«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليل الوحدة والوحشة والغربة
نشر في الأهرام اليومي يوم 20 - 01 - 2017

رؤى العالم (بمناسبة اختيار صلاح عبد الصبور شخصية العام فى معرض القاهرة الدولى للكتاب القادم) لعل أهم أوجه الليل السلبية، ‬هى الوجه الذى ‬يقودنا إلى اغتراب البطل أو الشاعر فى الوجود ومجافاته للناس، ‬وهو الأمر الذى ‬يفضى إلى أن ‬يترك لهم عالم النهار كى ‬ينطوى على نفسه، ‬ومع أشباهه، ‬فى الليل الذى هو الفضاء الزمانى والمكانى لتجمع المغتربين والمتوحدين والمنعزلين عن العالم فى العالم. ‬وهذا هو ما نراه فى ليل صلاح عبد الصبور، ‬خصوصا فى واحدة من أهم تجليات الحضور الشعرى له. ‬وقد أوجز صلاح عبد الصبور علاقته بالليل على نحو مكثف دال فى قصيدة من قصائده المتأخرة، ‬وهى قصيدة «‬مذكرات رجل مجهول» ‬من ديوانه «‬تأملات فى زمن جريح» ‬حيث نقرأ:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
الحمد لنعمته من أعطانا هذا الليل
صمت الأشياء وسادتنا
والظلمة فوق مناكبنا
ستر وغطاء
والجمع بين نعمتى الليل والصمت الذى ‬يقترن بالسكوت الذى هو أبلغ ‬من أى كلام فى لحظات التوحد، ‬هو مدخل إلى قصائد صلاح عبد الصبور الليلية، ‬خصوصا تلك التى تؤكد الشعور المُمض بالغربة عن العالم والحزن فيه. ‬ويبدو أن اقتران الليل بمشاعر الاغتراب والتوحد، ‬هو اقتران قديم ‬يجرنا إلى مجاورته الدلالية، ‬وأهمها الحزن، ‬حيث لا ‬يجد المتوحد المغترب سوى الليل، ‬فضاء تنطلق فيه الأحزان حرة بلا قيود، ‬كما لو كانت تعود إلى أصل نشأتها ومبعثها، ‬على الأقل فى مجال من مجالات تجاوراتها الدلالية. ‬ولكن ‬يبدو أن هذا الاقتران بين التوحد والاغتراب عن العالم فى العالم موصول بمعانى الحزن المشوب باليأس.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
واللافت للإنتباه أننى قرأت قصيدة «أحلام الفارس القديم» فى مطلع الشباب، ‬عند نشرها سنة ‬1964، ولكنى شغلت بالأمنيات التى تتجسد فى مقاطعها الأولى عن موضوعها الأساسى الذى ‬يمزج الحزن بشىء من فقدان اليقين، ‬فخايلتنى أمنية أن نكون كغصن شجرة فى امتدادها الاستعارى أو نكون بشط البحر موجتين صافيتين، ‬أو نكون نجيمتين جارتين أو جناحى نورس رقيق، ‬ولم أنتبه كثيرا إلى أن الإلحاح على التمنى فى المقاطع الافتتاحية الأربعة فى القصيدة إنما هو تعبير عن رغبة من ‬يشكو مما خلفت الأيام فى نفسه، ‬ومن ‬يود أن ‬ينسى مرارة الزمن الموحش، ‬خصوصا وهو ذلك المجرب القعيد على رصيف عالم ‬يموج بالتخليط والقمامة، ‬ويصف الكون كله بأنه:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
كون خلا من الوسامة
أكسبنى التعتيم والجهامة
حين سقطت فى مطلع الصبا.
هذا الفارس الذى داست فى فؤاده الأقدام وجلدته الشموس والصقيع، ‬هو فارس انكسرت قوادم أحلامه وانخلع قلبه، ‬وفقد البراءة فى عالمه الموحش الذى أدرك أنه لا خلاص من عذابه وكوارثه وقسوته إلا بأحد أمرين: ‬الموت أو الحب، ‬ولذلك نراه ‬يجرب الحب فى أحلام الفارس القديم أملا فى الخلاص، ‬لكن من الواضح أن الكون كان أثقل مما ‬يحتمل أو مما ‬يمكن أن ‬يصنعه الحب الذى سرعان ما ‬يبدده سوء ظن متأصل بالمرأة، ‬فلا ‬يبقى سوى شعور الوحدة والاغتراب مهيمنا على القصائد الليلية، ‬وأولاها قصيدة «‬أغنية لليل» ‬فى ديوانه «‬أحلام الفارس القديم»‬، ‬وهى قصيدة بمثابة النقيض تماما لما كان عليه الليل فى قصائد الرومانسية العربية، ‬ابتداء من ليل جبران خليل جبران وليس انتهاء بليل نازك الملائكة - ‬عاشقة الليل، ‬هكذا نقرأ فى أغنية الليل:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
الليل سكرنا وكأسنا
ألفاظنا التى تدار فيه نقلنا وبقلنا
الله لا ‬يحرمنى الليل ولا مرارته‬‬‬
وإن أتانى الموت، ‬فلأمت محدثا أو سامعا‬
‬‬ أو فلأمت، ‬أصابعى فى شعرها الجعد الثقيل الرائحة‬
‬‬ فى ركنى الليلى، ‬فى المقهى الذى تضيئه مصابح حزينة‬
‬‬حزينة كحزن عينيها اللتين تخشيان النور فى النهار.‬‬‬‬‬‬‬‬
هذه الافتتاحية التى ذكرتها تلفت الانتباه فيها نبرة مازوكية تستعذب الألم ‬وتتلذذ بمرارة الوحدة، ‬وترى فى الليل مجالا للهروب من ضجيج النهار وقسوة الحياة فيها، ‬خصوصا عندما ‬يرتبط هذا الليل بحضور امرأة تعانى الوحدة والاغتراب، ‬كالشاعر الذى ‬يستهل وصف هذه المرأة بالتركيز على العينين اللتين تخشيان مثله النور فى النهار. ‬وتمضى القصيدة مع هاتين العينين اللتين تتحولان إلى مرآتين من مرايا الليل، ‬أو مرآتين لشعور متوحد، ‬يستبدل بالنهار الصاخب القاسى الذى ‬يشبه الغابة، ‬الليل الحانى الذى ‬يستبدل الصمت بالصخب والتوحد بالضياع فى ‬غابات النهار، ‬فنقرأ:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
عينان سوداوان
نضاحتان بالجلال المر والأحزان
مرت عليهما تصاريف الزمان
فشالتا من كل ‬يوم أسود ظلا...‬‬‬‬‬‬‬
عينان سردابان
عميقتان موتا
غريقتان صمتا
فإن تكلمتا
تندتا تعاسة ولوعة ومقتا‬‬‬‬
والسوداوية فى العينين والجلال المر الذى ‬يملأهما واللون الأسود الذى ‬يتراكم، ‬هى دوال على العالم الذى تعكسه مرارة العينين فلا تكشفان لنا سوى عن عالم أشد تعاسة ولوعة ومقتا، ‬خصوصا إذا عدنا من الدال إلى مدلوله الذى ‬يقترن بحضور التعاسة والكراهية فى عالم الإنسان الذى عبر، ‬والذى هرب إلى الليل بسبب ‬يأسه من النهار. ‬هكذا نصل إلى ختام المقاطع الخاصة بالمرأة الحزينة المتوحدة التى هى الصورة الأنثوية من حبيبها أو صاحبها الذى أصبح قدرها فى عالم الليل. ‬أما هذا الحبيب فإن صوته ‬يلتفت إلى القارئ فى تغير اتجاه الخطاب لكى ‬يؤكد له أن:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
