رئيس جامعة كفرالشيخ يستقبل لجنة تعيين أعضاء هيئة تدريس قسم اللغة الإيطالية بكلية الألسن    مرصد الأزهر لمكافحة التطرف يكشف عن توصيات منتدى «اسمع واتكلم»    صناعة النواب: ارتفاع الاحتياطي النقدي يعكس الثقة في الاقتصاد المصري    دعم منصة سلفة في السعودية يصل إلى 25،000 ريال سعودي.. تعرف على الشروط المطلوبة    حماس: نتنياهو يراوغ لاستمرار الحرب في غزة    محمود مسلم: الموقف في غزة صعب.. وعلى المجتمع الدولي تحمل مسؤوليته    كوارث خلفتها الأمطار الغزيرة بكينيا ووفاة 238 شخصا في أسبوعين.. ماذا حدث؟    "دموع الخطيب وحضور رئيس الزمالك".. مشاهد من تأبين العامري فاروق (صور)    «الداخلية» تُحبط عملية غسل 40 مليون جنيه حصيلة تجارة المخدرات بقنا    المركز القومي للسينما يفتتح نادي سينما الإسماعيلية |الصور    «لا نعرف شيئًا عنها».. أول رد من «تكوين» على «زجاجة البيرة» في مؤتمرها التأسيسي    تعرف على فضل صيام الأيام البيض لشهر ذي القعدة    حزب العدل: مستمرون في تجميد عضويتنا بالحركة المدنية.. ولم نحضر اجتماع اليوم    موعد وعدد أيام إجازة عيد الأضحى 2024    تحرير 11 محضرا تموينيا متنوعا في أسواق شمال سيناء    وزير التعليم يُناقش رسالة ماجستير عن المواطنة الرقمية في جامعة الزقازيق - صور    حلقة نقاشية حول تأسيس شركة مساهمة بجامعة قناة السويس    سلمى الشماع: مهرجان بردية للسينما الومضة يحمل اسم عاطف الطيب    لوكاشينكو: يحاولون عزل دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ولكنها تمضي قدما    بالفيديو.. هل تدريج الشعر حرام؟ أمين الفتوى يكشف مفاجأة    نائب محافظ الوادي الجديد توجه بتوفير طبيب لمرضى الغسيل الكلوي بمستشفى باريس    عام المليار جنيه.. مكافآت كأس العالم للأندية تحفز الأهلي في 2025    توت عنخ آمون يتوج ب كأس مصر للسيدات    «البترول» تواصل تسجيل قراءة عداد الغاز للمنازل لشهر مايو 2024    الخارجية الأمريكية: نراجع شحنات أسلحة أخرى لإسرائيل    «التجارية البرازيلية»: مصر تستحوذ على 63% من صادرات الأغذية العربية للبرازيل    لفترة ثانية .. معلومات عن سحر السنباطي أمين المجلس القومي للطفولة والأمومة    حسن الرداد يكشف عن انجازات مسيرته الفنية    «اسمع واتكلم».. المحاضرون بمنتدى الأزهر يحذرون الشباب من الاستخدام العشوائي للذكاء الاصطناعي    السجن 5 سنوات لنائب رئيس جهاز مدينة القاهرة الجديدة بتهمة الرشوة    محافظ أسوان: مشروع متكامل للصرف الصحي ب«عزبة الفرن» بتكلفة 30 مليون جنيه    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يتفقد مستشفى الصدر والحميات بالزقازيق    رئيسة المنظمة الدولية للهجرة: اللاجئون الروهينجا في بنجلاديش بحاجة إلى ملاجئ آمنة    مناقشة تحديات المرأة العاملة في محاضرة لقصور الثقافة بالغربية    التعاون الإسلامي والخارجية الفلسطينية يرحبان بقرار جزر البهاما الاعتراف بدولة فلسطين    أسهم أوروبا تصعد مدعومة بتفاؤل مرتبط بنتائج أعمال    كريستيانو رونالدو يأمر بضم نجم مانشستر يونايتد لصفوف النصر.. والهلال يترقب    المشدد 10 سنوات لطالبين بتهمة سرقة مبلغ مالي من شخص بالإكراه في القليوبية    أمين الفتوى يحذر من تصرفات تفسد الحج.. تعرف عليها    أحدثهم هاني شاكر وريم البارودي.. تفاصيل 4 قضايا تطارد نجوم الفن    11 جثة بسبب ماكينة ري.. قرار قضائي جديد بشأن المتهمين في "مجزرة أبوحزام" بقنا    فرقة الحرملك تحيي حفلًا على خشبة المسرح المكشوف بالأوبرا الجمعة    «8 أفعال عليك تجنبها».. «الإفتاء» توضح محظورات الإحرام لحجاج بيت الله    رئيس قطاع التكافل ببنك ناصر: حصة الاقتصاد الأخضر السوقية الربحية 6 تريليونات دولار حاليا    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    محافظ كفر الشيخ: نقل جميع المرافق المتعارضة مع مسار إنشاء كوبري سخا العلوي    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    إخماد حريق في شقة وسط الإسكندرية دون إصابات| صور    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السيد يسين يكتب «رؤية للمستقبل»: من الثورة الشعبية إلى الدولة التنموية
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 02 - 2017

◄ 25 يناير انتفاضة شبابية تحولت إلى ثورة لكن لم يتبعها التجدد المؤسسى الكامل للنظام السياسى
◄ مررنا بفترة اضطراب عظمى على مستوى الممارسة السياسية حتى ظهر التغيير الجذرى بعد 30 يونيو
◄ النظام السياسى الجديد أعاد صياغة دور الدولة وتوجيهه للتنمية والمشروعات القومية
◄ 4 مجالات ينبغى أن تشارك فيها الأحزاب الآن قبل أن تنتقل إلى المرحلة الأصلية فى التجديد
◄ أحزابنا تعيش فى «غيبوبة سياسية» وقادتها لا يدركون التغيرات الكبرى فى العالم
◄ هناك أزمة عالمية كبرى فى مجال الممارسة الديمقراطية تتراكم سلبياتها منذ السبعينيات
◄ ظهور اتجاه قوى فى عالم السياسة يقرر بلا مواربة أن عهد التمثيل النيابى خيب آمال الجماهير ووصل إلى منتهاه
◄ مفهوم «الدولة التنموية» مستقر منذ عام 1982 وقدم الحل لسقوط الرأسمالية التقليدية

شهدت مصر ثورة كبرى فى 25 يناير من عام 2011 أعقبتها 30 يونيو من عام 2013، موجة ثورية عاتية كانت الأولى فى مواجهة أحد أعتق النظم السلطوية فى التاريخ بقيادة حسنى مبارك والنخبة السياسية المحيطة. وقد نجحت هذه الثورة فى إسقاط نظام مبارك وحاشيته، إلا أنها اتخذت مسارات عديدة حادت عن الهدف الذى قامت من أجله وهو مواجهة نظام الحكم التسلطى واسترداد الحريات المسلوبة واحترام الإرادات الشعبية، الأمر الذى لم يتحقق خلال عام على حكم الإخوان المسلمين.
