ربما يكون العنوان صادماً.. ولكن علينا أن نتعلم من دروس السياسة العالمية! واحدة من معضلات العلاقات الدولية اليوم أن مساحة الاختلاف والنشر الواسع لخطاب الكراهية يخرج من قلب المؤسسات (الإعلامية) التى تشكل عصب صناعة الصورة الذهنية والتصورات عن الآخر على الساحة الدولية. فلم يكن دونالد ترامب هو الاستثناء ولكن ربما هو صاحب التوجه الذى سيمثل قاعدة أوسع فى المستقبل لأنه ببساطة يقف فى مفترق طرق بين خطاب المتشددين الذى يدفع العالم إلى مواجهات على أساس الهوية الدينية- والقومية- ويجر مجتمعات عديدة إلى تبنى خطاب زقوميس يغلق الباب فى وجه الأجنبى ويقيم الأسوار العالية على الحدود بين البلدان وإقرار سياسات انتقائية تلحق ضررا بالغاً بالقدرة على التعايش المشترك. ربما يكون «الخطاب الدينى المتطرف» قد أوصل الغرب إلى تبنى «الخطاب القومى المتشدد» إلا أن تلك الثنائية تقول إن هناك مؤسسات دولية وإقليمية ووطنية قد سقطت ولم يعد لها التأثير المرجو منها بعد أن بدلت موجات العنف المتتالية المناخ العام فى العالم الغربى وصارت هناك جبهة قومية شبه موحدة من زعماء اليمين فى دول مثل فرنسا وايطاليا وألمانيا والنمسا وهولندا، وجاء زترامبس رئيسا للولايات المتحدة ليمنح خطاب القوميين الغربيين زخماً خاصا وغير مسبوق ثم حلت الإجراءات الأخيرة ضد دخول الأجانب وفى حق الجيران لتكون بمثابة تدشين حقبة جديدة. خطاب ترامب يوسع من دائرة المواجهة خاصة بعد منع مواطنى دول بعينها من دخول بلاده والشروع فى إقامة جدار على حدود المكسيك وهو خطاب يلقى تجاوبا فى الداخل الأمريكى وليس مثلما يصور الإعلام «الليبرالي» أن المعارضة لترامب بطول الخريطة وعرضها!. رأيت تلك المفارقة أثناء حضورى مؤتمر زخطاب الكراهية ضد اللاجئين والمهاجرين فى وسائل الإعلامس برعاية تحالف الحضارات فى الأممالمتحدة والإتحاد الأوروبى يوم الخميس الماضي، فهذا الإعلام الرافض لصعود اليمين القومى فى الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية يشكل معضلة كبيرة فى حد ذاته، حيث يقف وراء سياسات مزدوجة المعايير ويساند الحكومات التى من المفترض أنها ليبرالية ومعتدلة على مدى عقود من الفشل وفى صناعة أوضاع بائسة فى مناطق مثل الشرق الأوسط، فكانت النتيجة فقدان الثقة فى السياسيين التقليديين- والمعتدلين من وجهة نظر وسائل الإعلام المسيطرة- وافساح المجال أمام تيارات أكثر تعبيرا عن حالة الغضب التى لا يمكن إنكارها فى المجتمعات الأمريكية والأوروبية فى السنوات الأخيرة. فلا يكفى أن يعلو صوت البعض استنكارا أو احتجاجا على سياسات ترامب أو الحكومات اليمينية فى أوروبا.. ولا يكفى التظاهر ضد تلك السياسات فى شوارع واشنطن أو لندن أو برلين او باريس.. فالاستنكار يجب أن يقترن بشجاعة الاعتراف بالأخطاء الكارثية التى جلبت كل تلك المصائب على شعوب منطقة الشرق الأوسط والتى بدأت من ضرب حركات التحرر الوطنى وإفساد الكثير منها فى الخمسينيات وحتى استخدام سلاح التطرف الدينى فى الحرب الباردة بين الدولتين الكبيرتين فى السبعينيات والثمانينيات ثم الزحف العسكرى بغطاء إعلامى ضخم فى مطلع الألفية الجديدة بدعوى محاربة الإرهاب. للأسف، لا يوجد فى الميديا الغربية من يملك شجاعة بناء السياق البديل للقصص والروايات الرائجة اليوم فى وسائل الإعلام عن العلاقة بين الغرب و«الآخر»!. فى مؤتمر بروكسل، انصبت انتقادات الخبراء والدارسين فى جامعات كبرى على وسائل الإعلام التقليدية لدورها فى الترويج لصورة سلبية عن اللاجئين، فهم يصورونهم على أنهم «مهاجرون» تارة و«مهاجرون غير شرعيين» تارة أخري، وفى أحسن تقدير يطلقون عليهم كلمة «لاجئون» وهى التسمية الأقل إثارة لمشاعر سلبية ضد ضحايا الهجرة القصرية، وهى الوسائل نفسها التى ينتفض معظمها اليوم للهجوم على ترامب. قمة التناقض أن من أسهموا فى ترسيخ صورة عن مجتمعات بعينها ومن ساهموا فى الترويج لسياسات أفسحت الطريق لصعود المتطرفين هم من يصرخون اليوم طلبا للخلاص من تيارات يمينية بازغة ربما تغير شكل السياسات الغربية إلى أمد غير معلوم!. صراحة، بعد الاستماع إلى أطراف يمثلون وجهات نظر «متقاربة» فى بروكسل خرجت بانطباع أن عدم الانفتاح على المخاوف داخل المجتمعات الغربية وإطلاق حوارات «راشدة» بعيدا عن الصراخ السائد من قوى ليبرالية ويسارية سوف يؤدى إلى حالة أسوأ من الاستقطاب فى السياسة والإعلام- وسندفع نحن الثمن باهظاً وليس تلك المجتمعات التى ظهرت فيها تلك الحركات «الشعبوية» الغاضبة. نعم، كراهية اليمين المحافظ- بالنسبة لنا- لا تصنع بديلا ولا تقدم خيارات مختلفة عن الموجود ولكنها ربما ستدفع المجتمعات إلى مزيد من التشدد فى اتجاه الخطاب الشعبوى المروج للخوف على الأمن والوظائف والهوية وليس العودة إلى خطاب أكثر اعتدالاً. فلا يجب الارتكان إلى وجود صراع فى المجتمعات الغربية بين فريقين بسبب رؤية بعينها تجاه المهاجرين أو تجاه العولمة الاقتصادية أو خلق الوظائف ولكن علينا البحث فى أسباب تلك المواقف المتشددة والنظر إلى داخلنا وممارسة قدر من نقد الذات حتى لا يكون صعود اليمين فى الغرب زشماعةس نلقى عليها بكل ملابسنا الرثة من تطرف وجهل ورفض للآخر ونتكاسل عن إيجاد حلول لما أفرزته مجتمعاتنا من ظواهر أكثر إيلاماً!. أكثر ما يخشاه المثقفون والصفوة فى الغرب هو قدرة القوى الصاعدة من معسكر اليمين على التنسيق فيما بينها لإسقاط السياسات القديمة وإعادة بناء منظومة جديدة من القيم التى يمكن أن تدفع القارة الأوروبية- وقبلها الولاياتالمتحدة- إلى حقبة جديدة من العداء للآخرين على نطاق واسع على الساحة الدولية، وهو أمر لم تسقط فيه القوة الأمريكية من قبل، فعندما تدخلت واشنطن لمناصرة الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية جاءت بمنطق التدخل لإنقاذ القارة الأوروبية والعالم الحر من شرور النازية ودول المحور- مع التحفظ بالقطع على دور التدخلات الأمريكية فى كثير من مأسى الشرق الأوسط فى العقود الأخيرة. اليمين فى صورته الحالية يخلط بين الخوف من الآخر، والخوف على رفاهية المجتمعات فى مزيج يصادف هوى عند كثيرين من المحبطين والباحثين عن فرص وحتى لو تم ترويض الحركة الشعبوية الحالية فلن تذهب تلك المخاوف بعيداً.. وهو ما يجب الانتباه إليه حتى لا ندخل فى معارك إعلامية لا تخصنا ولن نستفيد منها شيئا!. [email protected] لمزيد من مقالات عزت ابراهيم;