الليل ثوبنا، ‬خباؤنا‬‬‬
رتبتنا، ‬شارتنا التى بها ‬يعرفنا أصحابنا‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وهو شعار دال كالعينين الغارقتين فى الصمت والسواد والحزن، ‬وهو شعار من ‬يهرب من الحياة، ‬خصوصا صخبها وعنفها ووحشيتها، ‬ولذلك تصل القصيدة إلى خاتمتها التى هى ذروتها فى الوقت نفسه. ‬أعنى الذروة التى هى أشبه بلحظة التنوير التى تعيدنا إلى قراءة القصيدة من أولها لكى ‬يتأكد وعينا بتتابع الدلالات فيها، ‬فى مسار ‬يصل إلى ذروة هذه الدلالات فى الخاتمة التى تقول:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
«‬لا ‬يعرف الليل سوى من فقد النهار»‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
هذا شعارنا
لا تبكنا ‬يا أيها المستمع السعيد‬‬‬
فنحن مزهوون بانهزامنا‬‬‬‬‬‬‬‬
ورغم الوضوح الظاهر لهذه الأبيات - ‬الذروة- ‬فإنها لا تخلو من سخرية، ‬خصوصا من القارئ أو المستمع الذى ‬يبدو متوافقا مع العالم النهارى أو سعيدا فيه. ‬وعندما ‬يتحدث السطر الأخير عن الزهو بالهزيمة فإنه ‬يواصل السخرية، ‬فالزهو بالهزيمة قرين معرفة العارف الذى خَبَرَ ‬النهار الذى تحول إلى ‬غابة وحشية عبر فيها الإنسان ومات، ‬كما قال قناع بشر الحافى ولم ‬يعد فيه سوى وحوش تتقاتل على الربح أو الخسارة، ‬ولا مجال فيه إلا للأقوى الذى هو أقوى بقمعه وقدرته على إثارة الرعب.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
هذه القصيدة لا تماثلها فى الخط المتصاعد للشعور بالاغتراب سوى قصيدة أربعة أصوات ليلية للمدينة المتألمة من ديوان الشاعر «‬شجر الليل»(‬سنة ‬1973)‬، والعنوان نفسه ‬يقودنا إلى عالم الليليات المتوحد والموحش الذى ‬يتكاثف فيه الحزن فيغدو ألما، ‬خصوصا عندما ‬يسقط الألم الليلى نفسه على المدينة، ‬فتغدو المدينة متألمة بدورها. ‬والقصيدة قصيدة درامية تتكون من أصوات متعددة كأنها عرض مسرحى أو أداء درامى تؤديه أربعة أصوات مختلفة الدوال من حيث الظاهر، ‬لكنها متواشجة المدلولات متجاوبة المعانى على مستوى الدلالات الأعمق، ‬أما الصوت الأول فنسمعه على النحو التالى:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
آه،
ليس هو الليل،
بل الرحم،
القبر،
الغابة
آه،
ليس هو الليل،
بل الخوف الداجى،
أنهار الوحشة
والرعب المتمدد
والأحزان الباطنة الصخابة
آه،
ليس هو الليل
بل القدر
الرؤيا الهولية،
وسقوط الحاضر فى المستقبل
آه،
ليس هو الليل،
بل الجرح اليومى،
ينز دما أسود،
فى الصبح المقبل
