«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خمس قصص قصيرة
نشر في الأهرام اليومي يوم 31 - 01 - 2014


1 غرفة تهزها الريح
في الرشفة الثالثة من كوب الشاي الساخن اقتحمت أذني كلمته الجارحة. التفت فوجدت فمه مفتوحا عن آخره, وسبابته ممدودة الي الأمام, ومقلتيه ثابتتين في تحد, يكاد أن يتطاير منهما شرر, وقبالة ناظريه ترقد مساحة صامتة من الفراغ. كان واقفا فجلس, وسحب نفسا من الشيشة تاركا الدخان يخرج من منخريه,
ثم أناخ رأسه علي مسند الكرسي الخشبي المتهالك, ولاذ بسكوت, مغمض العينين, فعدت أنا الي كوب الشاي, وشفطت الرشفة الرابعة.
عند الرشفة السابعة, كان بخار الشاي قد استكان في البرودة التي زحفت علي الكوب من غيمة السماء وظل الشجرة العجوز, وكان دخان شيشته قد خمد بعد أن توقفت القرقرة, لكن شخيره ارتفع وخالط زقزقة العصافير.
مرت ساعة تقريبا أثناءها مر النادل وسحب خرطوم الشيشة من يده, ثم رفعها, وألقي عليه نظرة شاملة, ومصمص شفتيه, وقال:
الله يخرب بيت الستات.
وحين فتح عينيه تلفت حوله وراح يضع مقلتيه في وجه كل واحد من الجالسين ويتفرسه مليا, ثم مد يده في جيبه, وأخرج ورقة متهالكة متآكلة الأطراف, وراح يقرأ منها بصوت هامس. رميت أذني إلي فمه, فتبينت بعض كلمات متقطة تشي بأنها شعر أو نثر بليغ, ولما انتهي طواها علي هيئتها ودسها في جيبه, ثم نادي بصوت زاعق:
شاي وحجر معسل سلوم.
عادل الي الرشف والسحب البطيء وهو يهش غيمة دخان كثيفة تحوم علي رأسه. وفجأة انفجر بردح وصراخ, وهو يعنف امرأة غير موجودة امامه. ثم خلع حذاءه وراح يضرب الهواء, ويجز علي أسنانه فتخرج كلماته محاصرة حبيسة ويقول:
لازم أربيك أنت وعيالك يا....
ورأي النادل الحيرة في عيني فهمس في أذني: امرأته جننته, خلعته وخطفت العيال وهاجرت, وقبلها سرقت أمواله.
ولما تهالك مكانه وكاد أن يسقط مغشيا عليه, قمت إليه أسند كتفيه, وأثبت جسده علي الكرسي, لكنه فرد طوله, ثم قال في انكسار:
عاوزك توصلني البيت.
وسري خوف مباغت في أوصالي, ونظرت الي النادل أستنجد به, فتنحنح واقترب مني وقال مبتسما: لاتخف, هو رجل مسالم, حين يتعب يطلب منا أن نذهب معه, وكثيرون هنا رافقوه الي المنزل, وأحسن ضيافتهم.
وتأبطته ورحنا نمشي علي مهل وهو صامت إلا من أنات متقطعة تذوب في أبواق السيارات وضجيج المارة ونداء الباعة الجائلين. وأمام مقر جريدة المصري اليوم وعلي الرصيف المحاذي لحديقة دارالعلوم توقف, وحملق في عيني الي درجة ارتجف لها قلبي, ثم مد يده في جيبه, وأخرج الورقة وقال آمرا: اقرأ
وجرت الحروف علي لساني في صمت فصرخ في وجهي: بصوت عالي, عاوز الدنيا كلها تسمع. كانت قصيدة شعر بعنوان الخائنة أطلت من أبياتها غير الموزونة ملامح إمرأة متجبرة وعيال ضعاف وأب مغلوب علي أمره. فلما انتهيت مد يده الي ذقني ورفعها حتي حلت عيناي في عينيه وقال:
حابسها في البيت هي وعيالها. مالوا إليها فقلت كلاب أولاد.......
