«نزِّل موسيقى يارب من عندك.. أشوف بيها». هكذا يقول الشاعر المصرى محمود الحلوانى، فى إحدى قصائد ديوانه «أعمى بيقرا كتابُه.. بتصَرُّف». وهو عمل شعرى متعدد الجوانب والأساليب، مما لايمكن تتبعه وتقييمه نقدياً فى مقالة قصيرة. ولكن لحسن الحظ، أن تسميته لديوانه لم تكن مجرد اختيار لعنوان طريف أو صورة شعرية فريدة؛ بل هو تعبير مجازى عن حالة ممتدة فى عدد من قصائد الديوان، حالة عاطفية من الشعور بالعجز والغربة والتيه والضياع، بحيث من الممكن التقاط هذا الخيط والحديث عن الديوان من خلال هذا المجاز المعبر:«أعمى بيقرا كتابهُ.. بِتَصَرُّف». وإن كان من الإجحاف الاعتقاد أو الادعاء أن الديوان كله مصداق لهذه الصورة أو هذا المعنى المجازى؛ فالديوان، كما قلنا فى البداية، غنىّ بالمعانى والأساليب والحالات الشعرية، وما اختيارنا هذا إلا لإضفاء وحدة ومنظور على هذه النظرة، أو اللمحة العاجلة للديوان. فى القصيدة الأولى «خدنى المظاهرة يا حبيبى معاك»، يطلب الشاعر من شاب افتراضى أن «يَدُلَّه»، كما لو كان لا يرى، وكما لو كان يعتمد على حاسة السمع وحدها: «فين مطرح الغضب/ فى العصب/ يا شابّ قوم دلنى/ تلفحنى نار تبرينى وتبِرِّنى/ أسمع رفيف القلب من تانى/ أسمع دبيب الشعر بودانى/ ودبَّة الروح فى الحصى..». وفى القصيدة الثانية التى تحمل اسم الديوان: «أعمى بيقرا كتابهُ.. بِتَصَرُّف»، يستمر هذا الاعتماد على الحواس غير البصرية، مع خيبة للأمل الذى ترقرق فى القصيدة الأولى. يقول الشاعر، الذى يرى فقط أنه انخدع وخاب أمله: «مش هى دى الحكايات اللى شدَّت عضمى/ وشنكلت روحى عند أول إشارة/ خلتنى أطمع فى الحياة من وَسَع/ واسمع بودنى البشارة/ ونزلتنى السوق/ وكأنى قاصد جنينة..». هنا كان «السمع» وسيلة اتصال الشاعر بالواقع والحلم (البشارة). وفى مكان آخر من القصيدة - حين كان الشاعر مازال يحلم ويأمل - كان يرى بحاسة الشم: «ريحة خُضار طازة مِهَيِّجها المطر/ ريحة مطر خمران ومهيجاه الأغانى..». فالمطر الخمران هو الحلم الذى يكاد يتشكّل واقعاً؛ ومازالت حاسة السمع وسيلة اتصال «أعمى القصيدة» الرئيسية بالحياة؛ ف «الأغانى» هى التى «خمَّرت»، و«هيَّجت».. والشيخ أو الدرويش الأعمى - درويش الحلم الذى يفيق على خواء قوقعة وشوشته بأحلام خادعة- يلف حول ضريح الأمل: «لفّيت ولسَّه بالِفّ وباخطرف/ أعمى بيقرا كتابُه.. بتصَرُّف/ ولما تحدف خطوته ع الأرض.. وبيصحا/ يلقى الليالى خوالى والضريح أجوف..». وفى قصيدة تالية، يمكننا قراءة نفس المجاز (البصر الكفيف)، إذا أردنا، فى السطور الأولى: «فكّرنى خروجك للشارع بليالى زمان/ اسم الله يا (مان)/ كنت يا دوبك لسَّه بتتهجّى حروف/ وماتعرفش الألوان/ اتلموا عليك الحبِّيبة وفتحوا لك دكان/ غنّيت..». هنا كَفّ البصر غير مذكور تصريحاً، لكن يمكن الادّعاء بوجوده تلميحاً: «وماتعرفش الألوان"؛ وكذلك هناك ذلك الاعتماد على الآخرين: «اتلموا عليك الحبِّيبة وفتحوا لك دكان»؛ والتفاعل مع الحياة عن طريق السمع والصوت: «غنَّيت».. وفى قصيدة رابعة، بعنوان «موسيقى من عندك.. أشوف بيها» عودة إلى التصريح؛ وهنا يكون الشعر والنغم وسيلة الشاعر الوحيدة للرؤية. وقد بدأنا المقالة بهذا السطر البديع، لما له من دلالة وصياغة بارعة للمجاز الرئيسى فى هذا الديوان الجميل المتنوع، الذى يطرق فيه الحلوانى دروباً شتّى للتعبير الشعرى، كما أسلفت، لا يمكن تلخيصها فيما يوحى به العنوان. وربما القيمة والجدوى الأساسية لهذه اللمحة النقدية هى الإشارة لهذا الديوان (الصادر عن سلسلة حروف - الهيئة العامة لقصور الثقافة 2012)، وذكر بعض مقاطعه الشعرية، واعدين القارئ بحديقة كاملة فيها الثمار مختلفة المذاقات, ولم نستطع هنا إلاّ اقتطاف عينة متجانسة منها, تدل على طعم الشجن والغربة والتيه فى الزحام. لكنّ حديقة محمود الحلوانى، فى هذا الديوان وفى غيره، تحتشد بزهور وثمار ذات مذاقات أُخَر، وهي مفتوحة للقراء والزائرين من هُواة الجمال. لمزيد من مقالات بهاء جاهين