ولذلك استدعى الامر القيام بموجة ثورية أخرى لتصحيح مسار ثورة يناير وإعادة الأمور لنصابها الصحيح، وهو ما تبدى فى 30 يونيو. ولكى نتحاشى التحيزات الأكاديمية تجاه التسمية المتعلقة بما حدث فى يونيو، فإننا نبادر الى القول بأن الجيش كان وما زال أحد معادلات القوى فى النظام السياسى المصري. ففى واقع الأمر لولا تدخل الجيش وانحيازه الى المطالب الشعبية لما نجحت الموجات الثورية فى يناير فى إسقاط نظام مبارك، كما أن دعم الجيش فى خلال أحداث يونيو للموجة الثورية كان له أثر بالغ الأهمية فى التعجيل برحيل الإخوان المسلمين عن السلطة واستئصال عناصرهم من أجهزة الدولة المختلفة وذلك بسبب قيام الجماعة بزرع عناصر لها فى كل أجهزة الدولة من قبيل الجيش والشرطة والقضاء وكثير من المواقع السياسية القيادية، كما أن استقواء الجماعة بعلاقاتها بتنظيمات إرهابية وجماعات مسلحة داخل وخارج البلاد وتعمد تعطيلها المصالح الحكومية بعد بيان عزل الرئيس الأسبق الدكتور محمد مرسى مثل دافعا لتدخل الجيش لفرض احترام إرادة الشعب المصرى التى عبرت عنها ملايين المصريين.
وخلال هذه الفترة، تعرضت مصر لأحداث جسام، نستعرضها هنا، من حيث الارهاصات والتداعيات والتطورات، وفى ضوء هذا الاستعراض، نتناول ما يجب أن يكون عليه النظام السياسى للدولة التنموية، فى ضوء ما شهدته مصر من أحداث سياسية وفى ضوء الخبرة المقارنة للنظم السياسية الأخري.
ليس هناك من شك فى أن ثورة 25 يناير واجهت تحديات عظمى فى مشروعها الثورى للقضاء على النظام السلطوى الذى هيمن على الساحة السياسية لمدة ثلاثين عاماً كاملة.
وأخطر هذه التحديات قاطبة هو كيف يمكن حشد الأنصار لفكرة الاحتجاج والانتفاض الثورى ضد النظام؟
ويمكن القول بناء على دراسة دقيقة، إن مقدمات الثورة كانت لها صور بارزة فى مجال المجتمع الواقعي، وتجليات مهمة فى ميدان الفضاء المعلوماتي.
ولعل أبرز المعارك ضد النظام السياسى القديم فى مجال المجتمع الواقعى تتمثل فى النقد السياسى العنيف للسياسات المطبقة وللظواهر السلبية. وبالإضافة إلى التحقيقات الصحفية التى نشرت فى صحف المعارضة وحتى فى بعض الصحف القومية، ومن أبرزها جريدة «الأهرام» والتى كشفت عن مواطن متعددة للفساد، فإن مجموعة من الكتاب والمثقفين مارسوا النقد الاجتماعى المسئول للسياسات المنحرفة، وإذا كان النقد الاجتماعى المسئول للسياسات المنحرفة للنظام السياسى السابق كان أحد الأسباب الرئيسية التى جعلت الثورة تختمر فى نفوس وعقول مئات الآلاف من الشباب الذين مارسوا التفاعل الاجتماعى باقتدار عبر شبكة الإنترنت، فمما لا شك فيه أن الحركات الاحتجاجية التى نشأت وأسست لحق التظاهر فى الشوارع، وأبرزها حركة «كفاية»، كانت من بين العوامل المؤثرة فى تحريك الشارع وتحويل البحيرة الراكدة للممارسة السياسية السلطوية إلى محيط زاخر بالأعاصير الثورية إن صح التعبير.
وبالإضافة إلى حركة كفاية التى كان مؤسسوها خليطاً من الشيوخ والكهول أصحاب الخبرات النضالية السابقة، بالإضافة إلى عناصر الشباب القادمين حديثاً إلى مجال العمل السياسي، فقد نشأت حركات شبابية خالصة أبرزها حركة شباب 6 أبريل، التى وقفت إلى جانب إضراب عمال المحلة الكبري.
غير أن النقد الاجتماعى العنيف والحركات الاحتجاجية الجماهيرية لم تكن هى فقط من أسباب اختمار الثورة، ولكن أضيف إليها الحركات المطلبية للموظفين والعمال، والذين قاموا باعتصامات علنية فى الشوارع المحيطة بمجلس الوزراء ومجلس الشعب والشوري، حيث ارتفعت صيحات الجماهير المدوية ضد سياسات النظام.
وقد حدث الانشقاق السياسى فى السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق «مبارك»، وقد عبرت عنه المظاهرات الجماهيرية والحركات الاحتجاجية السياسية، ومن أبرزها حركة «كفاية» الذى تجاسر أعضاؤها على النزول إلى الشوارع هاتفين «يسقط يسقط حسنى مبارك»، وكان ذلك فى الواقع إرهاصاً مبكراً بثورة 25 يناير.
لحظة اندلاع الثورة
لا شك أن أحد العوامل المهمة التى ساعدت على قيام عصر العولمة هو الثورة الاتصالية الكبري، والتى أبرز آلياتها البث التليفزيونى الفضائى غير أن شبكة الإنترنت التى ترمز إلى قيام فضاء عام لأول مرة فى تاريخ الإنسانية هو «الفضاء المعلوماتى Cyber Space»، أحدثت انقلاباً فى الحياة الإنسانية المعاصرة.
ولعل ثورة 25 يناير تعد النموذج الأمثل لفعالية الفيس بوك كآلية للتعبئة الثورية والحشد الجماهيري، مما أدى بعد التحام جماهير الشعب المصرى بكل فئاته بالثورة- إلى النجاح فى إسقاط النظام السياسى السلطوى المصري، وإجبار الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك على التخلى عن منصبه.
وفى تقديرنا أنه يكمن فى الإنترنت أو ما يطلق عليه «مانويل كاستلز» أكبر منظر معاصر للفضاء المعلوماتى «مجتمع الشبكة»، تفسير لماذا ثورة 25 يناير بغير قيادة.
ويكمن هذا التفسير فى أن التفاعل فى مجتمع شبكة الإنترنت أفقى وليس رأسياً. بعبارة أخرى الشبكة لا رئيس لها، والمتعاملون فى رحابها لا يتلقون تعليمات أو توجيهات من أحد، كما أنهم- بشكل عام- لا يخضعون للرقابة المباشرة من قبل أى جهة. هم أحرار تماماً يمارسون حريتهم فى التعبير عن أنفسهم، كما هو الحال فى المدونات والفيس بوك والتويتر.
كانت محصلة تفاعلات مركبة وتشبيكات معقدة، استمرت فترة طويلة من الزمن، وتضمنت انتقادات بالغة الحدة والعنف ضد النظام السلطوى المصري، وانتهت هذه الانتقادات بالاتفاق على النزول إلى ميدان التحرير يوم 25 يناير، وهو يوم عيد الشرطة.
غير أن أخطر ما فى الظواهر الفوضوية التى تتم تحت شعار «المليونيات الثورية» هو إذكاء روح العداء المطلق بين المتظاهرين ورجال الأمن، وإيجاد فجوة تتسع باستمرار بين الطرفين، وكأن هناك ثأرا لابد من تنفيذ أحكامه.
لاسيما أن الاحتجاج الثورى الذى مثلته ثورة 25 يناير لم يتوقف بعد حدوث الثورة، وذلك لأن هذه أول ثورة فى التاريخ لم يتح فيها لمن قاموا بها أن يحكموا مباشرة. لذلك فقد كانت بداية سلسلة من الاحتجاجات الثورية التى لم تنقطع منذ قيام الثورة، والتى اتخذت شكل المظاهرات «المليونية» فى ميدان التحرير أساساً، وفى غيره من ميادين العواصم الأخري.
لماذا لم تتوقف موجات الاحتجاج الثورى بعد الثورة؟
الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى تأمل حالة الوعى الثورى لدى شباب الثورة، والذى يتمثل أساساً فى السعى إلى تحقيق ديمقراطية مصرية غير مسبوقة.
وهذه الديمقراطية والتى تبدو أشبه بحلم بعيد المنال تقوم على أساسين، الأول منهما هو التصميم الشعبى على المشاركة الفعالة فى اتخاذ القرار، وذلك فى حد ذاته يعد رفضاً للنموذج السلطوى القديم فى احتكار عملية صنع القرار، والأساس الثانى هو الرقابة اليومية الدائمة على تنفيذ القرار.
بعبارة موجزة أرادت جموع شباب الثورة ممارسة نوع من «الديمقراطية المباشرة» من خلال مظاهرات ميدان التحرير، بحيث تصبح السياسة وأمورها ليست مهمة مجموعة من رجال السياسة المحترفين سواء كانوا معينين أو منتخبين، ولكنها مهمة جموع الشعب، ممثلة فى طلائعه الثورية الذين سبق لهم أن رفعوا شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وهكذا توالت «المليونيات» التى تعددت أسماؤها، وتنوعت شعاراتها من «جمعة الغضب» إلى جمعة «تصحيح المسار» غير أن هذه «المليونيات» من واقع الممارسة والرؤية النقدية- سرعان ما فقدت طابعها الثورى الأصيل، والذى كان يكشف عن التوافق السياسى لجماعات الثورة المختلفة على المطالب، فقد حدثت انشقاقات بين التيارات الدينية والتيارات الليبرالية.
غير أنه أخطر من هذه الانشقاقات السياسية، تحول المظاهرات الثورية إلى عنف جماهيرى جامح أصبح يهدد أسس الدولة ذاتها.
ومن هنا يمكن القول إن مسيرة الاحتجاجات الثورية أياً كانت شعاراتها ومطالبها المشروعة قد وصلت إلى منتهاها بعد أن تحولت إلى مظاهرات تنزع إلى التخريب شبه المتعمد للمؤسسات، والعدوان على قيم الثورة الأصيلة. وما كان ينبغى أن يدركه شباب الثورة ومن يقفون وراءهم من الإعلاميين والمثقفين أن السياسة لا يمكن أن تصنع فى الشارع السياسي، لأن القرارات وخصوصاً ما يتعلق منها بالأمن القومى تخضع -فى كل بلاد العالم- إلى ملاءمات وحسابات بالغة الدقة.
إطار نظرى لتحليل أحداث الثورة
ثورة 25 يناير بلا قيادة كما هو إجماع المحللين السياسيين. غير أن الثورة أيضاً بلا إيديولوجية بمعني، أنها لم تنطلق من مذهب سياسى ورؤية اجتماعية محددة، مما يكفل لها اتساق التطبيق بعد نجاحها فى إسقاط النظام القديم.
والسؤال المحورى هنا ما صحة الزعم بأن الثورة بلا إيديولوجية؟ وألا تكون شعاراتها الأساسية وهى الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية واحترام الكرامة الإنسانية إيديولوجية فى حد ذاتها، حتى لو لم تتشكل فى بنية فكرية متسقة لها جذورها المعرفية ومنطلقاتها النظرية؟
نستطيع أن نفهم لماذا ثورة 25 يناير بغير إيديولوجية. لأنها ببساطة تعبير بليغ عن حركة «ما بعد الحداثة» التى ترفض الإيديولوجيات الجاهزة التى تدعى أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، وتنطلق من شعارات أساسية استطاعت بها أن تحرك الملايين من جماهير المصريين.
وهى فى ذلك تتفق تماماً مع الاتجاه الغالب فى حركة ما بعد الحداثة وهو معاداة النظريات باعتبارها أنساقاً مجردة ومغلقة، وتريد استبدالها بحركة الحياة اليومية والتركيز على ديناميات التفاعل فى المجتمعات المحلية تلافياً لعملية التعميميات الجارفة التى تلجأ إليها النظريات، مما يؤدى إلى تغيب الفروق النوعية وإلغاء كل صور التعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية.
ثورة 25 يناير بلا إيديولوجية هذا صحيح، ولكنها انطلقت من شعارات أساسية هى الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية واحترام الكرامة الإنسانية تصلح فى المدى الطويل، ومن خلال الممارسات النظرية للمفكرين من كل الاتجاهات السياسية، وفى ضوء الخبرات الجماهيرية التى تتراكم أن يتم التأليف بين عناصرها تأليفاً خلاقا لتصبح هى بذاتها الموجه الرئيسى لعملية التغيير الاجتماعى والثقافى الجذرى التى تستهدف الثورة إلى تحقيقه.
إن الثورة لم تقم لمجرد إسقاط النظام القديم، ولكنها قامت أساساً لبناء مجتمع إنسانى جديد!
المرحلة الانتقالية
يمكن القول إن المشهد السياسى فى مصر فى المرحلة الانتقالية سادته ظواهر صاخبة متعددة تشارك فى إحداثها جماعات شبابية شتى لا تعرف هويتها السياسية على وجه اليقين.
