عندما سئل السيناتور جون ماكين عن أحد تصريحات الرئيس الجديد دونالد ترامب قال بنبرة فيها الكثير من الاستهجان: لقد توقفت منذ فترة عن التعليق علي كل مايقوله الرئيس، وذلك بعد أن أخذ المذيع يسأله عن آخر كلمات ترامب التي تراوحت مابين الزعم بأن ثلاثة إلي خمسة ملايين شخص صوتوا ضده بشكل غير شرعي، إلي المطالبة بالسيطرة علي البترول العراقي وغيرهامن التصريحات الغريبة. المشكلة أن ترامب أصبح الرئيس وفي يده كل السلطات التنفيذية، وبالتالي لم يعد التجاهل كافيا في التعامل مع الواقع الجديد، الذي لخصته مجلة نيويورك بأن الرئيس الجديد طفل في السبعين، وبدأت تتسرب قصص من داخل البيت الأبيض عن شخصية ترامب وكيف أن مساعديه يمنعون عنه الأخبار التي تستفزه وتؤدي لانفعاله وصراخه بينما هو لم يمض سوي أسبوع واحد في السلطة. لكن منع الأخبار السيئة لم يكن كافيا، فهو مدمن مشاهدة التليفزيون مثلما اعتاد طوال حياته كرجل استعراضي، وعندما ذهب إلي مقر السي آي إيه (وكالة الأخبار المركزية) كان المتوقع أن يركز علي تصحيح علاقته بالوكالة التي أساء إليها كثيرا أثناء الحملة الانتخابية وبعد فوزه بالرئاسة، لكنه أمضي وقتا طويلا في الحديث عن حجم الجماهير التي حضرت حفل تنصيبه ومهاجمة القنوات التليفزيونية التي لم توافقه الرأي. المثير للقلق أن ترامب لم يغير كثيرا من أسلوبه عندما كان مرشحا للرئاسة حتي بعد دخوله البيت الأبيض وربما يتعين علي الجميع الآن الاستسلام لحقيقة أن المرشح ترامب هو نفسه الرئيس ترامب. لكن كيف يمكن التعامل مع رئيس من هذا النوع؟ ربما يمكن لماكين وآخرين أن يتجاهلوا بعض تصريحات ترامب، لكن هذه رفاهية لايملكها الكثيرون في أنحاء العالم، وقد بدا حتي الآن أن الأمر يحتمل عدة مداخل: أولا: أن ترامب رغم سنه الكبيرة وثروته الطائلة وما لديه من إحساس مبالغ فيه بالذات إلا أن الطفل بداخله لايزال يحتاج إلي من يقول له: شاطر! وقد تفهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نقطة ضعفه ولعب عليها أثناء الحملة الانتخابية عندما أشاد به وبذكائه فانطلق ترامب بعبارات مديح غير تقليدية لرئيس في حالة صدام دائم مع واشنطن، وإن كنت أعتقد أن بوتين سيندم في وقت غير بعيد علي دعمه لترامب في انتخابات الرئاسة لأنه متقلب المزاج ويتبني أغلب المحيطين به مواقف قوية ضد موسكو. ثانيا: الناس انقسموا بين أخذ كلام ترامب حرفيا أو جديا، وقد حان الوقت لأخذه حرفيا وجديا معا. فعندما يتحدث عن وعده بنقل السفارة الأمريكية إلي القدس لايمكن القول إنها مجرد كلمات، فهو رئيس أمريكا وكلماته تعني الكثير. واعتقادي أن الرد عليه فلسطينيا وعربيا ينبغي أن يتفادي الهجوم الشخصي بما يؤدي إلي استفزازه، وربما كان من الأنسب تأكيد أنه يمتلك الذكاء والقدرة علي فهم الأبعاد السلبية الخطيرة لمثل هذه الخطوة. لكن بعيدا عن الأسلوب فالأهم هو الدخول في حوارات أعمق مع ترامب وإدارته بشأن القضايا المطروحة دون الاكتفاء برد الفعل الذي يصبح عديم الجدوي بعد التنفيذ. فقضية نقل السفارة إلي القدس لايمكن فصلها عن تسوية القضية الفلسطينية بشكل عام، وإبقاء السفارة في تل أبيب لن يفيد كثيرا إذا ماتم إجهاض هدف إقامة دولة فلسطينية من خلال النشاط الاستيطاني، فإسرائيل نفسها لم تعد تهتم كثيرا بقضية السفارة مادام يُترك لها حرية تغيير الواقع علي الأرض، ولم تمر أيام علي تولي ترامب إلا وأعلنت قرارها ببناء ألفين وخمسمائة وحدة سكنية جديدة في الضفة الغربية من بينها أربعمائة وخمسين وحدة في القدسالشرقية. من المهم أيضا إدراك أن ترامب يأتي وليس لديه بشأن العالم العربي والإسلامي الآن سوي أجندة واحدة: «مكافحة الإرهاب الراديكالي الإسلامي» كما اتضح جليا في خطابه بعد التنصيب. وقد يكون هناك توافق مع هدف مكافحة الإرهاب، لكن يبقي من المهم توضيح أن عليه الفصل في لغته مابين الإرهاب والإسلام كدين كما كان يفعل باراك أوباما ومن قبله جورج بوش. ويجب إفهام المحيطين به أن تلك اللغة تسئ لمئات الملايين من المسلمين المسالمين وتدفعهم للعداء لأمريكا بما يضر بتلك الحرب ضد الإرهاب، بل تلعب أحيانا علي نغمة الصراع بين الحضارات مثلما فعل ترامب في خطاب التنصيب عندما تحدث عن توحيد «العالم المتحضر» في تلك الحرب، وهو أقرب للكود في تصنيفه للمجتمعات الغربية بما يضع بقية العالم خاصة الدول الإسلامية في موقع (الآخر) الأدني حضاريا إن لم يكن المعادي. الأمر الآخر هو التأكيد للإدارة الجديدة أن تلك الحرب لايمكن تحقيق النصر فيها بشكل نهائي بفصلها عن مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المنطقة، وهنا ينبغي الإشارة إلي وجود تناقضات بين مصالح المنطقة بشكل عام، وبين بعض السياسات التي يتحدث عنها الرئيس الأمريكي الجديد والمحيطون به ليس فقط فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية الإسرائيلية، ولكن أيضا في مجمل الأوضاع الإقليمية وتصورات الإدارة الجديدة لها. وربما يكون مغريا أن تنساق دول المنطقة المعنية وخاصة مصر لبعض تلك السياسات علي أمل الحصول علي الدعم الأمريكي في الحرب ضد الإرهاب ، لكن من المهم تفهم أن ذلك الانسياق قد يضر بقضية الإرهاب ذاتها، وبالتالي لابد من وجود رؤية واضحة للمصالح الاستراتيجية ومحاولة الوصول إلي حد أدني من التوافق بشأنها بين دول المنطقة ، بما يسمح بمخاطبة الإدارة الجديدة من موقع قوة صار مفتقدا بشدة. فهناك رئيس جديد في واشنطن، لديه طاقة كبيرة ورغبة في التغيير، وعلينا العمل ليكون تغييرا إيجابيا أو الحد من سلبياته، وألا ننسي أن المصالح طريق ذو اتجاهين. لمزيد من مقالات محمد السطوحى;