مفتى الجمهورية يهتم المسلمون عبر تاريخهم بمباحث القواعد والضوابط الفقهية لضبط المسائل وردها إلى أصولها؛ لأنها بمثابة الآلة التي ترسم للفقيه والمفتي والقاضي خطوطًا واضحة المعالم في عملية الاجتهاد والفتيا والقضاء والتدريس، فهي تساعد على ضم الأشباه والنظائر بعضها إلى بعض، والفصل بين المتشابهات، وفي ذلك يقول الإمام القرافي في كتابه (الفروق 1/ 3): «من ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصل طلبته في أقرب الأزمان، وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان». كما أن ما سارت عليه الأمة من إخضاع الاجتهاد والنظر والتقليد في الفقه والإفتاء والقضاء للقواعد والضوابط الفقهية الدقيقة عبر الأجيال والعصور- يعصم الأحكام المستنبطة والعمل لدى الأمة أفرادًا وجماعات من التخبط والفوضى، ويسهم أيضًا في المحافظة على الهوية واستقرار المجتمع والنهوض بالأمة. لكن يأبى أهل التطرف إلا الخروج على المناهج المستقرة المنقولة والتمرد على القواعد المقررة، مما يجعلهم يبتدعون أمورًا جديدةً غير مُسلَّمٍ بها، بل ويرتكبون أخطاء جسيمة وينتهجون أساليب مرفوضة تحت مسوغات واهية وذرائع موهومة. ويمكن لنا أن نرصد ذلك ونلاحظه بوضوح في واقعنا من خلال الاختلال الكبير في معيار الاجتهاد والتقليد والإفتاء، وإيجاد مرجعية موازية، ومن ثمَّ كان الاغترار بالمظاهر، والخلط بين الدين والتدين، والتعامل مع الأمور المظنونة على أنها قطعيات، وفقدان القواعد الفقيهة علمًا وعملًا، مما ترتب عليه انعدام قواعد التعامل مع المخالف التي تقرر عدم الإنكار في مسائل الخلاف. مثال آخر نجده عند هؤلاء المتطرفين حيث لم يبالوا بالقواعد الفقهية المستقرة التي تُقرِّر أن: "اليقين لا يزول بالشك"، وأنه "يؤوَّل للمسلم مِن وَجهٍ إلى سبعين وجهًا"، وهاتان القاعدتان تقضيان بأن الأصل في الأفعال التي تصدر من المسلم أن تُحمَل على الوجه الذي لا يتعارض مع التوحيد؛ إذ إسلامه قرينة قوية توجب علينا ألا نحمل أفعاله على ما يقتضي الكفر. ورغم ذلك سمح هؤلاء لأنفسهم إطلاق سوء الظن بالمسلمين، وإشاعة مقولة الشرك والكفر في عموم الأمة؛ تذرعًا بكونهم – مثلا- يتوسلون بالأنبياء والصالحين، أو أنه تجري على ألسنتهم عبارات شركية -كما يزعمون- كقولهم:"والنبي" و"المصحف" و"حياتك"..إلى غير ذلك، وهذا وهم ظاهر وقول فاسد؛ لأن هناك فارقًا بين الوسيلة والشرك، «فالوسيلة» نعظم فيها ما عظمه الله من الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال، أي أنها تعظيم بالله، و"الشرك" هو تعظيم مع الله أو تعظيم من دون الله. أما الترجي أو تأكيد الكلام بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره مما هو مُعظَّم في الشرع ولا يُقصد به حقيقة الحلف هو أمر لا حرج على فاعله لوروده في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة، فقد ورد في قوله عليه الصلاة والسلام: "أفلح، وأبيه إن صدق، أو دخل الجنة وأبيه إن صدق". كذلك تكشف هاتان القاعدتان عن شطط هؤلاء وفساد أقوالهم وأفكارهم حينما يروجون لأنفسهم بأنهم "الغرباء"، و"الطائفة المؤمنة"، و"جماعة الحق"، متخذين من مجرد وقوع المشابهة في أمور العادات ومظاهر الحياة بين المسلمين وغيرهم مدخلا للسيطرة على نفوس الأتباع والمتعاطفين والشعور بانفصال المسلمين عن دينهم وهويتهم، وهي دعوى بعيدة عن مقتضيات القاعدتين السابقتين وعارية عن الدليل والفهم الصحيح، لأنه لا بد في التشبه من أن يقصد الفاعل حصول الشَّبَه، وأن مجرد حصول الشيء المشترك دون نية أو توجه وقصد لا يسمى تشبهًا. ومن ذلك نؤكد أن ما تؤسس له مناهج التطرف العوجاء وأفكارهم الفاسدة من تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأموالهم لم يأت من فراغ، فإنهم قد خرجوا عن الفهم الصحيح للكتاب والسنة وتمردوا على القواعد والضوابط المستقرة للاجتهاد والتقليد. لمزيد من مقالات د. شوقى علام