بالإضافة إلى مجموعات متعددة من المثقفين الذين ركبوا موجة الثورة، وتصدروا المشهد الإعلامى للحديث باسمها، ويمارسون كل دعوات التطرف السياسى لإثبات أنهم أكثر ثورية حتى من شباب الثورة الأصليين الذى أشعلوا الثورة!
فقد ثبت أن ميدان التحرير الذى كان فى بداية الثورة معبراً حقاً عن الإرادة الشعبية فى مجال إسقاط النظام والضغط على الرئيس السابق حتى تنحى وفوض المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى إدارة شئون البلاد، تحول فيما بعد - بحكم دخول فئات متعددة لم تشارك فى الثورة منذ بدايتها، وتحول للأسف الشديد إلى ساحة للمزايدات السياسية، تقودها جماعات شتى تتخذ أسماء متعددة ولا تكاد تتفق على شىء محدد، بالإضافة إلى مشاركة أشخاص لا هوية لهم، يمارسون بشكل مفضوح الابتزاز السياسى عن طريق رفع شعارات فوضوية تهدف للوقيعة بين الجيش والشعب، من خلال المناداة بإسقاط المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتكوين مجلس رئاسى مدني.
ولقد وصلنا فى لحظة ما إلى نقطة حاسمة اختلطت فيها الثورة بالفوضي، ووصلت الممارسات إلى حافة الخطر، كما حدث من قطع الطرق العامة والدعوة الجاهلة لتعويق الملاحة فى قناة السويس، أو تعطيل الإنتاج. وإذا ولينا وجوهنا إلى الانفجار الاجتماعى فإننا سنواجه باللا معقول فى المطالبات الفئوية! كل الفئات سواء كانوا عمالاً أو موظفين فى الشركات أو فى الحكومة أو فى القطاع العام تمارس الإضرابات والاعتصامات، بل وتهاجم باستخدام كل وسائل البلطجة مكاتب المديرين ورؤساء المصالح، لدرجة أنه أحياناً يحبس المدير رهينة حتى يوقع على المطالب اللا معقولة التى ترفعها هذه الفئات المتعددة!
فوضى اجتماعية عارمة لا حدود لها، صحبتها مظاهر مؤسفة للانهيار الأخلاقي، مؤشراتها نسف كل قواعد التراتبية الاجتماعية التى نصت عليها القوانين ورسختها الأعراف المقبولة .
لقد ترتب على هدم الثورة للنظام السياسى القديم تصدر القوى السياسية التقليدية وأبرزها جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين للمشهد السياسي، بعد أن حصلوا على الأكثرية فى انتخابات مجلسى الشعب والشوري، فى حين انزوت ائتلافات شباب الثوار، بعد أن تشرذموا إلى مئات الجماعات الثورية المتنافسة تنافساً عقيماً على الزعامة الكاذبة والتواجد الإعلامي. وكذلك انكفأت القوى الليبرالية واليسارية فى هامش ضيق لا يكاد يسمح لها بأن تتنفس.
وأصبح المشهد السياسى معقداً غاية التعقيد من ناحية، بسبب نشوب صراعات سياسية بالغة الحدة والعنف من ناحية أخري. أما تعقد المشهد فيرد أساساً إلى الاضطراب الشديد فى مسيرة مرحلة الانتقال من السلطوية إلى الديموقراطية التى وضعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأقرتها القوى السياسية المختلفة، وإن كان بعضها حاول الانقلاب عليها بعد ذلك. وبالطبع فإن المناظرة العقيمة حول الدستور أولاً أو الانتخابات أولاً كانت من بين الأسباب التى أدت إلى انقسام الرأى العام السياسى حتى بعد ظهور نتيجة الاستفتاء.
ولكن الأخطر من ذلك كله المحاولة البائسة لجماعة الإخوان المسلمين لكى تهيمن هيمنة مطلقة على مجمل النظام السياسي، ليس فقط بالسيطرة الكاملة على مجلسى الشعب والشوري، بل والسعى أيضاً لإقالة حكومة «الجنزوري» وتشكيل وزارة إخوانية خالصة. وأحدث وقائع نزعة الهيمنة كانت ترشيح «الشاطر» لرئاسة الجمهورية باعتباره مرشحاً أصلياً، وترشيح «محمد مرسي» مرشحاً احتياطياً، والذى أضحى فيما بعد مرشح الجماعة بعد استبعاد الشاطر وكأننا فى دورى لكرة القدم!
وأجريت الانتخابات الرئاسية بالفعل فى سياق يتميز بتشتت القوى الثورية والليبرالية واليسارية.
ولو نظرنا إلى الانتخابات الرئاسية ونتائجها لوجدنا أن الرئيس الدكتور «محمد مرسي» لم يحصل إلا على نسبة 50% تقريباً ممن صوتوا فى حين أن ال 50% الباقية ذهبت إلى منافسه «أحمد شفيق» ولكن طبقاً لقواعد الديمقراطية التقليدية الشكلية أعتبر الدكتور «مرسي» فائزاً بفارق عدة آلاف من الأصوات! ومعنى ذلك أنه موضوعياً لا يمثل غالبية الشعب المصري.
ومنذ هذه اللحظة بدأ المخطط الإخوانى لأخونة الدولة عن طريق دفع كوادر الجماعة للنفاذ إلى مفاصل الدولة والمؤسسات المختلفة بها.
الموجة الثورية فى 30 يونيو
وبعد عامين تقريباً من اندلاع الثورة وبعد استحواذ جماعة الإخوان المسلمين على مجمل الفضاء السياسى المصرى نفاجأ بالإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس «محمد مرسي» والذى يتضمن نصوصاً لا سابقة لها فى التاريخ.
فهو إعلان دستورى ينصب من أول رئيس جمهورية منتخب ديكتاتوراً مطلق السلطات. وهو يمثل أخطر اعتداء على المبادئ الدستورية وعلى سيادة القانون، لأنه أراد نسف السلطة القضائية نسفاً، وإبطال أحكامها فى الماضى والحاضر والمستقبل. بل إنه حصن قراراته جميعاً من أى طعن عليها، وأعطى نفسه حق اتخاذ ما يشاء من تدابير فى حالات الخطر التى لم يعرفها تعريفاً دقيقاً.
وقد ترتب على هذا الإعلان الدستورى الديكتاتورى مقدمات ثورة شعبية حقيقية عمادها رفض القضاة القاطع للإعلان، والذى أعلنوه فى اجتماع حاشد بنادى القضاة، حيث أعلنوا تعليق أعمال المحاكم إلى أن يلغى الإعلان، أما القوى السياسية فقد قررت تشكيل جبهة وطنية بقيادة «البرادعي» و»عمرو موسي» و»حمدين صباحي» للوقوف صفاً واحدا ضد الإعلان الدستورى لإسقاطه.
