يستحق هذا اللقب عن جدارة، ليس فحسب لأنه كرس حياته للبحث والمعرفة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاستراتيجية، ولكن أيضا لأنه صاحب ومؤسس مدرسة في البحث العلمى السياسى والاستراتيجيى والثقافى، أى منظومة متكاملة من التقاليد العلمية العرفية والمكتوبة والملتزمة بالوطنية المصرية وامتدادها القومى العربى وتاثير وإشعاع تجاوز الحدود الوطنية وغمر الفضاء القومى، إنه أستاذنا الفاضل السيد يسين، وكما كان الراحل الكبير الأستاذ «هيكل» يفضل دائما أن ينعت نفسه «بالجورنالجى» فكذلك السيد يسين هو الباحث دائما عن المعرفة والأفكار والجديد فى هذا العالم المثير للدهشة أى عالم الفكر. «وسلطان» الباحثين كسلطان العاشقين وسلطان العارفين، رغم ما بينهما من تباعد، حيث يتركز اهتمام الباحث بالأرض والعمران والبشر والاجتماع، ويتركز اهتمام العارف والعاشق حول السماء، وبين معشر الباحثين وعلى رأسهم الأستاذ السيد يسين ومعشر العاشقين والعارفين صلات غير منظورة رغم تباعد الاهتمامات تجمع بينهم، أولاها: البحث عن الحقيقة النسبية فى حالة الباحثين أو الحقيقة الجزئية أو خطوات فى الطريق إلى الحقيقة، فى حين أن العاشقين والعارفين يبحثون عن الحقيقة الكلية السرمدية الأزلية الأبدية، أى الحقيقة الإلهية والتوحد معها وبها من خلال المفاهيم الصوفية كالكشف والتجلي والفيض والفناء، يجمع هؤلاء جميعا الولع بالمعرفة والحقيقة وإن كان فهمهم يختلف ويتباعد ابتعاد الأرض عن السماء وربما يكمل أحدهما الآخر. سلطان الباحثين أى الأستاذ السيد يسين تمكن من أن يجمع حوله مجموعات كبيرة من الباحثين من مختلف الأجيال توسم فيهم جميعا الموهبة والقدرة على حمل رسالته إلى الأجيال المقبلة، تشربوا على يديه تقاليد التكوين المنهجى والبحثى والمعرفى الملتزم. وطنيا وقوميا، هذا التكوين الصارم الذى يحظر الانحياز ويلتزم بالموضوعية طيلة فترة التكوين، أما عندما يستوعب هؤلاء تلك التقاليد بمقدورهم بعد ذلك الإعلان عن انحيازاتهم ولكنها ستكون مؤسسة نظريا يمكن الاتفاق معها أو الاختلاف. هذه المنهجية التى حرص على إرسائها وثورات تقاليدها من خلفوه فى إدارة مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام وأصبحت محفوظة ومتداولة عن اقتناع بضرورتها للبحث والمعرفة أو تقديم الرأى والتحليل فى القضايا الجارية أو تلك القضايا الاستراتيجية المحلية والدولية. عندما تهيأت الفرصة للكثيرين منا للسفر والدراسة بالخارج اعتقد البعض منا أنه قد آن الأوان أن نبتعد عن «عباءة» السيد يسين، أى أن نتعرف على الجديد والتطورات اللاحقة وأن نتطرق إلى قضايا نوعية أكثر إثارة وأهمية، ولكنى اكتشفت بعد سنوات من الفضول والتعلم والبحث أننا لم نبرح بعد عباءة شيخنا الفاضل، فكل ما عرفناه ودرسناه من زاوية التخصص أو زاوية المعارف العامة الضرورية لتكوين أى مثقف قادر على إبداء الرأى، لم يكن فى حقيقة الأمر سوى امتداد لما عرفناه على يديه أو سمعنا به منه فى أوقات متفاوتة سواء عبر اللقاء الأسبوعى الذى كان يجمعنا أو من خلال اللقاءات المنفردة به، حيث كانت أذهاننا قد تفتحت على علم اجتماع المعرفة ومنهجية التحليل الثقافى وتحليل الخطاب والتحليل الإستراتيجى وعلم الاجتماع، ولم نفعل خلال سنوات الدراسة بالخارج سوى الاقتراب، أكثر من هذه المجالات. كانت منهجية السيد يسين ترفض التخصص بالمعنى الأكاديمى الضيق وترى أن الظاهرة الاجتماعية والإنسانية كل مترابط ووحدة مترابطة تتأثر عناصرها بعضها بالبعض الآخر، وكانت تركز على الإنسان والمجتمع وترابط كل المجالات المرتبطة بهما واقعيا وعلميا، وأن تكوين الباحث العلمى والمنهجى يسمح له ويؤهله لدراسة أى جانب فى الظاهرة الإنسانية والاجتماعية، كانت هذه قناعته التى اقتنعنا بها فى الممارسة العملية والبحثية، واكتشفنا أهميتها وشمولها وفعاليتها فى البحث والتأمل والنقد. لا تجده إلا فى حالة حوار أو قراءة أو كتابة وهذه الحالات الثلاث مرتبطة إحداها بالأخرى، ففى حالة الحوار والتفاعل مع الآخرين كانت حالة تحضيرية يقلب فيها الأفكار مع الآخرين ويتيقن من مقبوليتها وتأثيرها فيمن حوله، أما الحالة الثانية أى القراءة، فهى عملية ضرورية للباحث وللتفكير، فمن يتوقف عن القراءة والمتابعة يخرج من نطاق البحث، أما الحالة الثالثة أى الكتابة فهى المرحلة التى تخرج فيها الأفكار إلى النور وتصبح عندئذ فى ذمة القارئ ووعيه وتقييمه. يعتبر الأستاذ السيد يسين من المنافحين وبقوة واستمرارية عن الدولة الوطنية والمدنية فى كل حالاتها، فهى من وجهة نظره الوعاء الناظم للعمران وتعبير عن حالة الانتقال من القبائلية والعشائرية الى حالة المواطنة والقانون، ومن الولاءات القبائلية والعشائرية والقرابة إلى حالة الحداثة والزمن الحديث، لذلك كنا نراه بعد سيطرة الإخوان على الحكم فى مصر منخرطا بقوة فى الحوار العام مدافعا عن الدولة المدنية ورافضا للدولة الدينية بكل صورها، مفندا الأسس العقائدية والمنهجية التى يستند إليها دعاة الدولة الدينية. تتميز منهجية السيد يسين بالإدارة الديمقراطية للخلاف والاختلاف حول القضايا المطروحة بأسلوب علمى يلتزم بالتقاليد والأعراف السائدة فى الجماعة العلمية، وعلى ذلك فإنه لم يكن يتورع عن تزكية الفكرة الجديدة واللامعة من المختلفين معه، وكان يذهب فى ذلك بعيدا حيث يزكيها شفاهة وكتابة وينسبها لصاحبها دون حرج. نتمنى الشفاء العاجل لأستاذنا الجليل والعودة الحميدة إلى سابق عهده وحالاته التى عهدناها فيه، وهذه الكلمات لا تفى بحق السيد يسين علينا وعلى الجيل الذى أنتمى إليه، وحسبى أنها صادقة ولا تستهدف إلا الاعتراف بفضل من كان لهم السبق فى دفعى وزملائى إلى مجال البحث والأفكار. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد;