لم يقل الرئيس عبد الفتاح السيسى أو أى مسئول فى حكومة المهندس إبراهيم محلب إن الإصلاح الاقتصادى والمالى فى مصر هو عملية «يسيرة»، يضمنها صدور مجموعة قرارات ووضع آليات تنفيذها فى التو واللحظة، ولم يقل أحد من القائمين على إدارة السلطة السياسية أو التنفيذية إن فاتورة الإصلاح ستتحملها فئة على حساب فئات أخرى، ولكن الخطاب السياسى فى الفترة الماضية ركز على استيعاب خطورة الأوضاع التى تمر بها مصر، وأننا جميعا شركاء فى العبء الكبير وإن كانت الطبقات الفقيرة والمعوزة، والمتوسطة أيضا، فى حاجة إلى نظرة أخرى، ترفع عنها التداعيات السلبية لتكلفة الإصلاح والتى أقرت الحكومة أنها أمر لا مفر منه. فى تلك الأجواء يخرج علينا من يحاول أن يدير معركة الإصلاح فى اتجاه «قلب المائدة» على الدولة من أجل مصالح ضيقة لفئات وأفراد وجماعة إرهابية لا تعرف معنى الأوطان أو تعلى مصالح الأمة فوق تعاليمها الخرقاء التى كادت تعصف بالأمن القومى والأمن الاجتماعى فى بلد ابتلى بهم لمدة أكثر من ثمانية عقود حتى خرج الشعب ضدهم عندما عرف حقيقة مآربهم ونهم السلطة الذى يسرى فى عروقهم.
يخطط البعض للفوضى وتصدير الفشل إلى طبقات الشعب المصرى وتعميق مساحات اليأس استغلالا للقرارات الاقتصادية الأخيرة، وأهمها رفع أسعار الوقود، فى سلسلة متصلة من المؤامرات الداخلية والخارجية التى لن تتوقف بسهولة، لأن وراءها أجندات أعمال لن تهدأ لاستغلال ما يجرى فى المنطقة العربية «وقطاع غزه كنموذج» لصالحها على حساب المصلحة الوطنية.
فى اللعبة الجديدة، التى يديرها أصحاب المصالح الإقليمية والداخلية الخاصة، تبدو عملية استهداف مؤسسات الدولة على رأس أولويات تلك المجموعات سواء كما سبق الإشارة ببث روح اليأس والضيق فى نفوس الغالبية من العاملين فى الجهاز الحكومى أو عن طريق إثارة الشارع من الأوضاع الاقتصادية التى كانت القيادة السياسية والحكومة الأكثر صراحة من غيرها فى التعامل مع تداعياتها من اللحظة الأولي. من مفارقات ما يجرى فى مصر اليوم أن من فشل فى اختبار الشعبية وفى الشارع يحاول الاصطياد فى الماء العكر بدعوى الحفاظ على حقوق الكادحين من أبناء الشعب، بينما لو تمعنا الرؤية سنجد أن تحالف الفاسدين والمتاجرين بالدين على مدى أربعة عقود هو الذى أوصلنا إلى تلك النقطة التى نتجرع فيها مرارة الحلول المصيرية التى لا يمكن أن تقبل بالمسكنات أو تضليل الرأى العام من جديد, ويحاول هذا التحالف وأنصاره فى مؤسسات الدولة فرض إرادتهم بمحاولة كسر إرادة القرار السياسى ولكنهم فى حقيقة الأمر مجموعات لاتفهم أن الدولة اليوم لم تعد تملك رفاهية التهاون مع أفعالهم الخرقاء، وأن الممارسات التى كانت تفلح فى السابق أو كان يتم غض الطرف عنها لم يعد لها مكان فى مصر اليوم، حيث لا يمكن السكوت عن ابتزاز فئة أو مجموعة للسلطة السياسية أو التقليل من خطورة تحدى إرادة القانون بعد أن شربنا من كأس الفاسدين لعقود طويلة.
وفى كل الأحوال، تبقى الإرادة الحقيقية فى التغيير هى إصلاح المنظومة على نحو متكامل ولن تبدأ عملية الإصلاح دون تمكين قيادات شابة واعية صاحبة بصيرة ورؤى ثاقبة نظيفة اليد فى مواقع القيادة فى كل الاتجاهات وهى مهمة ثقيلة وصعبة فى ظل تمدد الفاشلين وتربعهم فى مؤسسات كثيرة سنوات طويلة ولكن المواجهة حتمية وتتطلب جهدا وصبرا حتى يمكن فرض إرادة التغيير فعلياً.
من ناحية أخرى لن يكون بمقدور قوى الفوضى أن تنبش بمخالبها فى الجسد المصرى مجددا فى ظل ما نراه من يقظة قواتنا المسلحة والشرطة والأداء الفائق فى الآونة الأخيرة للتصدى لقوى الظلام والمخربين التى أزهقت ارواح الأبرياء وخلفت وراءها دمارا كثيرا ولم تجن سوى فقدان تعاطف المصريين مع تيارات مارقة نجحت فى السابق فى الاحتيال على الشعب، وعندما تمكنت من السلطة وقعت فى شر أعمالها وهو انكشاف رغبتها الدفينة فى الانفراد بالحكم دون شركاء آخرين.