هذا المأزق يمثل فى الواقع نهاية بالمعنى التاريخى للكلمة لحكم الإخوان المسلمين، وبداية استرداد ثورة 25 يناير لروحها الأصيلة التى تتمثل فى تأسيس ديمقراطية تشاركية ليس فيها إقصاء سياسي، ولا تملك لسلطة مطلقة لا معقب عليها. لقد انتهى عصر الديكتاتورية إلى الأبد!
ويمكن القول -بدون أدنى مبالغة- إن الثورة الجماهيرية التى اشتعلت فى ميدان التحرير وأمام قصر «الاتحادية» وفى ميادين مصر الأساسية، تعنى بكل وضوح سقوط الشرعية السياسية لرئيس الجمهورية، لأن الإرادة الشعبية التى قبلت ديمقراطياً بنتائج الانتخابات الرئيسية سحبت موافقتها احتجاجاً على محاولاته الدائبة لانفراده المطلق بالسلطة، وكأن لسان حال الجماهير أننا لم نتخلص من ديكتاتورية «مبارك» لتحل محلها ديكتاتورية «مرسي».
لم تدرك جماعة الإخوان المسلمين أنها فقدت شرعيتها السياسية كفصيل سياسى بعد العدوان الهمجى الذى قام به أعضاؤها على المظاهرات السلمية أمام مقر الاتحادية.
وفى تقديرنا أنه فى الممارسة السياسية الصحيحة لا يجوز الاعتماد فقط على آليات الديمقراطية والتى تتمثل فى نتائج «الصندوق»، وإنما لابد من احترام قيم الديمقراطية التى تقوم على أساس التوافق السياسى والتعبير الصحيح عن الجماهير العريضة.
عودة الدولة التنموية
بقيام الثورات فى بلاد الربيع العربى لا يجوز أن نتحدث عن التحول أو الانتقال الديمقراطي، لأن الثورة بحسب التعريف- من شأنها أن تعيد بالكامل صياغة أدوار أطراف المعادلة السياسية، ونعنى الدولة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني. والدليل التاريخى على ذلك أنه بقيام ثورة 23 يوليو 1952 التى بدأت بانقلاب عسكرى قام به الضباط الأحرار بقيادة «جمال عبد الناصر» وتحولها إلى ثورة بعد تبنيها لمشروع العدالة الاجتماعية الذى صاغته القوى الوطنية المصرية قبل الثورة ذاتها، أعيد صياغة دور الدولة والأحزاب السياسية والمجتمع المدنى بالكامل.
تحولت الدولة من دولة شبه ليبرالية فى ظل دستور 1923 إلى نموذج جديد تماما هو «الدولة التنموية» التى تتولى إعادة صياغة المجتمع من خلال قوانين الإصلاح الزراعى لتحرير الفلاحين المصريين من ربقة النظام شبه الإقطاعى الذى كان سائدا، والاندفاع فى التخطيط التنموى الشامل والذى ركز على التصنيع أساساً. ويشهد على ذلك الخطة الخمسية الأولى والخطة الخمسية الثانية.
وفيما يتعلق بدور الأحزاب السياسية فقد رأت الثورة بعد بروز سلبية ممارساتها فى الفترة من 1950 حتى 1952 - خصوصا فشلها فى حل «المشكلة الوطنية» التى تتعلق بإجلاء الإنجليز، و»المشكلة الاجتماعية» والتى تتمثل فى الفجوة الطبقية الكبرى بين الأغنياء والفقراء ضرورة إلغائها بالكامل. واستعانت الثورة عنها بتنظيم سياسى واحد قام بدور الحزب الأوحد وتمثل أولا فى «الاتحاد القومي» ثم أصبح هو «الاتحاد» الاشتراكى بعد تبنى الاشتراكية باعتبارها العقيدة السياسية للثورة.
أما المجتمع المدنى والذى كان مزدهرا إلى حد كبير قبل الثورة من حيث حرية التفكير والتعبير والتنظيم فى ظل تعددية سياسية فقد ضيق عليه الخناق، وأصبح «الخطاب الاشتراكي» دون غيره من الخطابات الليبرالية أو الإسلامية هو الأعلى صوتاً.
فى ضوء هذه التجربة التاريخية ذهبت إلى أن النظام السياسى الجديد الذى ينبثق من ثورة 30 يونيو يعيد فى الواقع صياغة دور الدولة ويفسح الطريق واسعا وعريضا لعودة نموذج «الدولة التنموية» التى رسختها ثورة يوليو 1952، باعتبار أن مهمتها الرئيسية هى التنمية الشاملة من خلال القيام بمشروعات قومية كبرى وقد بدأ الرئيس «السيسي» هذا العصر التنموى الجديد فى مصر بمشروع «قناة السويس الجديدة» التى اعتمد فيها لأول مرة فى تمويلها على الاكتتاب الشعبى الذى نجح نجاحا ساحقا، وعلى الإدارة الهندسية للقوات المسلحة فى تنفيذه فى عام واحد بدلاً من ثلاثة أعوام كما كان مقدرا وتم ذلك على أعلى مستوي. وقد توج هذا المشروع القومى الكبير بافتتاح تاريخى حضره عديد من ملوك ورؤساء العالم.
وقد أعلن أيضا عن مشروع زراعة المليون ونصف المليون فدان، بالإضافة إلى مشروع بناء عاصمة جديدة. ويعنى ذلك أن «الدولة التنموية» عادت بأقوى مما كانت حتى فى الحقبة الناصرية، ولم تعد التنمية «إقطاعاً» للنظام الخاص كما فعلت الدولة فى عهد «السادات» أو فى عصر »مبارك» والذى تزاوجت فيه السلطة مع الثروة مما أدى إلى استفحال الفساد وإفقار ملايين المصريين.
وقد اكتشفت -عبر رحلة بحث علمية عميقة- أن مفهوم «الدولة التنموية» مستقر فى التراث العلمى الاجتماعى منذ أن نشر عالم السياسة الأمريكى المعروف «كالمرز جونسون» كتابه عن «الميتى MIIT»- وهو اختصار اسم وزارة يابانية المخصصة فى التنمية الاقتصادية والتجارة الدولة- والمعجزة اليابانية وذلك عام 1982 عن مطبعة جامعة كاليفورنيا.
ومنذ هذا التاريخ لم ينقطع الجدل العلمى حول مفهوم «الدولة التنموية» التى اعتبر جونسون اليابان نموذجا مثاليا ideal Type لها. وتعريف الدولة التنموية فى أدبيات الاقتصاد السياسى أنها تشير إلى ظاهرة الدولة التى تقود التخطيط الاقتصادى على المستوى الكلى فى شرق آسيا أساسا، وذلك فى العقود الأخيرة من القرن العشرين وفى هذا النموذج من نماذج الرأسمالية الذى يشار إليه أحيانا برأسمالية «الدولة التنموية» أنها الدولة التى لها استقلال وذاتية خاصة فى مجال القوة السياسية، بالإضافة إلى سيطرتها على الاقتصاد.
