أصدر الرئيس الأمريكى الراحل ريتشارد نيكسون كتابا قبيل وفاته بعنوان «ما بعد السلام»، اعتبر بمثابة وصيته الأخيرة، حيث ضمنه أن السلام هو أسمى الأهداف التى تسعى إلى تحقيقها معظم الدول المتقدمة فى العالم، بعد أن ذاقت مرارة الحروب «وعدم جدواها»، وفيه استعرض الدور الجديد للولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى السابق، والتحدى الذى ستواجهه الشخصية الأمريكية عند معالجتها تحديات السلام العادل، واستطرد ذاكرا أن إقامة سلام بين العرب وإسرائيل يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية معا، فقد كانت الخسائر الإسرائيلية تتفاقم فى كل حرب من الحروب التى خاضتها نتيجة إتقان العرب فنون القتال، كما أن تحقيق السلام الدائم فى الشرق الأوسط هو أفضل فرصة ستتاح لإسرائيل منذ إقامة دولتها عام 1948، وإذا أجهضت هذه الفرصة فستقع كارثة لكل منطقة الشرق الأوسط، لأن العوامل المواتية للسلام قد لا تستمر طويلا فى المستقبل، فأسباب الحروب ونتائجها عادة ما تتصل بمخاوف وآمال الجنس البشرى بأكثر من اتصالها بأمور السياسة، ومن ثم فليس هناك شيء أكثر جلبا للكوارث من تأثير التلكؤ والتباطؤ فى تحقيق السلام، لأن الوسائل التى يتطلبها حفظ السلام ولو أنها تحتاج إلى شجاعة أكثر من إشعال الحروب، يجب أن تتلاءم مع واقع العالم الذى تطبق فيه، وأرجح أن الرئيس الأمريكى الأسبق عندما كان يصيغ مؤلفه كان مدركا تماما أن جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل إبان حرب أكتوبر عام 1973، قد بعثت ببرقية استغاثة لوزارة الخارجية الأمريكية صباح يوم 9 أكتوبر 1973 من كلمتين «أنقذوا إسرائيل»، كما يتذكر مقولة إسحاق رابين الذى خلف مائير فى رئاسة الحكومة: «إن الجسر الجوى الأمريكى لنقل الأسلحة إلى إسرائيل يعتبر أضخم جسر جوى من نوعه فى التاريخ، ومن المؤكد أنه دون هذا الجسر لم يكن فى استطاعة إسرائيل أن تستمر فى القتال»، وأخيرا استيعابه العبارة الخطيرة التى وجهها هنرى كيسنجر وزير خارجية أمريكا لجولدا مائير فى أول لقاء معها بعد انتهاء حرب أكتوبر «ولكنك هزمت استراتيجيا يا سيدتي». وبعد فوز باراك أوباما فى انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2008، استعرضت وقائع الأحداث منذ انتخابه وحتى فوزه بفترة رئاسية ثانية، وخرجت بمجموعة من الاستنتاجات تمحورت فى أن خطابه التاريخى فى جامعة القاهرة يوم الخميس 4 يونيو عام 2009، كان لمصالحة العالمين العربى والإسلامى بعد هجمة سلفه جورج بوش الابن الشرسة عليهما، وأنه عندما انتهى من خطابه كان قد مر سبع سنوات على مبادرة السلام العربية عام 2002 التى تمحورت حول إقامة دولة فلسطينية لقاء اعتراف العرب بإسرائيل ضمن حدود 1967، وتصريح الرئيس أوباما خلال المؤتمر الصحفى عقب أول لقاء بينه وبين بنيامين نيتانياهو رئيس وزراء إسرائيل يوم 18 مايو 2009 بتمسك الولاياتالمتحدة بحل الدولتين، وضرورة وقف الاستيطان، وأن حل النزاع العربى الإسرائيلى يصب فى التحليل النهائى فى قائمة المصالح القومية لكل من الولاياتالمتحدة والعالم، وأخيرا إعلان إسرائيل فى 14 يونيو 2009 أى بعد 27 يوما من مقابلة نيتانياهو الرئيس الأمريكى قبولها بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، فى إطار حل الدولتين، ولا أدرى هل نيتانياهو الذى تقلد الحكم فى إسرائيل فى 31 مارس 2009 يستوعب الحقائق التاريخية السابقة، مضافا إليها ما جاء بمؤلف يهوبشفاط هاركابى رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية السابق، الذى أصدره فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى بعنوان «ساعة إسرائيل المصيرية»، وطالب فيه دولته بتحقيق السلام مع العرب لأنه البديل الأنسب للحفاظ على دولة إسرائيل. وأكدت معظم مراكز الدراسات الاستراتيجية على اتساع العالم، أن الصين سوف تصل إلى نقطة التعادل الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة بحلول عام 2025، أى بعد نحو 9 أعوام من الآن، ومن ثم فمن المؤكد أن يتحول العالم ليصبح متعدد الأقطاب، بالإضافة إلى ألمانيا، التى تسعى لكى تصبح الدولة السادسة فى مجلس الأمن التى لها حق الفيتو. وفى 20 يناير من العام الحالى 2017 ستبدأ الولاية الأولى للرئيس الأمريكى الخامس والأربعين دونالد ترامب فى البيت الأبيض، ورؤيتى للرئيس المنتهية ولايته أوباما تجعلنى لا أجزم بأن الجديد سوف يتخذ قرارا محددا بالنسبة لقضية بعينها، ولو أننى أرجح بشدة أنه سيعيد صياغة الاستراتيجية الكونية الأمريكية فى الشرق الأوسط، تحقيقا لوعوده إبان حملته الانتخابية أنه سوف يخلص أمريكا من ركودها السياسى والاقتصادى والاجتماعي، ومن ثم فما علينا إلا الانتظار ورصد ما ستأتى به قراراته، ولا يمنع ذلك أن أقول إن على الولاياتالمتحدة تركيز كل ثقلها لحل مشكلة النزاع العربى الإسرائيلى أولا، وعلى رأسها المشكلة الفسطينية، كأسبقية ضاغطة باعتبارها المدخل السليم جدا لحل باقى المشكلات المزمنة، ووقتها سوف يتحقق الاستقرار، وتزدهر الديمقراطية، وسيتوارى الإرهاب، ويعم السلام الشرق الأوسط، فالأمر فى التحليل النهائى يحتاج إلى زعيم قوى لشن الحرب، وزعيم أقوى لتحقيق السلام. اللواء د. إبراهيم شكيب