نعلم أن «سيناريو صناعة الفوضي» لن يتوقف وسيحاولون مرارا وتكرارا .. مرة بالشائعات والأكاذيب ومرة بالمعلومات المضللة ومرة بهز الثقة فى الاقتصاد المصرى وفى الدولة بأفعال شيطانية ومرة بمحاولة تأليب المطالب الفئوية وتعطيل دولاب العمل فى الدولة والقطاع الخاص .. وفى كل تلك المحاولات ستجد من يدافع عن منطقهم وستجد من يترحم على أيام الحكم المشئوم سواء كان فى عهد حسنى مبارك أو فى عهد الإخوان المسلمين، غير أن الغالبية الناضجة هى التى تعى تماما أن مساندتها ثورة 30 يونيو وما تبعها من اجراءات واحداث هى الضامن وهى الحارس لإرادة الشعب ضد قوى الفوضى والظلام.. فما أصعب تلك الأيام التى وقف فيها نفر من المصريين يصرخون باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان دفاعا عن قتلة ومخربين وعديمى الانتماء للوطن، واليوم بعضهم يستكمل الخطأ نفسه بالترويج لسقوط الدولة فى قبضة حديدية وفى براثن نظام قمعى جديد وهى الدعاية التى تروج لها قوى فى الخارج من الوهلة الأولى لسقوط نظام الجماعة فى الثالث من يوليو الماضى بإرادة شعبية خالصة.
هؤلاء يسيئون اليوم بشدة إلى منهج الدفاع عن حقوق الإنسان بعد أن انحازوا لفئة مجرمة على حساب وطن بكامله وهم بوقوفهم مع تلك الفئة يقدمون لهم مبررات لاستكمال سيناريو الفوضى الكئيب ولا يعنيهم سوى تنفيذ التزاماتهم أمام الشريك الخارجى «الممول» الذى يتولى الإنفاق على السيناريو وشخوصه المشبوهة وتلك المواقف لم يعد أصحابها قادرين على استمرار خداع المصريين ولكنهم يبحثون عن ثقب فى الجدار من أجل أن يستعيدوا أدوارهم السالف الإشارة إليها ويبحثون عن نقطة ضعف للمجتمع المصرى من أجل اللعب على وتر كسر الإرادة الشعبية.
اعتقادى الراسخ أن هذا السيناريو لن يفلح فى تحقيق مآربه وسيسقط سقوطا مدوياً ولن يحصد أصحابه سوى مزيد من الرفض الشعبى والسخط على أصحابه ومروجيه ومزيد من العزلة, وقد سبق أن تناولنا تلك السيناريوهات فى الشهور الماضية إلا أننا نجد أنفسنا فى حاجة إلى العودة من جديد إلى أهمية توعية الغالبية من أبناء شعبنا بأن ما يجرى من إصلاحات وتدابير لاستعادة زمام المبادرة فى الاقتصاد الوطنى والمضى فى إجراءات تحقيق العدالة الاجتماعية لا يمكن التراجع عنه، حيث لا بديل عن تحقيق قفزات إلى الأمام، وحقيقة الأمر نحن لا نملك حتى رفاهية الوقوف فى المكان أو البقاء عند نفس النقطة التى نحن عندها، لأنها تعنى بكل بساطة مزيدا من التدهور والدخول فى الدوامة التى يريدها الفاشلون والطامعون فى سقوط وطن عظيم.
ومن علامات الثقة فى النفس ان هناك فى الدولة من يرى منح فرصة أكبر قبل عقد مؤتمر المانحين لمساعدة الاقتصاد المصرى حتى تتمكن الحكومة من المضى فى إجراءات تؤكد تحمل مسئولياتها الوطنية بشكل كاف وحتى لا تصدر للعالم الخارجى الشعور بانتظار المنح الخارجية، فهناك من يرى ضرورة أن تقدم الدولة فى العهد الجديد صورة واضحة للجدية فى علاج الأزمات وإعطاء إشارات بأنها ترفض الاستمرار فى تلقى المنح والمساعدات. مصر اليوم لديها ما يكفى من مخزون الثقة فى النفس بعد شهور من المعاناة والوقوف فى وجه مخططات الهدم، وهو مخزون يثبت يوما بعد يوم قدرة المصريين على السير عكس الاتجاهات التى يدبرها دعاة الفوضى والتقسيم والحرب الأهلية وإسقاط المؤسسات، وهو مخزون يعلى من الاستقلال الوطنى والسيادة ووحدة التراب الوطني, ولو نظرنا فيما يجرى حولنا من مآس فى عالمنا العربى لأدركنا أن خياراتنا هى الصحيحة والسديدة حتى لو عانينا قليلا فى مواجهة تلك القلة المريبة.
يمنح التفهم الشعبى للقرارات الاقتصادية الأخيرة المجتمع طاقة إيجابية كبيرة وحالة نضج لدى قطاعات واسعة ترى بعين فاحصة اليوم أصل الداء، وتفهم ضرورة تجرع قدر من الدواء المر للحفاظ على كيان الدولة ومنح إصلاح الاقتصاد والمؤسسات فرصة.. وتلك الحالة الشعبية تتفهم أن هناك صراعا لم يحسم تحت السطح مع قوى الجشع والنفوذ السياسى والمالى وتتفهم أن خلق مناخ أفضل للاستثمار لن يتحقق فى ظل إجراءات استثنائية ولكن يستوجب الأمر عملية متدرجة لتصحيح المسار دون مزايدات والتعامل مع الواقع دون إفراط فى التوقعات حتى لا نسقط فى دوامة اليأس التى يريدونها لنا! لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام