حين ضجت جدران منزله بأسئلته التى يتردد صداها فى مسامعه، كان قد شعر بالملل من صوت اصطدام الأحذية بالطرقات، وجلبة العربات المسرعة وهى تئز، وهسيس الأوراق التى جمعتها الريح أسفل نافذته الموصدة بقضبان الأمان، ومتاريس السكينة، قرر فى محاولة بائسة أن يأتنس بها. وفى رتابة اعتادها، وفى تثاقل سكن مفاصله, سلك الطريق إليها..عبر مقابر «الغفير» حيث ترقد الزوجة منذ ما انفرط من ذاكرته ومل حسابه. وجد البوابة مُشرعة والممر نظيفاً، رجح أنه الحارس، توغلت قدماه أكثر, حين طرق مسامعه صوت دافيء لأغنية تصدح فى المذياع: «ابعد يا حب باقولك لأه ولا عمرى هغلط يوم وأقولك آه» خطت ساقاه فى حذر، يملؤه ألف سؤال وتتملكه الرهبة. من مقابر العائلة التى لم يطأها طوال أعوام أقعده فيها المرض، تسربت إلى أنفه رائحة طعام لم يحدد كنهها.. هى مزيج من رائحة الثوم النفاذة وبعض المواد الحريفة. كانت تصله الرائحة من شقى الضلفتين المشرعَتين على الممر، بينما يتنامى إلى مسامعه صوت امرأة تنهر أحدهم بمودة: يا ضنايا لساه سُخن. اقترب أكثر فى وَجل، يحدث نفسه أن ثمة خطأ ما قد ارتُكب، تجسدت أمامه قبالة موقد مستطيل يرقد على منضدة خشبية تآكلت أطرافها.. تهدلت خصلاتها فى عفوية فوق الكتفين، ابتلع ريقه.. مسح العرق المتصبب على جبينه.. فرك عينيه.. نهر ذهنه الخَرِف عن الخوض فى التفاصيل، مد بصره يتفحص الجوار، إنهما فتاتان صغيرتان ترتكز إحداهما بذراعيها النحيلتين على «طبلية» خشبية بلون الخشب البكر، وبعينين مبيضتين زائغتين تشخَص نحو الحائط المقابل، والأخرى تبدو أصغر سناً، تقبض على رغيفٍ بكلتا يديها وتقضمه بأسنانها الأمامية، وتبتسم له فى وداعة فتضيق العينان اللامعتان اللتان ترقرقتا ببقايا دموع. -«لا انا أد دمعة عين فى ليلة فرقة... ولا أد رمشك والمخبى وراااه» استدارت وهى تحمل الأطباق نحو الطفلتين، مالت بجذعها وظلت بضع ثوانٍ تقسم رغيفاً، ثم تضع طبقاً أمام الطفلة الشاخصة، وتناولها ملعقة قبضت عليها بدورها فى الحال، وتوجهت نحو الصغرى فى محاولة لنزع رغيفها المقتنص لتحرره من بين أصابعها الصغيرة، حين أشارت الصغيرة إلى العجوز صوب النافذة. بوغت العجوز.. تلعثم.. ابتلع كلماته التى كان يتحفز لقذفها، للحظاتٍ أُُسقِط فى يده، وانهال فوق مسامعه تقريع ولوم وسباب، ولكن سرعان ما استعاد رباطة جأشه، وأسبابه التى من أجلها جاء.. ثار وتحشرج بكلمات التهديد والوعيد وصاح مناديا الغفير بغضب: يا صبحى .. معلهش يا بيه. دول يومين على ما تساوى حالها. دى غلبانة والبتين يتامي. مضي، لم يوقع على صبحى عقابا، ولم يأمره بإخلاء المدفن، فقط جر عصاه فى الأرض، وقد ألهب مفاصله الخجل من الجلبة التى حدثت. وتوقفت الفتاتان عن مضغ الطعام, ولا سيما الصغيرة بعينيها النجلاوين اللتين أسقطتا دموعهما المتحفزة، والطفلة الكفيفة التى التجأت تتحسس مجال صوت أمها لتلتحم بساقها المتشنجة. اليوم الثاني مر الوقت عليه مملاً رتيباً، والصمت ينتشر ثقيلاً كالرصاص، تلوح له ابتسامة الصغيرة فيسقط الجليد المتراكم عن أوصاله وروحه، ثم ما يلبث أن يعتصره الذنب لترويعهما، فتأخذه قدماه إلى نفس الطريق مستنداً إلى عصاه ، وحزمة أسبابٍ واهية.. يتوقف، يحرر أصابعه عن التواء العصا، وباطن يده يستقيم