والدولة التنموية تتميز بالتدخل القوى فى مجال الاقتصاد، بالإضافة إلى سلطاتها الواسعة فى مجال التنظيم والتخطيط.
وهناك اتجاهان فى وصف الدول التى تتدخل فى مجال الاقتصاد.
الاتجاه الأول فى مجال العلاقة بين رجال الأعمال والحكومة وهو يركز على تنظيم المنافسة الاقتصادية لا أكثر ولا أقل مثل الولايات المتحدة الأمريكية، والاتجاه الثانى لا يقنع بتنظيم المنافسة وإنما تقوم الدولة فيه نفسها بالتنمية تخطيطا وتنفيذا، ويمكن أن يشارك القطاع الخاص فى هذا المسعي. ومن هنا يختلف هذا النموذج عن النموذج الرأسمالى التقليدى الذى ينفرد فيه القطاع الخاص بجهد التنمية. ويمكن القول إنه منذ أن صك «جونسون» مفهوم الدولة التنموية والجدل لم ينقطع حول سلبياتها وإيجابياتها.
وذلك لأن النموذج الرأسمالى الخالص لا يحبذ إطلاقا تدخل الدولة فى الاقتصاد، لأن «اليد الخفية» -كما قرر من قبل «آدم سميث»- هى التى ستقوم بالتوازن المطلوب بين العرض والطلب.
غير أن هذا النموذج الاقتصادى الرأسمالى الكلاسيكى سقط فى الأزمة المالية التى ضربت الاقتصاد الأمريكى فى عام 2008، والتى كانت فى الواقع «أزمة اقتصادية»، لأن الرئيس الأمريكى «أوباما» اضطر إلى أن يضخ أكثر من 600 تريليون دولار لإنقاذ الشركات الرأسمالية والبنوك الخاصة التى أفلست.
لذلك فالسؤال المطروح فى العالم الآن هو ماذا بعد سقوط النموذج الرأسمالى التقليدي؟ والإجابة هى لابد أن تتدخل الدولة اقتصاديا بشكل ما وبدرجة ما، ولكن الحيرة البالغة أمام أكبر علماء الاقتصاد الغربيين هى سؤال إلى أى مدى للدولة أن تتدخل؟
والواقع أن مفهوم الدولة التنموية قد حلّ المشكلة من جذورها، لأن هذه الدولة لا تفتح الباب واسعا وعريضا للقطاع الخاص ورجال الأعمال لكى يستثمروا أموالهم كما يشاءون وفى أى ميدان، ولكنها ترسم فى الواقع سلفاً «خريطة تنموية» تحدد مجالات الاستثمار التى ترغب الدولة أن يشاركها القطاع الخاص فيها، مثل ميدان الطاقة فى مصر مثلا، أو ميدان تحلية مياه البحر، أو ميدان المصانع الكثيفة العمالة التى يمكن أن تسحب الآلاف من مجال البطالة الدائمة أو المؤقتة.
إعادة صياغة النظام السياسى بالكامل
لا يدرك عديد من الباحثين العلميين والناشطين السياسيين أننا نعيش بعد 25 يناير وعلى الأخص بعد 30 يونيو عصرا سياسيا جديداً لا علاقة له بالنظام السياسى قبل 25 يناير الذى أسقطته ثورة الشعب.
ولو شئنا أن نوصف بدقة هذا العصر السياسى الجديد لقلنا إننا نعيش فى الواقع فى مجتمع ما بعد الثورة. وهذا المجتمع قد قطع نهائيا مع دعاوى الإصلاح الديمقراطى التى كانت سائدة فى العشر السنوات الأخيرة من حكم «مبارك» بتأثير ضغوط الخارج ومطالب الداخل. وذلك لسبب بسيط أن الثورة وليس الإصلاح أصبحت هى الشعار، والثورة -بحسب التعريف- تعنى إعادة صياغة كاملة للنظام السياسى بمفرداته الأساسية. وأول هذه المفردات الدولة، وثانى هذه المفردات الأحزاب السياسية، وثالث هذه المفردات مؤسسات المجتمع المدني.
ومعنى ذلك أنه بقيام 25 يناير والتى بدأت بانتفاضة شبابية من أجل الحرية وحقوق الإنسان وانتهت بثورة شعبية شارك فيها ملايين المصريين، كان المفروض أن يتبعها التجدد المؤسسى الكامل لمفردات النظام السياسى الذى سقط وهى الدولة والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني.
ولكن بعد فترة اضطراب عظمى فى الممارسة السياسية بين 25 يناير و 30 يونيو لم يحدث فيها أى تجدد مؤسسى للنظام السياسي. غير أن التغيير الجذرى ظهر فى الواقع بعد 30 يونيو وخصوصا بعد وضع الدستور الجديد وانتخاب «عبد الفتاح السيسي» رئيسا للجمهورية. وسرعان فى العام الأول لحكمه- ما عادت ما أطلقنا عليها «الدولة التنموية» والتى كان نموذجها البارز الدولة فى ظل ثورة 23 يوليو 1952 والتى قادها الزعيم «جمال عبد الناصر». وهذه الدولة هى التى رسمت الخريطة التنموية للبلاد، ليس ذلك فقط بل قامت هيئاتها وخصوصا بعد التأميم والتمصير فى عام 1956- بالتنمية بواسطة شركات القطاع العام، بالإضافة إلى قوانين الإصلاح الزراعى التى غيرت الوضع الطبقى للفلاحين، والإصلاحات فى قانون العمل والتى نهضت بأوضاع العمال بصورة غير مسبوقة.
وهكذا عادت فى بداية عهد «السيسي» الدولة التنموية لتلعب الدور الأساسى فى التنمية أقوى من عصر «عبد الناصر». ولأول مرة فى تاريخ رؤساء الجمهورية يقود «السيسي» مفاوضات التنمية والاستثمار مع قادة الدول الكبرى ومع كبار المديرين بها، إعلانا جهيرا على أن الدولة الجديدة بعد 30 يونيو مهمتها الأساسية هى التنمية، والقضاء على التخلف فى كل الميادين والتى تراكمت مشكلاته منذ عشرات السنين.
ومعنى ذلك أن الدولة وهى الطرف الأساسى فى أى نظام سياسى قد تجددت بعد ثورة 25 يناير وأصبحت مهمة التنمية القومية هى رسالتها الأساسية، وليس فى ذلك أى استبعاد لرجال الأعمال مصريين أو عربا أو أجانب، ولكن بشروط الدولة وتحت رقابتها وبدون الفساد الذى سبق أن نهب الثروة القومية.
ولكن يثور السؤال البالغ الأهمية: هل تجددت الأحزاب السياسية بعد الثورة وهل تجددت مؤسسات المجتمع المدني؟
والإجابة القاطعة لا للأسف الشديد. لأن الأحزاب القديمة أو الجديدة تعيش فى «غيبوبة سياسية» ولا يدرك قادتها التغيرات الكبرى التى حدثت فى الممارسة السياسية فى دول العالم المختلفة. والدليل على ذلك أن هناك أزمة عالمية كبرى فى مجال الممارسة الديمقراطية وتتراكم سلبياتها منذ سنوات بعيدة.
ويمكن القول إن نظريات أزمة الديمقراطية ظهرت فى السبعينيات من القرن الماضى ويرد الباحثون هذه الأزمة إلى أسباب متعددة أهمها على الإطلاق الأزمات الاقتصادية التى لم تستطع الحكومات مواجهتها بسياسات فعالة. وكذلك التأثيرات السلبية للعولمة وأخطرها على الإطلاق تزايد ظاهرة عدم المساواة فى توزيع الثروة القومية.
فى ضوء الملاحظات ظهر اتجاه قوى فى عالم السياسة يقرر بلا مواربة أن عهد السياسة النيابية قد وصل إلى منتهاه بعد أن خيب آمال الجماهير التى وضعت ثقتها فى الأحزاب السياسية من اليمين أو الوسط أو اليسار، نتيجة فساد عملية «التمثيل» representation والتى تعنى أن عددا من النواب يتم انتخابهم وينوبون عن الجماهير ويعبرون عن مصالحها فى المجالس النيابية.
ولذلك ستحدث فجوة عميقة بين هذه الدولة التنموية الناهضة فى مصر وبين الأحزاب السياسية. ونحن لا نريد أن يصدر قرار سلطوى بإلغائها أو تجميد حركتها باعتبارها معوقة لعملية التنمية، ولكن نريد منها أن تتجدد وتعيد صياغة نفسها بالكامل لتصبح أحزابا تنموية. كيف؟ هذا هو السؤال.
وبعدما غصت بالعمق فى القراءات النظرية ودرست منهجيا دراسات حالة متنوعة من الشرق والغرب أدركت أن التجديد الحزبى لن يجدى إذا كان منقولا من أى تجربة ديمقراطية خارجية أيا كانت، وأننا فى حاجة إلى إبداع نموذجنا الخاص والذى يؤسس لديمقراطية مصرية جديدة، وقد يصبح فيما بعد- نموذجا يحتذى فى العالم .لم لا؟
وقد توصلت إلى مجموعة من الآراء المترابطة فى مجال تجديد الأحزاب السياسية المصرية لنفسها على أساس ضرورة أن تمر أولا بمرحلة انتقالية، قبل أن تنتقل إلى المرحلة الأصيلة فى مرحلة التجديد.
ينبغى أن تشارك الأحزاب السياسية الراهنة- بعد أن تعد نفسها نظرياً وعملياً- الدولة فى أربعة مجالات رئيسية.
المجال الأول هو وضع رؤية استراتيجية لمصر. والرؤية الاستراتيجية بحسب التعريف هى السياسات المتكاملة والمترابطة لبلد ما فى العشرين عاما القادمة. ولذلك نجد أن هناك رؤى عالمية متعددة، فهناك رؤية استرايتجية أمريكية منشورة. وهناك رؤية استراتيجية إسرائيلية، وهناك رؤية استراتيجية ماليزية إلى آخر ذلك.
والمجال الثانى أن تشارك الأحزاب السياسية على تنوعها الدولى فى وضع «الخرائط التنموية». وهذا مجال بالغ الأهمية لأنه هو الذى سيحدد منهج الاختيار بين البدائل التنموية وضعا فى الاعتبار مقياس التكلفة -العائد.
والمجال الثالث هو المشاركة فى اتخاذ القرارات التنموية، حتى لا تنفرد الدولة بجهازها البيروقراطى أو بمجموعة من خبرائها باتخاذ القرار.
لأنه لو حدث ذلك كما كان الحال فى القرار الخاص بتوشكي- لكان معنى ذلك احتمال أن تخسر خزانة الدولة عشرات المليارات فى مشاريع فاشلة لم تكن تصلح لإقامتها منذ البداية.
المجال الرابع والهام هو مشاركة الدولة فى الرقابة على تنفيذ القرارات التنموية.
وفى تقديرنا أن هذه المشاركة فى الرقابة يمكن أن تكون إحدى الوسائل الفعالة فى مقاومة الفساد المؤسسى الذى انتشر للأسف فى البلاد. ونحن نرى أن هذه المرحلة الانتقالية فى مجال التجديد المؤسسى للأحزاب السياسية المصرية التقليدية هى التى ستقود إلى المرحلة الثانية والتى نصفها بأنها المشاركة الفعلية فى جهود التنمية المستدامة التى تقوم بها الدولة التنموية.
وهذه المشاركة ينبغى أن يكون شعارها «التنمية من أسفل»، بمعنى ضرورة نزول الكوادر الحزبية المؤهلة إلى العواصم والأقاليم والقرى والنجوع لدراسة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الجسيمة التى تعانى منها الجماهير، وتستمع بدقة إلى مطالب الناس وتصوراتهم عن احتياجاتهم.
ولا يغيب عن بالنا أن قيام الأحزاب السياسية المصرية بهذه الوظائف التنموية المتعددة يستدعى إعادة هيكلة كاملة للأجهزة الحزبية، وإعداد الكوادر المؤهلة فى مجال البحث العلمى والخبرة التكنولوجية لكى تقوم بهذه المشاريع.
غير أنه إذا تركنا هذه التجديدات الجوهرية فى مجال وظائف الأحزاب السياسية المصرية التقليدية حتى تكون مواكبة ومتناغمة مع الدولة التنموية الصاعدة، فلابد من قيام هذه الأحزاب «بثورة مؤسسية» إن صح التعبير- من شأنها القضاء نهائيا على البيروقراطية الحزبية، ووضع تقاليد رفيعة المستوى لدوران نخبة القيادات الحزبية، بحيث لا تبقى قيادة حزبية ما -أيا كان موقعها- أكثر من عامين سعيا وراء تجديد دماء الحزب، والدفع بصفوف الشباب إلى الأمام، وتفريخ القيادات الحزبية والتى ستصبح من خلال الممارسة «رجال الدولة» فى قابل الأيام.
غير ان كل صور التجديد الفكرى والوظيفى والمؤسسى التى أشرنا إليها لن يتاح لها أن تكتمل إلا من خلال التشبيك مع باقى الأحزاب السياسية ومع الدولة.
لأن الهدف المقدس هو النهوض الشامل بالمجتمع الذى عانى عشرات السنوات من السلطوية القاهرة، ومن الحزبية المعوقة، ومن الفجوة الطبقية الكبرى بين من يملكون ومن لا يملكون فى ريف مصر وحضرها على السواء.