لذت بصمت طويل فصرخ في:
مارأيك؟
فقلت له دون تفكير: الجزاء من جنس العمل.
فسرت راحة في ملامحه, فانبسطت بعد انقباضها الذي طال, وقال:
أنت رجل عادل, ولذا ستكون الوحيد في هذا العالم الذي سأسمح له برؤية الخائنة وعيالها الأشرار.
وانعطف بي في شارع الموادي وسار حتي اصطدمنا بسور مترو الأنفاق بين محطتي السيدة زينب وسعد زغول, ثم انكسرنا يسارا, وعند باب بيت قديم تهالكت جدرانه وقف, وقال:
كان بيتي وسرقته الخائنة وباعته بيعا صوريا للسمسار, ولم تترك لي سوي حجرة فوق السطوح, تضربها الريح فتهتز وأخاف أن تطير.
ثم صمت برهة وعاد يقول:
أتمني أن تخلعها العاصفة وتلقي بها أمام عجلات المترو, فتموت الخائنة هي وعيالها المتواطئين.
وصمت مرة أخري ثم قال بصوت مبحوح:
الأفضل أن تموت في قيودها من الجوع والعطش, ويموت معها صغارها الجاحدين.
وفكرت أن ابتعد عنه قليلا وأهاتف النجدة لتأتي فتنقذ المرأة وأولادها, لكنه سحبني بشدة رجت جسدي فإنزلق داخل عتبة البيت الذي بدأ مهجورا, وأقتحمني هلع وحيرة, وفكرت في أن أصحب يدي لكنه كان قد أطبق كوعه علي كوعي.
انتبه لترددي فقال مشجعا:
تعالي, درجات السلم سليمة, والدنيا نور.
وماءت قطة فمرق فأر مذعور من بين أرجلنا, وعوي كلب راقد بجوار السور وزعق بوق سيارة وصرخت سيدة في البناية المجاورة في وجه بنتها التي كانت تدلي رأسها من النافذة وسحبتها بعنف إلي الداخل, فقلت له مبتسما, وأنا أحاول أن أصحب ذراعي بلطف:
دقيقة واحدة, هأشتري علبة سجائر.
نظر إلي برهة, ثم خلق ذراعي, فسحبته وسرت متباطئا حتي ابتعدت عنه قليلا, ونظرت إلي الخلف فوجدته قد استدار ناحيتي, ولما بدا عليه أنه من الممكن أن يجري خلفي إن شعر بأنني أفر منه, توقفت بالفعل أمام كشك السجائر, وكان صاحبه قد رآني منذ قليل متأبطا ذراع الرجل, الذي نسيت أن أسأله عن اسمه, فقال لي مبتسما:
يسكن سطح بيت مهجور آيل للسقوط, ويتخيل أنه متزوج ولديه أولاد يحبسهم وأمهم الخائنة, ولا ينوي أبدا أن يفرج عنهم, أو يترك غرفته التي تهزها الريح.
2 إشارة
أحمرت إشارة المرور فتوازي أتوبيس صدي يتلاصق فيه الناس كأنهم يوم الحشر مع سيارة فارهة يلمع جسدها النظيف في وقت الظهيرة, سائقها والسيدة الرشيقة التي تجلس خلفه وإلي جوارها ابنتها الصغيرة رائعة الحسن لا يشعرون أبدا بالصهد الحارق الذي يلفح وجوه العابرين, ولا يتصببون عرقا كركاب الأتوبيس, الذين يتخالط شهيقهم بزفيرهم حتي كادوا أن ينخنقوا.
الأكثر شعورا بالأختناق كان هذا الطفل الوديع الملقي علي ساقي أمه البدينة الجالسة علي مقعد متهالك يوشك أن يسقط علي حجر الرجل الطويل الجالس وراءها.
