يرجع معنى الشعر إلى الفطنة، فالشاعر- فى لسان العرب- هو الذي يفطن إلى ما لا يفطن إليه غيره من علاقات غير مدركة بين الأشياء. ولذلك كان «الشعر» كشفا عن علاقات لم تكن مكتشفة من قبل بين المدركات أو الظواهر. والأصل فى ذلك هو إدراك المشابهة بين ما لم يكن مدركا، أو ما يندر إدراكه، أو ما يتعذر على المخيلة العادية أن تضعه فى قران. ومنذ القديم، وصل البلاغيون العرب البلاغة الشعرية بالقدرة على الإتيان بالتشبيه النادر والغريب والذي يترك فيمن يتلقاه ما يشبه الصدمة. ....................................................... ..وعندما ترجموا بلاغة أرسطو، خصوصا فى كتابه عن «فن الشعر»، واستوقفهم قوله إن الاستعارة هى آية الموهبة الطبيعية، وعلامة الموهبة الشعرية، فإنهم وافقوا على ذلك لأنهم ردوا الاستعارة إلى ما رأوه أصلا لها، وهو التشبيه أو المشابهة التى هى الأصل فى العلاقة بين طرفين، يحذف أحدهما وهو المشبه، ليبقى ثانيهما وهو المشبه به. ولذلك ظل مفهوم التشبيه فى البلاغة العربية قائما فى كل قران يشار فيه إلى المشبه حتى لو بضمير يدل عليه، فالإشارة إلى المشبه والمشبه به أصل فى بنية التشبيه التى تتضمن دائما معنى الثنائية، وتعلو فى القيمة الشعرية كلما تباعدت العلاقة بين طرفى التشبيه، واقترنت بما يشبه الصدمة التى نراها فى هذا التشبيه: كان (ترام الرمل) منبعجا كامرأة فى أخريات الحمل فالترام المزدحم إلى درجة الاكتظاظ، والذي يتكدس فيه الركاب حتى على أبوابه يصعب أن يقترن بامرأة حامل، أو فى أواخر الحمل، ولكن المخيلة التى تفطن إلى العلاقة بين ما لا يلتفت إليه، عادة، قادرة على اكتشاف هذه المشابهة الغريبة والنادرة فى آن، وتفلح فى أن تترك ما يشبه الصدمة المعرفية المفاجئة لدى من يتلقاها. ولا يقل عن هذا التشبيه غرابة ما نقرأه فى قصيدة «يوميات كهل صغير السن»: كل الأبواب، العلوية والسفلية، تفتح إلا بابه وأنا أطرق.. أطرق حتى تصبح قبضتى المحمومة خفاشا يتعلق فى بندول وتشبيه القبضة الملحاحة فى الدق على الباب بخفاش يتعلق فى بندول ساعة حائط (مثلا) تشبيه لا يقل غرابة عن تشبيه ترام الرمل - فى انبعاجه بالركاب - بامرأة فى أخريات الحمل. كلاهما يراد به إحداث صدمة فى وعى المتلقى للفت انتباهه إلى حال الموضوع الذى تناوشه الصورة التشبيهية. وقريب من ذلك ما يحدث فى الصور التشبيهية التالية: البسمة حلم والشمس هى الدينار الزائف فى طبق اليوم وتشبيه البسمة بالحلم تشبيه ملتبس، تتعدد دلالاته، فالبسمة يمكن أن تشبه الحلم على سبيل التمنى أو الندرة أو الامتناع. أما الشمس التى تشبه الدينار الزائف فى طبق اليوم فهى شمس غاربة، يميل لونها إلى الاصفرار، فتبدو أشبه بدينار زائف أصفر اللون، على مهاد ممتد كالطبق. وقس على ذلك تشبيه: والسفن التى تسير فى القناة كالإوز فلا شك أنه تشبيه نادر أو مستطرف بلغة البلاغيين القدماء. لكن قبل أن نمضى فى حديث الاستطراف علينا ملاحظة متغيرات استخدام التشبيه الذى بدأ بسيطا وعفويا مع بدايات أمل دنقل الشعرية، حيث نقرأ مثلا: أعيش ككأس بلا مدمن أو: سآتى إليك كسيف تحطم فى كف فارسه المثخن سآتى إليك نحيلا.. نحيلا كخيط من الحزن لم يحزن فاعتيادية التشبيه وتقليديته تأتلف مع «خيط من الحزن لم يحزن». وهو مشبه به فى حكم المعدوم، لكن الذي يدل على وهن الشاعرية وضعفها. لكن هذه الشاعرية سرعان ما تنضجها الحياة والقراءة والتعرف على شعراء مبرزين فى الإسكندرية، إذ كتبت قصيدة «ظمأ.. ظمأ» حيث نقرأ: جسدي: صخرة صهرتها الظهيرة حلقها يتفتت أو نقرأ: شعرها طائر جرفته الرياح أو نقرأ فى قصيدة «الحزن لا يعرف القراءة»: فى آخر العمر، تصير الأذن - عادة - سلة مهملات أو نقرأ فى قصيدة «أشياء تحدث بالليل»: كانت الذراع ضامرة.. كبذرة القمح ضامرة كالسنة الأولى التى تنبت فى فم الرضيع أو نقرأ في «العشاء الأخير»: فتوارى القمر الشاحب - فى كفي - كعكة أو: فشعاع الشمس يهوى كخيوط العنكبوت كما نقرأ في «سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس»: البسمة حلم والشمس هى الدينار الزائف فى طبق اليوم. أو كما نقرأ في «رسوم فى بهو عربي»: الناس سواسية - فى الذل - كأسنان المشط وقل الأمر نفسه على تشبيه: الشهور زهور على حافة القلب تنمو وقد سبقت الإشارة إليه فى موضعه، لكن ما يزيد الانتباه إليه هو المضى مع المشبه به وتحويله إلى استعارة، كما سيتضح بعد قليل. وقل ما يشبه ذلك - من منظور الاستظراف - على تشبيهات من مثل: فتراءى القمر الشاحب - فى كفي- كعكة ... ... ... فشعاع الشمس يهوى كخيوط العنكبوت وكلا التشبيهين من قصيدة «العشاء الأخير» المكتوبة فى ديسمبر 1963، فهى من القصائد الباكرة التى تدل على توثب مخيلة أمل الشاب الذى كان فى الثالثة والعشرين من عمره، والذى كان يحاول الإفادة من الأساطير الفرعونية واليونانية، لعله يحظى بإعجاب لويس عوض المستشار الثقافى لجريدة «الأهرام» فى ذلك الوقت. لكن بعيدا عن هذا الغرض العملي، فخيال هذا الشاب خصب. ولولا ذلك لما تحول القمر الشاحب إلى كعكة، ولا هوى شعاع الشمس كخيوط العنكبوت. ولا قرأنا فى قصيدة «لا وقت للبكاء»: تبكين! يا ساقية دائرة ينكسر الحنين .. فى قلبها، ونيلك الجارى على خد النجوع مجرى دموع ضفافه الأحزان والغربة! وتقترن الأمثلة السابقة، بما يبين عن أن التشبيهات تلفت الانتباه إلى حضورها بما يتولد عنها من استعارات. وهى ظاهرة سرعان ما أصبحت ملمحا أساسيا فى شعر أمل، تأمل - مثلا - مستهل قصيدة «سفر ألف دال»: القطارات ترحل بين قضيبين: ما كان - ما سيكون والسماء رماد، به صنع الموت قهوته ثم ذراه كى تستنشقه الكائنات فينسل بين الشرايين والأفئده! لنقل إن السطر الأول ينطوى على استعارة مكنية، قائمة على تشبيه مرور الأيام بالقطارات التى ترحل بين قضيبين: الماضى والمستقبل. لكن يأتى السطر الثانى بتشبيه السماء بالرماد على أساس معنى لونها الرمادي. ولكن لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالرماد يتحول إلى ذرات يصنع منها الموت قهوته، كما لو كانت ذرات الرماد تحولت إلى ذرات بن يصنع به الموت قهوته التي يشيعها فى الهواء كى تستنشقها الكائنات، فينسل الموت فى الشرايين والأفئدة، وذلك على نحو يغدو معه الموت بعض الوجود. والبداية هى التشبيه البليغ ( السماء رماد). ولكن بما يحيل المشبه به إلى أصل يتحول إلى استعارة مكنية، يتوالى ترشيحها، فتمتد ما بين السماء والأرض بما يجعل منها حضورا كونيا، توّلد عن التشبيه. وما دمنا نتحدث عن القطارات التى ترحل ما بين الماضى والمستقبل الذي يغدو- فى وجه من أوجهه- صورة أخرى من الماضي، فمن الممكن التوقف عن التشبيه الذي يقابلنا فى قصيدة « الحزن لا يعرف القراءة»: أعمدة البرق التى تطل من نوافذ القطار كأنها سرب إوز أسود الأعناق يطلق فى سكينتى صرخته المروعة ويختفي.. متابعا رحلته مع التيار فأعمدة البرق التي يراها الجالس فى القطار تشبه - فى تتابعها - سرب إوز أسود الأعناق، لكن هذا الإوز (المشّبه به) سرعان ما يتحول إلى استعارة مكنية تطلق صرخة مفزعة قبل أن تختفى كى تتابع رحلتها مع تيار الماء الذي يحملها معه فى اندفاعه إلى الأمام، حيث يتجه القطار. ولو أعدنا النظر إلى الصورة التشبيهية لوجدناها تنفتح من التشبيه الذي يمتد فيما يشبه الدائرة التى تغلقها القافية التى تردنا إلى مستهلها، وهو حركة القطار، ويوازى ذلك ما نقرأه فى مقطع من مقاطع «حديث خاص مع أبى موسى الأشعري»: عيناك، يا حبيبتي، شجيرتا برقوق تجلس فى ظلهما الشمس، وترفو ثوبها المفتوق من فخذها الناصع! والبداية هما العينان اللتان تشبهان شجيرتى برقوق. لكن المشبه به يتحول إلى استعارة فيغدو ظلا للشمس التى تتحول - بدورها- إلى استعارة لامرأة ترفو ثوبها المفتوق عن فخذها الناصع. ولن يختلف منطق التوليد الاستعارى من التشبيه (فى نهاية المزمور الرابع من ترنيمة لشهر يناير): ما أقسى انتظاري!.. وفؤادى ساعة رملية صفراء يهوى الرمل فى أعماقها شيئا فشيئا ربما للرمل طعم الملح أحيانا.. وطعم الانتظار والسياق هو سياق الانتظار الملول. وفى داخل هذا السياق، يأتى تشبيه القلب بالساعة الرملية. ولذلك يفتتح التشبيه على حبيبات الرمل المتساقطة من هذه الساعة، فتعمق الإحساس بمعنى الانتظار وطوله، فيتجاور طول الانتظار مع طعم الملح الذي يغدو طعما للانتظار بدوره، ولكن بما يغلق الدائرة، ويرد كلمة القافية فى السطر الأخير على نظيرتها فى السطر الأول. (وللتحليل بقية)