي العبادي ابن الإسكندرية وممثل حضارة الإغريق والبحر المتوسط في بلاد وادي النيل. لمزيد من مقالات عبدالرءوف الريدى;