عصرَ يومٍ من الأسبوع الفائت، وأنا عائد من عملى إلى البيت، استوقفنى مشهد لسيدة عجوز تجلس على سُلَّمِ العمارة، تعانى البحث فى حقيبةِ يدِها وملابسها، والحارس يطوف المدخلَ وخارجه؛ بحثًا عن مفتاحٍ مفقود، وحين هممتُ بعرض المساعدة، قدمها لى الحارس قائلًا: إنها الجارة الجديدة التى تسكن فى الدور السابع، وفقدت مفتاح شقتها، وأضافت السيدة العجوز أنها هاتفت ابنتها، التى تعمل خارج نطاق المحافظة وتنتظرها. عرضت على السيدة أن أستضيفها فى شقتى -إذا ما قبلت- مع زوجتى وأولادي لحين وصول ابنتها، فاستجابت على الفور شاكرةً وممتنةً. جلست السيدة العجوز بين زوجتى وابنى البكر، وفى عينيها -التى تمسح المكان- بدت لمعةٌ لطفلةٍ حازت مطلبًا، وبدا من يديها حنوٌّ فائضٌ لأصابع ملمة بمشاعر التصحر الإنسانى لدى الجميع. ربتت على ظهر ابنى المرتعش خوفًا من العقاب، بعد أن سكب بعض قطرات وهو يصب لها كوبًا من الماء، مسحت شعر الصغيرة الخجولة التى يصيبها الخرسُ والتجمدُ فى حضور الغرباء، أَنِسَت لها الطفلة وتمسحت بها كقطة، بل وماءت لها ببعض الأحرف الغامضة التى انعكست على وجهها الصغير ترحيبًا وأمانًا، حين اندست تحت ذراع السيدة العجوز وهى تضمها تحت طرحتها البيضاء، وحين استكانت حركةُ الصغار فى حضرتها، أمسكت بكف الزوجة، وحثتها على مواصلة عملها فى المطبخ، ومواصلة حركتها فى بيتها دون أية قيود أو تحسس من وجودها. لا أنكر أننى نلت بعض البث لموجاتِ الحنو الصادرة من يديها، حين أحطتُ جذعها الضامر لأساعدها على النهوض من فوق السُّلَّم: «تعالى ياماما». نطقتُها بعفوية، دون أن أتعمد سقوط قطرتى الدمع الدافئتين على كفى حين مالت تستقوى بذراعى على النهوض. مرت عدة أيام، لم أرَ فيها جارتنا العجوز، حتى إننى ذات مرة فى حديثى مع الحارس تطرقت إلى السؤال عنها، فأجابنى بجملة مقتضبة: «هى بخير يا بيه». أمس ساقتنى الصدفة حين عدتُ مبكرًا لرؤيتها، فى صحبة جارٍ أعرفه جيدًا يسكن الدور الذى يلينا، مشهدٌ ليس بعيدًا عن ذاكرتى،الرجل يطوِّقها بذراعه، ويدلفان معًا إلى «الأسانسير» والبعض يصطف مفسحًا لهما، وحين اقتربت من الجمع، كانا قد صعدا، سألتهم والحارس عمَّا إذا كان هناك ما يسوء الجارةَ العجوز، أو أن ثمة أمرًا آخر لا أعرفه! أجابنى أحدهم فى لهجة تشوبها السخرية: »عادى مَفيش حاجة. الحاجَّة ست كبيرة ومالهاش حد، غلبانة«، رد جارٌ آخر بأسلوب استدرار العطف لحالها. لم أقنع بإجاباتهم تلك، وسألت الحارس: «يعنى اللى ركبت معاه ده قريبها»؟ «يا بيه كل اللى هنا قرايبها، الست وحيدة ومالهاش حد، كل يوم تنزل الحوش تدور على المفتاح، ومفتاحها فى رقبتها مْدَّلى! لحد ما ييجى ابن حلال زى حضرتك يضايفها حِداه». قال الحارس فى وصفٍ تقريرى للواقع! يومئ الجاران بصحة كلام الحارس، ويطرق أحدهما إلى الأرض، والآخر إلى وميض الأسانسير فى تأفف. أتحسس ملابسى جيدًا، أتأكد من وجود مفتاحى، أزفر حين يخرج بين أصابعى، ساخرًا!..أضمه.