أخذت البنت تشكو من الصقيع المنهمر بلا هوادة من أفواه التكييف الصغيرة, بينما أخذ الولد يتبرم من السخونة ورائحة العرق. مد الولد يده ليفتح النافذة التي كانت تحوي ملصقا مكتوب عليه الصبر مفتاح الفرج. ضغطت البنت زرا بجانبها فإنزاح الزجاج المعتم إلي أسفل, وتدفق شعاع الشمس الي رأسها واصطدم بالموسيقي اللينة المنبعثة من سماعات حساسة جدا والهاربة إلي أذن الولد.
التفت الولد إلي النافذة المغردة فملأ عينيه من وجه البنت. ابتسم لها فبادلته الأبتسامة. رفع يده علي استحياء وراح يلوح لها فمدت يدها ولوحت في فرح. ثم تعانق وجهاهما في صمت وبلا انقطاع.
كانت الأم البدينة منشغلة بتجنب ملاصقة ساق الرجل الغريب الذي يجلس جوارها. كانت الأم الرشيقة تغمض عينيها مستسلمة للنغمات العذبة.
دفع الولد رأسه من النافذة فشعر بلسعة وانسكب نور مبهر في عينيه فأغلقها. فعلت البنت مثله فارتاحت للدفء وغرفت بكفيها بعض الضياء النائم علي الزجاج الرمادي القاتم.
سائق الأتوبيس لا يري أحدا ولا شيئا إلا الإشارة الحمراء التي ينتظر إخضرارها, فيواصل رحلة الزحف التي لا تنتهي. سائق السيارة يتابع كل ما يجري في المرآة الجانبية ويبتسم, مطمئنا إلي إغفاءة السيدة الغارقة في قيعان الموسيقي الساحرة.
اخضرت الإشارة فجأة. ضغط سائق السيارة علي زر فارتفع الزجاج, وانحبست الموسيقي, واندفعت العجلات تمرق إلي حيث لا يدري الولد. تململ الأتوبيس وشحر واهتز بخطوات وئيدة, تأرجح للها الركاب, ولم يلق لهم السائق بالا, كما لم ير رأس الولد المعلق في وسط الشارع يبحث عن صاحبته التي غابت في الزحام.
3 شبح الظهيرة
وحده يسير, وتراب الجسر يشعل النار في قدميه الحافيتين, وجمرة تحط علي رأسه من أثر حزمة القصب التي يحملها منذ ساعتين, متباطئا تحتها, والنسائم تعبر ثقيلة من تحت إبطيه المفتوحين علي غبار الطريق.
حين وصل إلي شجرة السنط السامقة التي تعلو حقلنا, أناخ جسده, وحط عن رأسه حزمه القصب, ورفع هامته, تاركا منخريه تسحبان من النسائم علي اتساعهما, ثم رمي رأسه إلي جذع الشجرة, وراح صوت شخيره يعكر المكان.
اقتربت منه, ورحت أتفرس في خريطة وجهه جيدا. كان البهاق قد زحف علي عنقه ووجهه ومقدمة رأسه, واختلط بالتجاعيد التي خطها الزمن, وبدت علي خديه بثورغائرة, تنبت في قلبها شعيرات سوداء وبيضاء, يتدلي بعضها قليلا, ليقترب من شاربه الكث, الذي بدا معلقا في الهواء أمام خديه الضامرين.
كانت حزمة القصب الكبيرة تنام بجواره هادئة, والنسيم يداعب أوراقها الخضراء وقشها المائل إلي الاصفرار, فيهتز قليلا, ويحك رأس الرجل, لكنه كان قد غطس إلي قعر النوم البعيد, ولم يعد يدرك أنه هنا, فوق التراب وتحت الشجرة, وأنني بجواره أقرأ في صمت وحسرة.
وبعد دقائق, جاء كلب مرقط, شعره أبيض تزركشه بقع سوداء. كان يلهث من العطش, ومن عينيه يطل جوع شديد. وقف عند رأس الرجل, وراح يحملق في وجهه مليا, ثم مد لسانه, وراح يلعق شاربه في هدوء, ثم رمي جسده بجوار الرجل, وراح هو الآخر في نوم شديد.
حين مالت شمس العصر تحت فروع الشجرة, ومدت لسانها الدافئ المبهر إلي عيني الرجل, تململ قليلا, ثم راح يفتح جفنيه في هدوء, حتي طوق بصره كامل جسد الكلب,
ومد يده وراح يربت علي رأسه, ويداعب أذنيه الطويلتين بأطراف أصابعه, ففتح الكلب عينيه, ودس رأسه في صدر الرجل, ثم جلس أمامه القرفصاء, ولسانه يتدلي قليلا علي حافتي نابيه القاطعين.
جلس الرجل القرفصاء, وجلس الكلب قبالته, واقتربت منهما مندهشا, وقلت له:
كلبك.
فابتسم كاشفا عن أسنان سوداء مثرمة, وقال:
لم أقابله سوي اليوم.
ومد ناظريه إلي حزمة القصب الكبيرة, وكأنه يريد أن يطمئن إلي وجودها سليمة, كما ودعها قبل الغفوة, ثم مد كفه ووضعها فوق أعواد القصب, وزفر متنهدا في أسي: شغلانة تهد الحيل.
ولما وجدني أنقل بصري بين وجهه والقصب, استطرد:
الأسعار نار, وما أكسبه لا يؤكلني أنا وزوجتي إلا عيش حاف.
فنظرت إلي الكلب الذي يقعد مستكينا علي التراب, وقلت: عندك أرض.
كانت عشرة قراريط إيجار, وأخذهم المالك بعد تغيير القانون. ومرق قطار ما قبل المغرب, وزعق صارخا وهو يهتز مجلجلا, فنبح الكلب, وتنبه الرجل, فاستدار, وراح يتابع القطار حتي اختفي, ثم قال:
من زمان نفسي أسافر, حتي ولو إلي آخر الدنيا.
في السفر سبع فوائد.
هز رأسه وقال:
لم أفارق قريتي منذ مولدي.
وصمت برهة ثم قال متحسرا:
أيام الملك طلبوني للجهادية فهربت.. لو كنت وافقت يمكن كنت شفت الدنيا الواسعة. كنت هأنزل المحروسة, ويمكن أشوف الملك نفسه, والإنجليز.
التف حوله, ثم راح يهش بعض القش العالق علي رأسه وجلبابه, ووقف موجها عينيه إلي قرص الشمس الأحمر, وقال: جاء موعد الرزق.
ونظرت إليه صامتا وفي عيني سؤال, فجاءتني إجابته:
أبيع القصب للشباب الساهرين علي قهوة عبود.
ثم مد يديه إلي حزمه القصب وقال:
ساعدني يا ابني.
ورفعت الحزمة معه حتي استقرت علي رأسه, وسحب نفسا طويلا, وكأنه يختزن طاقة تعينه علي استكمال مشواره الطويل, ثم تتابعت خطواته البطيئة, ويمينه يسير الكلب ولسانه يرقص علي نابيه, ويهتز في نسيم راح يهب ناعما مع قدوم أول الليل.
4 ينتظرون دموعه
لم يبك عليها وهي تغيب أمام عينيه تدريجيا حتي انطفأت شمعتها إلي الأبد. لم تنجب ولدا فاعتبرته ابنها, وأخذته من أمه التي هي ابنتها. الجدة العجوز تهدهد سكرات الموت وهو إلي جانبها لا يفعل شيئا سوي التحليق في سقف الغرفة الضيقة, وترويض العجز التام والفادح. ورآه الناس علي حاله فتعجبوا وهم الذين توقعوا أن يأتي من سفره مولولا كالنساء حين أخبروه أنها ترقد مريضة وتريد أن تراه.
ومن خلف ظهره قال صاحبه للناس حتي يكفوا عن أسئلتهم التي لا معني لها:
شدة الحزن تجف لها الدموع.
