حان الوقت، ونحن على عتبات الذكرى السادسة لثورة 25 يناير، ومرور ثلاثة أعوام ونصف عام على الثورة الشعبية الأكبر فى تاريخنا فى 30 يونيو 2013، لتقييم التجربة، لمعرفة ماذا أنجزنا وفيم أخفقنا.. فالمستقبل يحتاج منا النظر إلى ميراث الأعوام الستة الماضية نظرة عميقة إلى ما مرت به مصر من تغيرات عاصفة وحوادث جنونية، وسيناريوهات معدة سلفاً لصناعة الفوضى ويقظة شعبية فى الوقت المناسب لحماية كيان الدولة الجريحة، التى ضربتها سهام كثيرة فى مرحلة شديدة الحرج. والنظرة العميقة التى أقصدها يجب أن تختبر ما تعلمناه من التجربة وما يتعين أن نمضى فيه، حتى تخرج بلادنا من إحباطات وأعباء ثقيلة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. كان غياب الرؤية فى مطلع ثورة يناير من جانب القوى السياسية الشابة والتقليدية نذيرا بمتاعب كثيرة مرت بها مصر، ولم تفق منها إلا بعد أن خرج الشعب فى موجة عاتية فى 30 يونيو لإنهاء اللعبة الخطيرة التى مارستها جماعات وأحزاب وتنظيمات وشخصيات عامة، كانت مولعة بالسلطة بعد سقوط حسنى مبارك. فكثير مما زرعته القوى السياسية فى يناير 2011 مازلنا نحصد نتائج إخفاقه حتى اليوم, وكثير مما خرج إلى العلن فى الأيام القليلة الماضية يشير إلى خلل ما فى تعامل النخب السياسية والمثقفين مع الوضع الداخلى فى مصر، حيث تغلبت الطموحات الفردية والرغبة فى الوثب على السلطة على الشعور بحماية المصلحة العامة وحراسة الوطن من تقلبات عاصفة، ما كان لها أن تستمر كل تلك السنوات لو كان هناك من يعلى قيمة المصلحة الوطنية فوق أى شيء آخر! لو تحدثنا عن قائمة ما تم إنجازه فى السنوات الثلاث الماضية فسنجد الكثير من مشروعات البنية التحتية، والمشروعات القومية، وتوفير حياة آدمية لسكان العشوائيات، ومدن جديدة وإسكان اجتماعى للشباب، وتشجيع للبحث العلمى وإصلاح وسد فجوة الكهرباء فى طول البلاد وعرضها، وتطوير الموانى بعد أزمة خانقة فى عام حكم الجماعة الإرهابية، مرورا بإنجاز خريطة الطريق من انتخابات رئاسية وبرلمانية، وقبلهما الدستور الجديد، والأهم هو السيطرة على الحالة الأمنية وملاحقة العناصر المتطرفة، سواء فى سيناء أو فى الوادي، فى وقت تعلى فيه الدولة من رفع القدرات القتالية للقوات المسلحة المصرية، وتدعم أسطولها البحرى بقطع جديدة من أجل بناء قوة ردع مصرية، تحمى المياه الإقليمية ضد أى مخاطر محتملة... وكل ذلك يعني أن هناك حالة ممتدة من المواجهة الشاملة والعميقة في ملفات البني التحتية والاقتصاد والأمن والانتقال السياسي السلس، وهي الحالة التي لم تمنع الرئيس عبد الفتاح السيسي والحكومة من بدء عملية إصلاح الاقتصاد المصري، التي تغافل عنها الجميع في الماضي، وفقا لأسس شجاعة تواجه المواطنين بالحقائق، وتحاول توفير حماية للطبقات المضارة من الإصلاح، دون أن تؤجل المواجهة إلي المستقبل حتي لا يدفع الشعب فاتورة أكثر تكلفة فيما بعد. من العرض الموجز السابق يتضح لنا أن ما يسمي الحراك السياسي بعد ثورة يناير كان »كاذبا« ولم