وربما كان أوضح الأمثلة على تولد الاستعارة من المشبه به ما نراه في (الإصحاح العاشر والأخير من «سفر ألف دال») الأسطر التالية:الشوارع فى آخر الليل.. آه أرامل متشحات ينهنهن فى عتبات القبور- البيوت قطرة.. قطرة، تتساقط أدمعهن مصابيح ذابلة تتشبث فى وجنة الليل ثم .. تموت! والتدوير العروضى له علاقة بامتداد الجملة التي يأتى خبر مبتدأها الذي يستهل السطر الأول فى مستهل السطر الثاني، فالشوارع أرامل فى آخر الليل. ولكنهن أرامل متشحات بالسواد، ينهنهن بالبكاء على عتبات البيوت التى تبدو كالقبور. وكالعادة، يتحول المشبه به (الأرامل) إلى استعارة مكنية، يتم «ترشيح» صفاتها كى تتجسد حضورا مشخصا، يمتد بصورة المشبه إلى ما يوشك أن ينسينا المشّبه الذي يأتى بها، ويتسبب فى حضورها بما يسمح لها بأن تنمو ذاتيا فى الاتجاه الدلالى نفسه إلى أن تتشبث فى وجنة الليل (استعارة أخري) إلى أن تموت (استعارة أخيرة) مع ضوء النهار. لكن هذا التشبيه وحده لا يكفى الشاعر الذي يأتي – بعد وقفة- بتشبيه ثان يؤكد الأول، فنقرأ: الشوارع فى آخر الليل.. آه خيوط من العنكبوت والمصابيح - تلك الفراشات- عالقة فى مخالبها تتلوي.. فتعصرها، ثم تنحل شيئا فشيئا فتمتص من دمها قطرة.. قطرة. فالمصابيح قوت! ومرة أخري يصل التدوير ما بين البيت الأول والثاني، فالمبتدأ الذي يشهده السطر الأول يأتى خبره فى مستهل السطر الثاني، حيث المشبه به للشوارع (المشبه) التى تغدو خيوطا من العنكبوت، لكن يتحول المشبه به إلى استعارة مكنية. فتغدو للعنكبوت مخالب، فى موازاة المصابيح التى تتحول إلى فراشات، تقع –بدورها- فى خيوط العنكبوت التى تغدو مخالب، تمتص دم الفراشات أو تعتصرها شيئا فشيئا، أو قطرة قطرة، فالمصابيح التى أصبحت فراشات تحولت إلى خيوط لعنكبوت الشوارع. وهو مثال بالغ الدلالة على تحول المشبه به إلى استعارة مكنية موسعة، تتولد من التشبيه الذى لا يتوقف عن التولد والتكرار. وهو الدافع الذي يقف وراء تكرار التشبيه نفسه وتوليده للمرة الثالثة والأخيرة، حيث نقرأ: الشوارع فى آخر الليل .. آه أفاع تنام على راحة القمر الأبدى الصموت لمعان الجلود المفضضة المستطيلة يغدو مصابيح مسمومة الضوء، يغفو بداخلها الموت، حتى إذا غرب القمر: انطفأت وغلى فى شرايينها السمُّ تنزفه: قطرة.. قطرة، فى السكون المميت! ويمتد التشبيه كالجملة الاسمية التى تحمله واصلة السطر الأول بالثاني. ومرة أخيرة يتحول المشبه به إلى استعارة مكنية تتولد عنها غيرها فى انطلاقة الخيال الذي يزداد إيقاعا بترجيع القافية (الصوت، المميت) الملتزم بها عبر التشبيهات المتكررة للمشبه نفسه (الشوارع.. فى آخر الليل) المقترن بالموت أو لوازمه فى كل تجلياته. والموت لازمة من لوازم حضور الأفاعى النائمة على راحة القمر (استعارة مكنية) الساكت أبدا والمنتظر ضحايا حركة الأفاعى التى تلمع جلودها الفضية التى تتحول، استعاريا، بدورها، فتغدو مصابيح مسمومة الضوء، فتنطوى على الموت المتربص فى داخلها، منتظرا أن يتسلل مع غروب القمر، كي يبخ سمه فى السكون الذي يميته هو بقدر ما يميت ضحاياه فى آن. وينطبق الأمر نفسه على قصيدة «مراثى اليمامة»، حيث نقرأ: قلبى صغير كفستقة الحزن.. لكنه فى الموازين أثقل من كفة الموت هل عرف الموت فقد أبيه؟ هل اغترف الماء من جدول الدمع؟ هل لبس الموت ثوب الحداد الذى حاكه.. ورماه؟! فالبداية هى تشبيه القلب الصغير بفستقة الحزن. لكن المشبه هو استعارة تقود إلى ما يتولد عنها من ترشح وتجريد فى آن. وكلاهما يقود إلى أن القلب الحزين صار - بحزنه الغالب - أثقل من كفة الموت فى الموازين. والدليل على ذلك أن الموت لا يعرف معنى الفقد الإنسانى فلا أب لديه، ولم يغترف ماء من جدول دمع اليمامة، وليس لذلك كله من معنى إلا أن التشبيه عند أمل دنقل سرعان ما ينقلب بالمشبه به فى بيته إلى استعارة، تقود - كما فى المثال السابق - إلى نوع من التمثيل الذي ينطوى على معنى التدليل من ناحية والحجاج البرهانى من ناحية موازية. وما أقصد إليه بالتمثيل فى هذا السياق هو ما كان يقصد إليه البلاغيون القدماء، كالخطيب القزوينى الذى عرف تشبيه التمثيل بأنه ما وجهه منتزع من متعدد، أمرين أو أمور. وقيده السكاكى بكونه غير حقيقي، ومثل بصور، مثَّل بها غيره أيضا؛ منها قول ابن المعتز: اصبر على مضض الحسود (م) د فإن صبرك قاتله .. فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله ومنه أيضا قول أبى تمام: وطول مقام المرء فى الحى مخلق لديباجتيه، فاغترب تتجدد فإنى رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد فالتمثيل يعنى تقديم الدليل العقلى فى البيت الثانى على الدعوى التي يطرحها البيت الأول. وليس ثمة فارق كبير، من حيث منطق المحاجة بين بيتى ابن المعتز أو أبى تمام وأسطر أمل التي يستهل بها قصيدته «لا تصالح»: لا تصالح ولو منحوك الذهب أترى حين أفقأ عينيك، ثم أثبّت جوهرتين مكانهما هل تري..؟ هى أشياء لا تشتري فالقضية المطروحة فى السطر الأول هى أن دم كليب أغلى من أى شيء فى العالم، ولذلك لا يمكن استبداله بدية، فمن يقبل الدية فى دم أخيه، كمن يقبل أن يضع جوهرتين مكان العينين كي يري. وهذا أمر مستحيل استحالة أن تعادل أية دية دم الأخ الذى قتل. وممن؟! ولذلك: لا تصالح على الدم.. حتى بدم لا تصالح! ولو قيل رأس برأس أكل الرؤوس سواء؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟! وهل تتساوي يد.. سيفها كان لك بيد سيفها أثكلك؟! والخطاب الحجاجى واضح فى تمثيل المقطع السابق الذي يتوقع حجة الخصم، فيأخذ فى تنفيذها واحدة واحدة، ومن ذلك الحجة التي ينبنى عليها المقطع التالي: لا تصالح ولو ناشدتك القبيلة باسم حزن «الجليلةْ» أن تسوق الدهاء، وتبدي - لمن قصدوك - القبول سيقولون: ها أنت تطلب ثأرا يطول فخذ - الآن - ما تستطيع: قليلا من الحق فى هذه السنوات القليلة إنه ليس ثأرك وحدك، لكنه ثأر جيل فجيل وغدا.. سوف يولد من يلبس الدرع كاملهْ، يوقد النار شاملة، يطلب الثأر، يستولد الحق، من أضلع المستحيل ❊ ❊ ❊ لا تصالح ولو قيل إن التصالح حيلة إنه الثأر شعلته فى الضلوع إذا توالت عليه الفصول ثم تبقي يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس) فوق الجباه الذليلةْ! وفى هذا المقطع الطويل، تتكرر محاجة التصالح، مرة باسم حزن «جليلة» زوج كليب وأخت القاتل جساس، وهى محاجة تعتمد على تطاول زمن الثأر، ولذلك فالأحكم القبول بالمتاح من التعويض واعتباره تعويضا مؤقتا، إلى أن يأتى الموعد المناسب للثأر المناسب أو الكامل. وهى حجة يتبعها حجة أن الثأر هو مهمة أجيال، فليرض كل جيل بما فى استطاعته، ويترك لغيره من الأجيال العبء الباقي. ولكن عوار هذه المحاجة يتكشف ضد من يضع فى مواجهة ذلك الحجة النقيض التى تؤكد أن الثأر تبهت شعلته فى الضلوع مع الوقت، ولكن تبقي يد العار (استعارة مكنية) مرسومة أصابعها الكاملة فوق الجباه الذليلة. وطبيعة المحاجة والمحاجة المضادة على هذا تعمل عمل القرينة التى تجعل تشبيه التمثيل الجزئى تمثيلا رمزيا كليا تتحول معه وصايا كليب القتيل لأخيه الزير سالم، فى السيرة الشعبية - إلى وصايا أمل دنقل- الشاعر المعاصر، المختفى وراء قناع كليب- إلى السادات الذى كان على وشك توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل. وهو بعد سياسى لا بد من وضعه فى الاعتبار عندما نقوم بتحليل طبيعة الدور البلاغى لتشبيه التمثيل فى الشعر السياسى لأمل دنقل من ناحية، وللدور الإبداعى الذي يؤديه هذا النوع من التشبيه عندما يتحول إلى تمثيل رمزى كلى من ناحية موازية. وهو الأمر الذي يجعلنا نفهم شروط الصلح فى وعى أمل دنقل السياسي، أو فى المخيلة السياسية لهذا الشاعر الرافض لكل أشكال الصلح الذليل أو المهين، فالصلح- عنده- معاهدة بين ندين، فى شرف القلب، لا تنتقص؛ ولذلك فالوصية الحاسمة هي: لا تصالح إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرةْ: النجوم لميقاتها والطيور لأصواتها والرمال لذراتها والقتيل لطفلته الناظرةْ ولا يعنى ذلك سوى أن الصلح ممكن وليس مستحيلا، شريطة أن يكون صلحا عادلا يعطى لكل ذى حق حقه دون أن يُظلم طرف على حساب طرف آخر. وبذلك وحده يكون الصلح ممكنا، وبين أكفاء فى آن. وهذا هو المعنى المضمر فى التمثيلات الحجاجية التي ينطقها الشاعر نفسه من وراء قناع كليب، خصوصا حين يقول: إن عرشك : سيف وسيفك : زيف إذا لم تزن - بذؤابته - لحظات الشرف واستطبت الترف أو يقول ما فى حكمه، من وراء قناع اليمامة ابنة كليب، خصوصا حين تقول ما يشبه وصيتها الأخيرة لنا نحن الذين نسمعها أو نقرؤها: أقول لكم: أيها الناس كونوا أناسا! هى النار، وهى اللسان الذي يتكلم بالحق! إن الجروح يطهرها الكي، والسيف يصقله الكير، والخبز ينضجه الوهج، لا تدخلوا معمدانية الماء.. بل معمدانية النار.. كونوا لها الحطب المشتهى والقلوب: الحجارة، كونوا.. إلى أن تعود السماوات زرقاء، والصحراء بتولا.. تسير عليها النجوم محملة بسلال الورود! وهذه وصية تتعدي- بسحر الشعر- المناسبة الوقتية الخاصة بها لتجاوز الزمان والمكان لتغدو قاعدة للرفض الخلاق الذي يستبدل بوهاد الضرورة آفاق الحرية، وبالظلم العدل، وبالتمييز المساواة. هكذا يكون الناس، ناسا معدنهم النار التي يتخلق منها طائر الفينيق حين يتساقط إلى رماد فى شيخوخته، فيتولد من النار كائنا فتيا عفيا، والنار هى التى تطهر الجروح، وتصقل بها السيوف، وينضج بها الخبز، وبلهبها تندلع شرارة الغضب التى تحرق كل أشكال الظلم، باعثة كل أنواع التمرد الخلاق من أجل البقاء، ومن أجل المستقبل الذى تصفو معه زرقة السماوات، منفتحة على عوالم لا حد لنهاياتها واحتمالات وعودها، وتغدو الصحراوات أراضى عذراء منتظرة من ينجبها ثمرا، بكرا كوليد بكر، فتسير عليها النجوم مختالة بسلال الورود التى تحملها، وتتناثر منها أوراق الزهور من كل لون وصنف.