صعد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مؤخرا من الخصومة المستعرة مع الإعلام الأمريكى بحظر مشاركة بعض المنصات الإعلامية، وفى مقدمتها أسماء عتيدة مثل هيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي.سي» وشبكة «سي.إن.إن» وصحيفة «نيويورك تايمز» من حضور المؤتمر الصحفى الاعتيادى للبيت الأبيض، ثم كان قراره بعدم حضور العشاء السنوى لمراسلى البيت الأبيض فى أبريل المقبل كسابقة أولى لرئيس أمريكى منذ عقود. إن كان التصعيد جديدا، فالرابط الشائك بين الرئيس الجديد والإعلام ليس مستحدثا كليا. فمن أول أيام حملته الانتخابية وترامب ملتزم بمهاجمة ما وصفه بالإعلام المضلل وغير النزيه، وسعيه لاحقا لتقديم ما وصفه مساعدوه ب «الحقائق البديلة»، فى واقعة تقدير أعداد المشاركين فى حفل تنصيبه المثير للجدل. ولم تتوقف هذه الوسائل عن هذا الحديث، بل زادت الأقاويل بها حول فوز غير مستحق للرئيس الأمريكى الجديد بفضل تدخل روسى أخذ عدة أشكال أبرزها ترويج الأخبار المضللة. وإن كان ترامب الفاتحة الأبرز للجدل حول مستقبل الحقيقة ودور الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعى فى الترويج لظاهرة الأخبار المضللة والمغلوطة، فالأمر قد تجاوزه بكثير. فيلاحظ أن ظاهرة الأخبار المغلوطة ليست جديدة كليا، بل هى ابنة شرعية للشائعة، كما أن استخدامها المقصود بغرض التضليل أو التعبئة وتوجيه بعض الفئات سواء لتحقيق هدف ما أو لخلق مصادمة مع فئة مناوئة لأغراض سياسية أو اقتصادية ليس أيضا بالجديد، بل تم استخدامه مرارا فى إطار الحروب الإعلامية والنفسية على مر العقود. الجديد فعلا هو اتساع نطاق انتشارها وبالتالى تعاظم فاعليتها وتأثيرها، والمقصود هنا أن تعدد أدوات العولمة والخاصة بحرية ذيوع المعلومة والتبادل المعرفى عبر تعدد وسائل الإعلام المسموع والمقروء وغيرهما، بالإضافة إلى رواج منصات التواصل الاجتماعي، ومعهما انتهاء مسألة «الحصرية» و«احتكار« المعلومة لدى مصادر بعينها لا يمكن لغيرها توفير الخبر، جعل الجميع بلا مبالغة الجميع - قادرا على لعب دور محرر الخبر ومصدره فى أى وقت ليلا أو نهارا. يضاف إلى ذلك زيادة أسباب الاستقطاب فى عالم اليوم كان فئويا أو طبقيا أو مذهبيا أو قوميا، وفى حالة الاستقطاب الشديد يكون المناصر لفكرة ما أكثر عرضة للانخداع والسير وراء الأخبار المضللة، فيكفيه فقط مصادفة عنوان يرى أنه يدعم آراءه ويؤكد إما صواب موقفه أو سقطات خصمه، ما يدفع بحركة مشاركة وانتشار الخبر كالنار فى الهشيم. وهناك أيضا سمات «الانتشار» ذاته، فقديما كان للشائعة عمر ما تموت بعده، فإما يتم كشف عدم صحتها أو تفقد تأثيرها بالتقادم، أو لحلول اهتمام وقصة جديدة. لكن أخبار اليوم المضللة تبدأ قوية لأنها عادة ما تكون محسوبة على مصادر يفترض أنها ذات مصداقية وتنتشر على نطاق واسع لتغذى سلسلة من الأخبار الشبيهة التى تخدم غاية أو قضية محددة، وعادة ما تكون إما محض خيال أو تحريفا وإضافة غير دقيقة لواقعة حدثت بالفعل. الإعلام التقليدى يلعب للأسف دورا فى خدمة الأخبار المضللة، فإن لم يخلق هذه الأخبار خلقا، فهو يساعد على الأقل فى تغذيتها وانتشارها، ويقصد بذلك أن تلقف الميديا الرسمية للأخبار المضللة إما بالنشر عن طريق الخطأ أو حتى مناقشة مضمونها المضلل يحقق لها الانتشار، ففى كثير من الاحيان ومع احتدام الاستقطاب يكون نفى الخبر أصعب من إثباته فمن يؤمن بشيء يظل على تعصبه إزاءه. وفعليا بات يحسب للأخبار المضللة ألف حساب. أندروس أنسيب مفوض الاتحاد الأوروبى للشئون الرقمية طالب إدارة «فيسبوك» بوضع إجراءات أكثر فاعلية لكشف الأخبار الصحيحة من المضللة ومنع انتشار وتداول الفئة الأخيرة، وإلا سيواجه موقع التواصل الأشهر إجراءات عقابية من جانب بروكسل وإن لم يحدد طبيعة هذه الإجراءات. ومع اقتراب موسم الانتخابات فى كل من فرنساوألمانيا، زاد الترقب لحرب الشائعات والأخبار المضللة، فحذرت حملة إيمانويل ماكرون، المرشح المستقل للرئاسة الفرنسية، من توظيف روسيا الأخبار المضللة فى إفساد مجريات الانتخابات، خاصة وأن ماكرون يعد المرشح الوحيد الذى يعتمد خطاب متشدد إزاء روسيا. وبالمثل فى المانيا حيث تشهد المحاكم قضايا كبرى مضمونها الأخبار المضللة وأحد طرفيها «فيسبوك»، فطالب اللجوء صاحب صورة السيلفى الشهيرة مع المستشارة أنجيلا ميركل أنس مودامانى يقاضى موقع التواصل بعد تداول صورته وميركل ضمن موضوع خبرى يربط كذبا بينه وبين اعتداءات إرهابية فى أوروبا، ونائبة حزب الخضر الألمانى رينات كانست التى تقاضى جماعة يمينية حاولت الإساءة لصورتها وتقود حملة ضد « فيسبوك» بعد انتشار أخبار كاذبة حول دعمها لاجئا متهما باغتصاب طالبة ألمانية. ويلاحظ انتفاضة عدة جهات فى محاولة لمكافحة موجة الأخبار المضللة، فحزب التحالف المسيحى الديمقراطى بزعامة ميركل فى المانيا وضع بالفعل مشروع نظام يسمح لمستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى تسجيل شكاوى إزاء الاخبار المضللة ويتيح لضحايا مثل هذه الأخبار التوصل لواضعها ومقاضاته، مع تغريم منصات التواصل الاجتماعى غير المتعاونة مبالغ تصل إلى نصف مليون يورو. واختارت بعض الأحزاب والقوى السياسية تشكيل فرق لتتبع محتويات الميديا ومواقع التواصل لتفنيد والكشف عن الأخبار المضللة المتعلقة بها، لكن الضرر وقع بالفعل، فهناك تراجع مخيف فى ثقة الفرد فى الاخبار المتداولة، فكأن الآية انقلبت بعد أن كانت هناك صعوبة فى التوصل إلى المعلومة باتت هناك شكوك فى صحتها رغم وفرة وذيوع المعلومات. وقد كشف تقرير صدر عن معهد رويترز للأخبار الرقمية فى ديسمبر الماضى أن 67% من الأمريكيين لا يثقون فى الأخبار ومثلهم 68% فى فرنسا و80% فى اليونان و60% فى السويد. مواقع التواصل من جانبها تدرك خطورة هذه التطورات، ففى مقابلته الأخيرة مع «بي. بي. سي» أكد مارك زوكيربيرج مؤسس فيسبوك أن الأخبار المضللة باتت من أبرز التحديات أمام العولمة، فتراجع الثقة فى المعلومات المتداولة ينال من عملية التواصل بين الأفراد والمجتمعات. ويحاول فيسبوك تحديدا تطوير الإجراءات الموضوعة لفرز وتجنيب الأخبار غير الصحيحة وإحلال أنظمة معينة لبيان الاخبار غير الصحيحة فى المجتمعات التى تمر بظروف خاصة مثل حال ألمانيا اليوم مع اقتراب الانتخابات العامة فى سبتمبر المقبل. .. لكن مع كل هذا الجهد تبقى الحقيقة فى مأزق.