عليها.. لبرهة، يقطب جبينه مستاءً، يستدير بقدميه وعصاه المطواعة، يخطو بآلية راجعاً، يتوقف، يحرك رأسه مستنكراً، ثم يستجمع الأصوات المتداخلة فى رأسه إلى فمه، يطلقها إلى الخارج كنافخ بوق: طُز. يبتسم لنفسه وهو يمتشق عصاه ويشق طريقه عائداً إلى المقابر حيث اجتاحته نسمات الصوت ثانية.. «لمين.. لمين يا قمر يا قمر.. تطلع لمين.. تسهر لمين؟» بسمل وتلا بعض الآيات القصار أمام المقبرة، أطلق العنان لذاكرته، ما أنضج دموعه.. مسحها، وتابع، ختمها وصدَّق.. مسح على وجهه وتنهد، استدار وتوجه إليها بناظريه، تلك المنزوية فى الركن تتحصن بطفلتيها.. زفر بروية.. سألها: اسمك ايه؟ أُسُقِطَت فى دهشتها.. ابتلعت ريقها وخوفها: »حياة«.. اسمى حياة.. تعيش وتفتكر يا حاج. هز رأسه لها، ربما موافقاً مجارياً لها، ولعلها مواساة- أوسخرية، ولعلها جارتُه هى الأخري، تحت طيات المعانى معانٍ.. ربما. بحث عن لسانه وتحدث: أعيش، وافتكر، وحياة فى التُرب؟! غاصت فى كلماته والأسى الذى يغمر ملامحه وقامته التى عانقت عصاه، لم تسع للحديث معه بأمر بقائها وطفلتيها بالحوش، بل أفلتت يد صغيرتها التى تقبض على طرف جلبابها ورفعتها إلى المصطبة الحجرية، ولاذت بها الصغيرة ذات العيون اللامعة الرقراقة. منحته مقعداً، وكوب شاي، وبضع دقائق من الإنصات، وسويعات من اللهو والمرح مع الصغيرتين. «ردوا السلام ألا السلام ده غالي» اليوم الثالث.. افترش الأرض، وتحلق معهما حول «الطبلية» واتكأ على ذراعيه معهما، واسترق النظر لما يحويه الإناء أعلى الموقد، ولاعبهما «حزر فزر» عما يكون الغداء اليوم استنادا إلى الرائحة، وقسَّم رغيف ذات العينين المبيضتين إلى لقيمات صغيرة بحجم فمها، وشارك الصغيرة لسعة العجلة فى الالتهام؛ حتى يسمع «يا ضنايا لساه سخن».. ضحك معهما حتى دمعت عيناه، ووخز الألم ظهره إثر اعتلائه «شى يا حمار». «اصحى يا دنيا وقومى يا دنيا واسمعى ديك الصبح صديقك، خدى م الكسرولة الألمونيا لبن الصبح وغيرى ريقك». دار فى فلكهما.. تساءل عن مكمن قوة المرأة، أعيته الأسئلة و دوار البحث عن الإجابات، أرهقه التفكر فى حكمة الابتلاء للصغيرة الكفيفة وخيوط الحزن القاتمة التى تقتص من الضحكة العالية للصغرى ذات الحدقات الباسمة الدامعة، وحول مغناطيس يجذبه لهما كلما أرقته الهمهمات، والنظرات المستنكرة، والأسئلة التى تبتلعها «حياة» داخل جوفها، و تجرح حلقه كلما هم بطرح أسبابه العليلة حتى أفضت بها الحيرة لإجابة انتقلت إليها عدواها ......«طُز» . اليوم الرابع .. شاركهما الاستماع لصوت الدفء، وتغنى معهما أيضاً، وشاركهما عشق الصوت الذى سرَى فى مفاصله وحرره من عصاه.. «ردوا السلام ألا السلام ده غااالى ..ردوا السلام وما تطلعوش فى العالى ياسلام» ويومٌ خامس، وسادس، وسابع، و.... أيام اقتطعت من عمره أعواماً، وأضافت أسباباً لتشبثه بالحياة، ومائه ألف »طظ« ألقاها على مسامع الآخرين دون اكتراث، ومئات الأغنيات ترنم بها على حصيرة الألفة وفى وسعاية الحوش، ووقت احتساء الشاى بالنعناع فى العصاري.. الوقت الذى تعرَّف فيه على السعادة وصاحب الكثير والكثير من الضحكات التى أنعشت روحه الضامرة... لكم من الوقت مر عليه؟ - «طُز» كم تبقى له منها ؟ «طُز» لم يدخلها تعداده .... الأهم أنه قيدَ الحياة.