وراح يقنعهم أكثر بوجهة نظره, من خلال شرح القاعدة التي تقول: ما زاد عن الحد انقلب إلي الضد, ثم قال لهم:
لو رأيتموه يضحك فجأة فلا تلوموه ولاتتعجبوا.
لكنهم تعجبوا علي حزن لم يكابدوه من قبل. أحدهم شكك في هذا التبرير, وقال بلغظة:
طول الغربة أنسته أعز أهله.
لم يكن هو يدر شيئا عن هذا الغمز واللمز وهو ساهر طوال الليل إلي جانبها وهي تحتضر, قلبه موجوع, ولسانه صامت وتقتحم أذنيه ثرثرة النسوة اللاتي جئن لتوديعها تكلموا طويلا عن حالتها التي كانت علي مايرام قبل يومين, وكيف رآها أهل القرية جميعا وهي تستقل عربة ربع نقل مع الذاهبين إلي مدينة المنيا لدفع فلوس السلع التموينية؟ وكيف وقفت بالأمس فقط ساعات طويلة في الدكان تبيع للناس من دون أن تظهر عليها علامات المرض؟
غسلتها صديقة أيامها وكفنتها, ووضعوها علي الخشبة, لينطلقوا بها إلي مدافن العائلة شرق النيل. كل ما فعله هو أن رفع الغطاء عن وجهها الساكن وطبع قبلة علي جبينها, وقال لها في تأثر:
مع السلامة يا أنبل وأغلي الناس.
وشفع له ما فعله عند البعض, لكن هناك من رآها لمحة باهتة لاتكفي لوداع من تربي في حجرها, ولا ترقي لتوقعاتهم التي اطلقوها وهم يخبرونه بمرضها في حذر. قالوا له مريضة وحالتها مطمئنة وتريد فقط أن تراه لأنها اشتاقت إليه, خافوا أن يطلعونه علي الحقيقة فينهار. هكذا اتفقوا قبل أن يرن هاتف مكتبه, ويأتي إليه صوت أحدهم ليسأل السكرتيرة:
الأستاذ موجود.
عادوا من المقبرة فوجدوه جالسا علي طرف سرادق العزاء ينتظر المواسين. فلما وصلوا اليه دفعوا اياديهم الي يده, وجلسوا صامتين
قبيل المغرب ظهرت في انحناء الشارع عربة كارو محملة بالسلع التموينية, وجاء مختلطا بصهيل حصانه المجهد صوت العربجي يسأل احد الصبية عن مكان الدكان. عندها هب من مكانه, وجري الي العربة كما كان يفعل وهو طفل.
يجري اليها حين تهل علي اول الجسر المؤدي الي القرية, فيرفعه اي من الرجال الي جانب جدته, وهي تجلس فوق بضائعها والسعادة تنطق في وجهها. تمد يدها الي كيس بلاستيك راقد بجوارها وتعطيه الحلوي التي أحضرتها له.
جري اليوم لكنها لم تكن متربعة فوق عرشها الذي طالما انتفع منه الناس. جري حتي وصل الي الحصان فمسح علي رأسه, ثم مد يده الي طرف العربة الأيمن, وراح ينتحب ويجهش بصوت زاعق سمعه كل أهالي القرية.
5 وابور الجاز
مع ضحي كل جمعة يجلس شعبان صامتا بين بوابير الجاز. ينفخ في هذا لتسليك الفونية المسدودة حتي يندفع الكيروسين إلي أعلي فيشتعل. ويلحم هذا بالقصدير ليسد ثقبا صغيرا يجعل الوابور يفرغ الهواء فلا يزهر باللهب. ويقيم أرجل هذا بعد أن تآكلت أو كسرت رأسه فيجبرها أو يغيرها مما يوجد معه من قطع غيار مستعملة أو جديدة, نائمة في قلب الصندوق الذي يحمله علي ظهره كل أسبوع قادما من مدينة المنيا إلي قرية الإسماعيلية.
يجلس والعيال يتحلقون حوله وعيونهم معلقة بيديه اللتين تعملان في دأب, والدهشة تكسو وجوههم وكأن شعبان يخترع ما لم يصل إليه أحد من العالمين.
طالما رأوا الفلاحين يضربون بالفؤوس والمناجل, ويلفون الطنبور فتتدفق المياه إلي زروعهم العطشي, ويرون النجار وهو يشق جذوع الشجر بمنشاره ويقطع بقادومه ويدق بشاكوشه, ويعرفون المذارة التي تفصل القمح عن التبن. كل هذا أصبح عاديا لهم, أما ما يفعله شعبان فهو جديد وغريب عليهم. علي المصاطب في المساءات الرائقة يأتي الناس علي ذكر شعبان كثيرا, يقولون إنه طالب في المدرسة الفنية الصناعية, مات أبوه وترك له أخت تكبره وتدرس بمدرسة التجارة, ويعول نفسه وإياها, ستة أيام في المدرسة, ويوم واحد للعمل يلملم فيه بعض قروش الفلاحين الكادحين ويعود الي البندر.
والله بطل شاب محترم يأكل لقمته بالحلال
كان يمكن أن ينحرف فيصبح نشالا, لكنه سيكمل تعليمه ويجد وظيفة.
هكذا كان يقال عن شعبان في ليالي السمر أو خلال فترة الراحة القصيرة التي تتوسط ساعات الكدح في الحقول تحت الشمس الحارقة.
ظهور شعبان في قريتنا جعل الكانون في خبر كان. كل امرأة ضغطت علي زوجها ليشتري لها وابورا بدلا من نار الخشب التي تزجي دخانا يكتم الصدور, ويلهب العيون. ومع الأيام صارت بعض الفلاحات تحملن البوابير إلي الحقول فنجت الأشجار من التقليم الجائر.
تقدمت الإختراعات فصنع الصناع وابور الشرئط وكذلك أعطاله أقل فتضاءل رزق شعبان, لكنه كان يأتي كل جمعة, ويجلس في مكانه المعتاد صامتا ويداه الملطختان بالهباب لا تكفان عن العمل وفي يوم تزوجت ابنة شيخ البلد, فأحضر لها أبوها موقدا اسمه البوتاجاز له أربعة عيون تشتعل في وقت واحد, ومعه أنبوبة كبيرة, كان خادمهم يذهب كل شهر ليملأها بغاز البوتجاز من البندر. بعدها اشترطت الأمهات علي خطاب بناتهن أن يكون البوتجاز أول قطة في جهاز العروس.
وهكذا راحت البوابير تتناقص فتناقصت زيارات شعبان لبلدنا, لتصبح مرة واحدة كل شهر. يأتي فيجلس في مكانه من الضحي حتي قدوم الليل ثم يذهب.
وقيل إنه حصل علي الدبلوم وعمل في وظيفة بمصلحة الكهرباء, وأخته توظفت بمجلس المدين, لكنه يواصل إصلاح البوابير ليحسن دخله. لكن أين هي البوابير ؟
جاء يوم وجلس مكانه لكن أحدا لم يأت له بشيء حتي حل المساء. وراقبته العجوز التي يسند ظهره إلي حائط بيتها المتداعي, وحزنت لحاله. وقبل أن ينهض من قعدته الطويلة جاءت وفي يدها كيس بلاستيكي به كيزان ذرة خضراء, وقالت له:
بدلا من أن تعود ويدك خالية.
اعتذر لها, لكنها أصرت فأخذ الكيس ومضي صامتا. بعدها لم يظهر أبدا. ومع انتشار البوتجاز في كل البيوت غارت سيرته, ولم يعد أحد يتحدث عن كفاحه في ليالي السمر, ولا أوقات الراحة بين ساعات الكدح في الحقول.
ذهبت ذكراه مع وابور الجاز إلي الأبد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.