ووقع الليل الأول بالغ ‬القسوة على نفس كاتبه ومتلقيه على السواء، ‬فأن تتحول ظلمة الليل إلى قبر أو ‬غابة دليل على فقدان اليقين الكامل وعلى الاغتراب العاجز عن المصالحة مع الكون. ‬ويلفت الانتباه كيف تتجاور الأضداد لتنطلق المفارقات فيصبح الليل هو الرحم الذى لا ‬يلد سوى الموت، ‬والغابة التى لا تنطوى إلا على الوحشية. ‬وتتحول صورة الليل لتغدو قرينة الخوف الذى لا خوف بعده، ‬كأنه أنهار من الوحشة والرعب الذى لا رعب بعده، ‬سواء فى انتشاره، ‬وعدم توقفه عند حد، ‬كأنه الأحزان الباطنة والصخابة على السواء. ‬وهى مفارقة تجمع ما بين صمت الباطن وصخب الظاهر. ‬ويتصاعد الحزن ليغدو الليل هو القدر المحتوم كالموت، ‬بل أفظع فهو الرؤيا الهولية التى نراها ‬يوم الدينونة، ‬والتى تمتد من الماضى إلى المستقبل أو تسقط الحاضر فى المستقبل، ‬فيغدو الليل كأنه جرح ‬يومى لا ‬ينزّ ‬دما أسود فى الحاضر، ‬بل ‬ينزّ ‬دما أسود فى المستقبل الذى هو من نبت الحاضر الوحشى. ‬هذا المقطع الافتتاحى ‬يبدأ كل جزء فيه بال (‬آه) ‬المتكررة أربع مرات كأنها عدد الفصول الأربعة، ‬الأمر الذى ‬يشى بكونيتها وتحولها إلى نظام للكون نفسه أو للحياة التى لم ‬يعد فيها سوى ما ‬ينبئ بوحشة الموت فى الحاضر بامتداده الهولى فى المستقبل. ‬ونأتى إلى الصوت الثانى حيث نستمع إلى مجموعة من الرجال تنطق على نحو أشبه بالكورس فى المسرح اليونانى:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أنذرنا من قبل أن ‬يجىء‬‬‬
تراب لونه الردئ
أنذرنا من قبل أن تدهمنا خيوله المفاجئة،
بطبله الخافت فى إيقاعه البطىء،
أنذرنا من قبل أن ‬ينتشر ريح الوحشة الوبىء‬‬‬
تموت قطعان السحاب،
وانحدارها فى كهفه الخبىء
وهدأة الصمت البليد،
والنجوم ثابتات،
كأنها طحالب ميتة ملقاة،
على امتداد بحر الظلمة الكابية الملىء.‬‬‬‬
أنذرنا من قبل أن ‬يجىء‬‬‬
بأن ‬يوما مجدبا تقدمه ‬‬‬‬‬‬‬
وظل ‬يلتف على أرواحنا‬‬‬
حتى تهتكت خيوط نوره الصدىء‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
هنا تتحدث مجموعة من أصوات رجالية تنطلق فى وصف الرؤيا الهولية التى تسقط الحاضر فى المستقبل، ‬ولكن من منظور رجال هذه المدينة، ‬فنتحدث عن كيف أن هذا الليل القادم كالطاعون أنذرهم من قبل أن ‬يأتى بتحول لون الغروب الرمادى إلى لون ترابى، ‬كما أنذرهم بأن خيول الليل- ‬الموت سوف ‬يدهم المدينة كالجراد، ‬فينشر ريح الوحشة، ‬والوباء الذى تموت به قطعان السحاب فى سموات لا تعرف الضوء، ‬وفى كون لا ‬يعرف سوى الصمت البليد، ‬حيث النجوم ثابتة كأنها طحالب ميتة على امتداد بحر الظلمة الكابية الملىء، ‬فهذا الليل لم ‬يكن مفاجأة، ‬فقد كان ثمة مقدمات دالة عليه، ‬مقدمات ظلت تلتف على الأرواح كحبال مشانق إلى أن أطبقت الكلمة تماما واستحال النور. ‬ودلالة موت قطعان السحاب إشارة استعارية إلى صمت السماء التى تظل صامتة، ‬لا تستجيب إلى استغاثات البشر الذين استخلفهم الله على الكون، ‬فأحالوه إلى ‬غابة من الوحوش. ‬والأداة البلاغية فى المقطع هى الاستعارة القادرة على التقاط التحولات والتمثيلات التى تجسد تحولات الليل، لا ‬يدعمها سوى تشبيه ‬يتيم ‬يمتد عبر ترشيح المشبه به وتأكيده، ‬ومن ثم تحوله إلى استعارة مكنية تلتف على الأرواح وتقطع حتى خيوط النور الضعيف، ‬وينتهى صوت الرجال فى المدينة ليأتى صوت مجموعة من النساء:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
شجر الليل على مفرقنا مال، ‬وأرخى‬‬‬
شعره المحلول فى أكتافنا
ثم ألقى ثمر الوجد، ‬وأزهار الكآبة‬‬‬
فى مآقينا وفى أكمامنا
واعتنقنا، ‬وغصون الشجر الموحش‬‬‬
حتى دب فى أعطافنا
شبق الحزن الذى كل دجى ‬يعتادنا‬‬.‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ولقد اختزلت صوت المجموعة النسائية بسبب كثافة الاستعارة المكنية التى تنطوى على نوع خاص من الترشيح، ‬يجعلها تجسد المعنوى، ‬وتشخص المادى فى الوقت نفسه، ‬فيغدو الليل شجرا مستطيل الأغصان التى تبدو كالشعور المحلولة على الأكتاف، ‬ولكنها الشعور التى تلقى ثمار الوجد وأزهار الكآبة فتنتقل عدواها إلى النساء اللائى ‬يحملنها، ‬فيعتنقن وزهور الشجر الموحش حتى ‬يدب فى أعطافهن شبق الحزن الذى ‬يعتادهن كل ليلة، ‬فيهبنه أنفسهن بالكلية حتى ‬يتحدن معه، ‬فيتحولن إلى مجلى له، ‬لكنه المجلى الذى ‬يتركهن منتظرات أبدا، ‬يحملن بذور الألم الموجع فى أحشائهن، ‬فلا ‬يلدن سوى كائنات هى صورة أخرى من أزهار الكآبة، ‬ومن ‬غصون الشجر الموحش الذى ‬يحيل الحياة إلى ‬غابة وحشية حزينة.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ولا ‬يبقى سوى صوت الشاعر الذى ‬يأتى فى الختام بعد أن استمع إلى كل هذه الأصوات وشاهد كل هذه المشاهد، ‬فيأوى متوحدا إلى فراشه ما بين الصحو والغياب، ‬لكن قبل أن ‬يغيب فى ‬غياهب الكابوس ‬يطوف فى خياله الحكم المحكوم على تحققه بالاستحالة، ‬فمحال أن تفتح السماء أبوابها عن نبأ عظيم فى هذا العالم العقيم، ‬فلا ‬يبقى سوى أن ‬يسأل الشاعر المتوحد المغترب سؤاله السقيم أو العقيم:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
رباه!‬‬‬‬
رباه! ‬‬‬‬
ما سر هذه التعاسة العظيمة
ما سر هذا الفزع العظيم.‬‬‬‬
والجواب المضمر فى السؤال: ‬هى ازدياد التعاسة الذى أحال الكون إلى جحيم، ‬والعالم إلى ‬غابة، ‬والذى لا ‬يكف عن إسقاط حاضره الوحشى على مستقبله الذى لن ‬يجلب سوى المزيد من الرعب الكونى. ‬وتنتهى أصوات المدينة المتألمة، ‬لكن ألمها الذى هو ألم الشاعر لا ‬ينتهى كالحزن الذى ‬يحيط به ويتغلغل فى كل قصائده تقريبا. ‬فتومئ إلى أسباب لا تنفصل عن ‬غياب اليقين، ‬ويأس الشاعر فى أن ‬يرى ثمة ما ‬يوحى بالأمل والفرح فى عالم ‬يموج بالتخليط والقمامة، ‬عالم أكسبه التعتيم والجهامة، ‬حين اكتمل وعيه فيه ولم ‬يجد خلاصا قريبا منه كى ‬يحلق مع من ‬يحب كجناحى نورس رقيق أو كموجتين صافيتين، ‬فلم ‬يبق سوى الانزواء والتوحد فى عالم الليل الموحش الذى ‬يلتف فيه شجر الليل على الكائن المتوحد المغترب، ‬كما لو كان ‬يصنع له شرنقة تعزله عن العالم وتبعد العالم عنه، ‬أو كما لو كان ‬يضع له مشنقة من صنعه هو قبل أن تكون من صنع ‬غيره‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.