المجتمع المدنى من المطالبات الحقوقية إلى الشراكة التنموية
ليس هناك من شك فى أن مؤسسات المجتمع المدنى -وخصوصا التى تخصصت فى مجال الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان- قد لعبت دورا رئيسياً فى معارضة النظام السلطوى الذى قاده عبر ثلاثين عاما كاملة الرئيس السابق «مبارك».
ولو راجعنا تاريخ هذه المنظمات الحقوقية ونشأتها فى مصر وتطور ممارساتها وصداماتها مع نظام «مبارك» لاكتشفنا أنها كانت موضع جدل شديد، سواء فى الصحافة أو فى المجتمع السياسي، وذلك لأسباب متعددة لعل أهمها على الإطلاق علاقاتها المباشرة بمصادر التمويل الأجنبية سواء كانت دولا فى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، أم تنظيمات عالمية تحض صراحة على إسقاط النظم الشمولية والسلطوية.
وأثيرت بهذا الصدد اتهامات شتى لقادة هذه المنظمات الحقوقية سواء بالعمل فى إطار مخططات أجنبية لإسقاط النظام، أو بالتربح من هذا النشاط الحقوقي.
وقد حاولت بعض هذه المنظمات الحقوقية بعد ثورة 30 يونيو الاستمرار فى نهجها القديم من تحدى سلطة الدولة كما ظهر من مظاهراتها التى نظمتها لمعارضة قانون التظاهر، ومعنى ذلك أن قادة هذه المنظمات الحقوقية لم يدركوا عمق حجم التغير السياسى الذى أعقب 30 يونيو.
فما حدث بعد إعلان خارطة الطريق -وخصوصا إصدار دستور جديد وانتخاب «السيسي» رئيسا للجمهورية والإعداد للانتخابات النيابية- كان يعنى نهاية «الشرعية الثورية» التى سادت بعد 25 يناير، والتى خلطت خلطا معيبا بين الثورة والفوضي، وكانت سببا فى مصادمات دامية بين مظاهرات غوغائية وقوات الأمن والقوات المسلحة، وبداية الشرعية الدستورية التى تقوم على احترام مؤسسات الدولة الجديدة التى نشأت بعد سقوط حكم الإخوان الديكتاتوري.
وهذه الدولة التى أخذت ملامحها تتضح بالتدريج من خلال مبادرات الرئيس «السيسي» هى التى أطلقت عليها «الدولة التنموية«.ولذلك فنحن ندعو هذه المنظمات وخصوصا المنظمات الحقوقية التى كانت تملأ الدنيا ضجيجا وصخبا حول مخالفات حقوق الإنسان، والتى كانت تحصل على منح مالية ضخمة من الجهات الأجنبية للقيام بأدوار تافهة مثل رقابة الانتخابات رئاسية كانت أو نيابية، أو تنظيم الاحتجاجات الجماهيرية أن تتحول لتصبح مؤسسات تنموية تشارك بفعالية فى جهود التنمية الشاملة.
وهذه الشراكة تعنى الاشتراك مع الأحزاب السياسية التنموية الجديدة فى صياغة رؤية استراتيجية للبلاد تحدد المسارات الرئيسية للدولة فى العشرين عاما القادمة، بالإضافة إلى الإسهام فى وضع الخرائط التنموية. ويبقى دورها الأهم وهو الاشتراك مباشرة فى عملية التنمية عن طريق مشروعات تخطط لها وتديرها وتنفذها على المستوى القومي، وعلى مختلف المستويات المحلية بحكم قدرتها -من خلال توزيعها الجغرافى على الوصول إلى الجماهير العريضة فى القرى والنجوع وعواصم الأقاليم المختلفة.
كما اننى اليوم وبعد اطلاع دقيق على عدد من الوثائق الدولية- أقرر أن مؤسسات المجتمع المدنى هى التى عليها أن تقوم بدور الرقابة على مشروعات الدولة ايضا.
وقد اكتشفت أن هذا الدور أصبح معترفا به فى الأمم المتحدة وفى عديد من البلاد. وتحت يدى وثيقة هامة بعنوان «دور منظمات المجتمع المدنى فى الحوكمة» صادرة عام 2005 وكتبها الباحث الكورى «أسيها جوس باشا» فى إطار مطبوعات منظمة «إعادة اختراع الحكومة: نحو حكومة تشاركية وشفافة».
وهو يتحدث بالتفصيل عن الدور الرئيسى لمنظمات المجتمع المدنى فى الإسهام فى التنمية المحلية ومكافحة الفقر، وأن لها دورا أساسيا فى مجال مشاركة الدولة ومحاسبتها -وفق معايير شفافة- على إنجازاتها التنموية.
غير أن بنك التنمية الأفريقى أصدر عام 2012 وثيقة متكاملة بعنوان «إطار للإسهام الفعال لمنظمات المجتمع المدنى فى التنمية» قرر فيه أنه لا تنمية حقيقية بدون إسهام فعال لمؤسسات المجتمع المدني.
غير أن الوثيقة الأهم بين هذه الوثائق هى الوثيقة التى أصدرتها هيئة CAFOD وشعارها «عالم عادل واحد» وهى هيئة التنمية التابعة للكنيسة الكاثوليكية فى إنجلترا وويلز وعنوانها «الرقابة على سياسات الحكومة: مجموعة أدوات لرقابة مؤسسات المجتمع المدنى على الحكومة فى أفريقيا».
وتقول هذه الوثيقة البالغة الأهمية فى مقدمتها «تخيل عالما حيث يساعد فيه المواطنون فى تقرير ما الذى ينبغى أن تفعله الحكومة لمواجهة الفقر، وحيث يراقب فيه المواطنون بعيون ثاقبة كيف تمارس الحكومة تطبيق سياساتها التنموية، وحيث يطلع المواطنون حكوماتهم على آرائهم فى برامجها، وحيث تستجيب الحكومات بصورة إيجابية لملاحظات المواطنين، وحيث إذا اتضح أن سياسة حكومة ما خاطئة فإن الدولة تقلع عنها وتغيرها، هو عالم يقوم على الحوار البناء بين المواطنين وحكوماتهم».
فى ضوء هذه المواجهات الرئيسية تشرح الوثيقة الأدوات المختلفة التى يمكن للمواطنين استخدامها للرقابة على برامج الدولة التنموية.
وهكذا يمكن القول إنه عكس ما قد تتهم به «الدولة التنموية» بأنها دولة سلطوية فإنها فى الواقع إذا ما تجددت كل الأطراف السياسية من أحزاب ومؤسسات للمجتمع المدنى ونخبة سياسية وثقافية- تصبح دولة المشاركة الجماهيرية فى مجال التنمية القومية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.