يضعنا تولى دونالد ترامب رئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية على الرغم من كل الزوابع التى أحاطت به أمام حقيقة أن النظام السياسى الأمريكى حقق نجاحا مستمرا فى انتظام انتقال السلطة فيه من جورج واشنطن عام 1798م.وحتى دونالد ترامب هذا العام، مما يعنى استقرار عملية انتقال السلطة طوال 228 سنة متصلة حتى الآن، وهذا فى حد ذاته إنجاز سياسى كبير فى نظام جمهورى ظل منذ التصديق على الدستور الأمريكى عام 1787م يراكم نجاحاته المتواصلة دون توقف، واللافت للنظر أنه خلال عملية الانتقال المتتالية كان الالتزام بمقتضيات الدستور والإجراءات الدستورية والتقاليد السياسية التى تحكم العلاقة بين مؤسسات السلطة لا يترسخ فقط، بل يتطور مع الوقت وليس أدل على ذلك من حكاية «العبد الأمريكى» دريد سكوت فى القرن التاسع عشر، وحكاية «باراك أوباما» فى بداية القرن الواحد والعشرين، فالأول رفضت المحكمة العليا الأمريكية حقه برفع قضية يطالب فيها باستعادة حريته على أساس من الدستور الأمريكى الذى ينص على أن جميع البشر خلقوا متساوين، ومن المدهش أن رد المحكمة على ذلك أن سكوت ليس إنسانا، وإنما هو سلعة تباع وتشترى فى السوق، وبالتالى لا تشمله نصوص الدستور المتعلقة بهذه القضية. لاحظ الحس العنصرى الحاد الذى كان مهيمنا على المجتمع الأمريكى والذى استمر حتى أواخر ستينيات القرن الماضى، لكننا يجب أن نلاحظ أيضا كيف اختلفت حكاية أوباما وهو من أصول إفريقية مثل سكوت، وكيف انتهت بأنه ختم حياته السياسية وهو يحمل الترتيب رقم 44 على قائمة الرؤساء الأمريكيين، ولعله من الواضح ما يعنيه اختلاف حكاية الرجلين فى حجم التحول الاجتماعى والسياسى الذى حدث للمجتمع الأمريكى. وبالعودة إلى ترامب الذى انتخبته أمريكا، فالذى يبدو فى دعوته إلى إعادة السلطة للشعب أنه يتحدث عن بلد آخر لا نعرفه، وكأن أمريكا لم تشهد انتخابات رئاسية قبل الانتخابات التى جاءت بهذا الشهم إلى البيت الأبيض. والمشكلة أن أولوياته التى ذكرها فى خطاب تنصيبه لن يكون إنجازها سهلا، فالرؤية الجديدة التى بشر بها ستعترضها عقبات جمة ومنها على سبيل المثال ما يلى: فى الشق الداخلى قد لا يواجه معارضة كبيرة فى الكونجرس بقراراته الاقتصادية ولمعالجة مشكلة الهجرة غير الشرعية أو حتى لبناء الجدار مع المكسيك، لكن مسيرة تعامله مع النخب السياسية فى الحزبين الديمقراطى والجمهورى لن تكون سهلة حتى وإن كان حزبه يسيطر على غرفتى الكونجرس، فللحزب حساباته من أجل الحفاظ على جمهوره والحفاظ على موقعه فى السلطة. وعده بإعادة النظر فى منظومة عمل المصانع واتفاقات التجارة الحرة لن يكون سهل التحقيق، فالأمر يشبه مقاومة العولمة أو ثورة التكنولوجيا.. أما الصين المعنية أساسا بهذا الأمر، فلن يكون التفاوض معها دون أثمان وتضحيات. لا أعتقد أن تهديده بقطع دابر الجريمة والعصابات وتجار المخدرات سوف يكون حظه فى ذلك أفضل من سابقيه ممن سكنوا البيت الأبيض، فهو هدف نبيل تحول دونه عقبات كثيرة. كيف يمكن لترامب التعاون مع أوروبا فى حربه ضد الإرهاب وهو فى الوقت نفسه يتوقع تفكك اتحاد القارة العجوز، ويذهب إلى نعى حلف الناتو الذى توكأت عليه بلاده فى أفغانستان والعراق وأماكن أخرى من العالم، وكيف يتعاون مع باكستان بينما العلاقات بين أمريكا والهند تثير حفيظة باكستان؟!، وكيف يكون التعاون مع تركيا بينما البنتاجون يعتمد على الأكراد فى سوريا والعراق لمواجهة داعش؟! وعد بتعزيز تحالفات قديمة وبناء تحالفات جديدة، ولكن كيف يمكنه مثلا احياء علاقات تقليدية سليمة مع قوى متوازنة فى العالمين العربى والإسلامى إذا أقدم على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس؟!، مثل هذه الخطوة ستضعف أيضا حربه على الإرهاب، وستثير غضبا واسعا فى هذين الشارعين، وتعرض مصالح الولاياتالمتحدة للخطر، وتعزز آلة الإرهابيين لاستقطاب المزيد من الجهاديين، وهل يمكن الوقوف بوجه العالم الذى تمسك فى باريس قبل أيام بحل الدولتين؟! كيف يمكنه اعتماد شراكة موضوعية ومنصفة أو لنقل سياسة مختلفة فى سوريا التى بنى فيها الكرملين قواعد ثابتة تشكل نقطة انطلاق إلى الشرق الأوسط كله. أما إعادة النظر فى الاتفاق النووى مع إيران أو مواجهة تمددها شرقا وغربا، فهى مسألة أكثر تعقيدا من إطلاق الأوصاف على الاتفاق والتهديد بتمزيقه. بالنسبة لرغبته فى بناء علاقات مع روسيا بوتين، فلا نعرف كيف سيوفق بين موقفه وموقف صقوره من جنرالات وغيرهم الذين يرون فى روسيا خطرا مماثلا لخطر إيران؟! إن الوقائع تبدو أكثر تعقيدا، والتحديات عصية على المواجهة، ومن حقه أن يرفع شعار «أمريكا أولا»، وهى كانت قبله كذلك بالنسبة لأسلافه، ولكنه ينسى أو يتناسى أنه من أجل تحقيق مصلحة بلاده لابد أن يراعى مصالح الآخرين. ويقول إليكس دى توكويفيل وهو واحد من أشهر من كتبوا عن الديمقراطية الأمريكية: إن ما يهدد الحكومات بالفناء هو إما الضعف أو الطغيان، وفى الحالة الأولى تفقد الحكومة السلطة، وفى الثانية تنتزع منها، وقد أثبتت التجربة أن الحكومة الأمريكية ليست ضعيفة، وبالتالى فإن مصدر التهديد كما ينقل توكويفيل عن توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسسين قد يأتى من الطغيان قبل غيره، وأن هذا قد يبدأ من السلطة التشريعية، وتلحق بها السلطة التنفيذية، وبهذا المعنى يكون فوز ترامب برأس السلطة التنفيذية مصدر التهديد، لكن ما يطمئن العالم أنه يبدو معزولا عن السلطة التشريعية، لكن الغالبية العددية الشعبية تعد فوزا غير مسبوق يؤشر لمرحلة مختلفة تنتظر لحظة انكشاف حقيقتها!. د. عماد إسماعيل