تكن مظاهر ممارسة الديمقراطية سوي مظلة خرقاء لعقد صفقات بين فصائل اليمين الديني المتشدد والمتطرف، وقوي اليسار التي اعتقدت أنها تملك الشارع، بعد تقدم مجموعات من المنتمين لليسار والليبرالية المسيرات في 25 يناير ثم كانت كذبة تعديل الدستور، وكتابة دستور في 2012 علي مقاس الجماعة الإرهابية بتواطؤ مع تيار ناصري اعتذر للجماعة عما سماه ممارسات الحقبة الناصرية ضدها، وتحالف معها في الانتخابات البرلمانية، وبتواطؤ أكبر مع اليسار المتسامح معها بحجة منح الديمقراطية فرصة، وعندما حصدوا الفرصة كاملة كانت فاجعة سنة من الحكم الشمولي الذي يهيئ الأجواء لديكتاتورية دينية صريحة، ويومها انتفضت قوي المجتمع الحية إنقاذا لهوية أمة في الثلاثين من يونيو 2013. اليوم، لا تقدر بعض القوي علي الساحة حجم تضحيات المصريين شعبا وجيشا، في المواجهة المفتوحة مع قوي الظلام. ومن لا يحصل علي مساحة الي جوار السلطة أو من لا تقبل السلطة تصوراته عن الحكم في تلك المرحلة الدقيقة، ينهال علينا بكل معاول الهدم والتحريض علي اليأس، ونشر بذور الفوضي أملا في تغيير يرضي نزواته. لا نقول إن تجربة التحول السياسي، وظهور مجلس تشريعي بعد ثورة 30 يونيو هو تحول مثالي، أو يلبي طموحات كل المصريين، وقد عبر رئيس الدولة، من اللحظة الأولي، عن أمله في برلمان يمثل كل ألوان الطيف السياسي، وأن يحسن الناخبون اختيار نوابهم، إلا أن الواقع المصري يفرض نفسه علي الممارسة ويأتي عبر صناديق الاقتراع من لا يستحق مقعد البرلمان وهو أمر طبيعي لكنه لا يعيق طرح قوانين إصلاحية كثيرة مثل قانون الخدمة المدنية والاستثمار والمحليات. ما لم ننجزه بعد! كثير من مشكلات مصر تأتي من توقعات غير واقعية أو غير قابلة للتحقق في قدرة القيادة السياسية علي الضغط علي «زر» فنحقق الإصلاح المنشود.. لسنوات طويلة نلف في الدائرة نفسها ولا نخرج منها لأن بعض القائمين علي إدارة مؤسسات يعرقلون مسيرة التحول والتقدم هكذا صريحة وبعضا آخر ينتظر أمرا أو ضوءا أخضر حتي يقوم بما هو مطلوب منه.. فمعضلة الإصلاح المؤسسي في مصر ترتبط بتوقعات مبالغ فيها من السلطة السياسية وأخري ترتبط بقدرة المسئولين في المناصب العليا علي المبادرة.. ومن يبادر منهم تقف البيروقراطية والديكتاتوريون الصغار عقبة أمام مبادراتهم، الأمر الذي يجعلنا بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من عملية إنقاذ الدولة المصرية من الجماعة الإرهابية، نترقب المزيد من عملية تمكين من بيدهم تغيير ثقافة العمل في المؤسسات العامة وغرس ثقافة أكثر تحضرا في العلاقة بين الموظف والمواطن ومقاومة داء الرشوة والفساد في تلك المؤسسات. فواحدة من معضلات الإصلاح الإداري في مصر هي غياب الإرادة بين القيادات العليا والوسيطة للقيام بجهد حقيقي في اتجاه الإصلاح المستهدف. من يستطيع اليوم أن يقول لنا كيف يحقق قانون الخدمة المدنية الأهداف المرجوة من إقراره فيما يتعلق بتحقيق إجراءات الشفافية والمساءلة ورفع مستوي أداء العاملين ما لم يتابع رئيس الدولة عملية الإصلاح خطوة بخطوة؟!.. والأمر نفسه ينطبق علي الجدول الزمني لإستراتيجية 2030. وواضح من التسمية أننا نتحدث عن سقف زمني، ولو جاء التنفيذ بطيئا وزاحفا بهدوء فسيحدث خلل في الأولويات وفي استهداف قطاعات بعينها، ومن ثم سيحدث تراجع في الأداء الكلي للإستراتيجية وهو ما يجب تداركه حرصا علي استكمال بنيان الإصلاح في العقود المقبلة. من معضلات الإصلاح الاقتصادي مراقبة الأداء وتقييم درجة التقدم في فترة التحول وفي حالة برنامج الاصلاح المصري الحالي تظهر الحاجة إلي حماية المواطنين من موجة الغلاء واستغلال فئة من التجار ورجال الأعمال الموقف، والتلاعب في الأسعار وحجب سلع كثيرة عن الجمهور ورغم جهود جهاز الرقابة الإدارية وأجهزة رقابية أخري في الدولة فإن رفع درجة الوعي المجتمعي مسألة لا خلاف عليها فهي الحصانة الأكبر لمواجهة الانفلات في الأسواق. كما أن تشديد القوانين يجب أن يمثل أولوية للبرلمان في الفترة المقبلة بعد مراجعة الموقف الحالي. ويعد إصلاح المؤسسات الإعلامية العامة واحدا من المطالب التي قفزت إلي الواجهة بعد ثورة يناير إلا أن الفوضي التي اكتنفت ممارسات في مؤسسات عامة وفي الإعلام الخاص كانت تستوجب تمرير قوانين الإعلام بعد فترة وجيزة من الثورة الشعبية في 30 يونيو وهو ما لم يحدث إلا أخيرا بعد أن عاني المجتمع تبعات الانفلات الفضائي والإلكتروني وفي الصحافة المكتوبة أيضاً. فقيمة تنظيم الإعلام، وليس المصادرة علي الممارسة، أنها تحمل في طياتها قدرة المجتمع علي النضج وعلي اختبار صلابته وقدرته علي تحمل المسئولية. أيضا لم تنل ثورة الشعب العظيمة في 30 يونيو القدر نفسه من اهتمام العالم الخارجي مثلما حدث مع الثورة الأولي فى 25 يناير 2011 ربما لعنصر المفاجأة في يناير وربما لحجم المقاومة والتآمر علي الثورة من جانب جماعة الإخوان ونخب سياسية خرقاء ومن قوي خارجية وبعض الانتهازيين في الداخل ممن وجدوا أن فرصهم في القفز علي السلطة قد احترقت بعد المطلب الشعبي بتدخل القوات المسلحة إلي جانبه لإنقاذ الوطن. وقد عرف الأوروبيون والأمريكيون قيمة ثورة 30 يونيو بعد ثلاث سنوات من العناد والمماطلة عندما ضرب الإرهاب عقر دارهم وبعد أن تجمعت خيوط أن هناك جماعة تمثل الأم الحاضنة لكل تلك التنظيمات الدموية وتمثل أفكارها المعين الحقيقي للإرهاب. وفي هذا المجال أمامنا فرصة وجود إدارة أمريكية جديدة تحارب الإرهاب بوضوح وتقدر موقف مصر تماما بعد 30 يونيو، وهو أمر ما كان ليحدث دون أن نرفع نحن الغطاء عن تلك التنظيمات المتطرفة وبسبب مواقفنا ندفع الثمن من دماء أبنائنا من الجيش والشرطة في سيناء كل يوم. فمسألة تصحيح الصورة في الخارج متعددة الأوجه والتفريعات ،ولكنها تصب في مصلحة زيادة رصيد الثقة في مصر دوليا ورفع مستوي الاستثمارات وإيجاد فرص عمل جديدة ومتنوعة للشباب، وهو المطلب الأهم لجميع فئات الشعب المصري، المهم أنه حان الوقت لتقييم التجربة. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام;