بوادر تحرك الحكومة الجديدة للتصدى لأزمات الواقع الصعب، وتراكمات سنوات من الفشل والتراخى فى علاج حقيقى لمعضلات استعصى حلها، تؤكد أن إرادة التغيير حاضرة، وبقوة، ولتحقيق ما خرج الشعب من أجله قبل ثلاث سنوات ومازال الشعب يتوق إلى قيادة جديدة للبلاد تضع اللبنة الحقيقية لمجتمع أكثر إنتاجية وشفافية، فى إطار أوسع لعدالة اجتماعية تصل إلى كل الشرائح الاجتماعية.. فحسنا فعل رئيس الحكومة المهندس إبراهيم محلب بنزوله ووزرائه إلى الناس ومواجهتهم بالحقائق، والتأكيد على عدم التستر على الفساد، وأن الحقوق يقابلها واجبات... وأن الأجر والحافز والأرباح يقابلها العمل والإنتاج، وليس الفوضى والمطالب الفئوية والخاصة.... فى بداية تعبر تعبيرا صحيحا عن مفهوم المرحلة الانتقالية بوصفها تأسيس لنظام سياسى جديد يعبر عن أهداف ثورتين يتطلب تحقيقها التكاتف والشعور بالمسئولية الوطنية فى هذه الظروف الصعبة، واحترام الدستور والقانون والنظام العام والعمل. هذا الأداء مع قرب الانتخابات الرئاسية يعطى للشعب آمالا عريضة فى استعادة الثقة فى قدرتنا على بدء مرحلة جديدة، وبالقدر نفسه، يصيب هذا التفاؤل مجموعات المصالح الخاصة، والمرتبطة بدوائر الفساد التى سددت الضربة القاضية لنظام مبارك من داخله بإحباط شديد وحالة جنونية بعد أن أدركت تلك المجموعات أن الدولة عائدة وعازمة على القيام بوظائفها، والمضى فى تحقيق أهداف العدالة الاجتماعية، وهى مجموعات ورثت منظومة متكاملة من الفساد على مدى أكثر من 30 عاما سبقت ثورة 25 يناير، وبرهنت على أن هناك مرضا عضالا أصاب المجتمع المصرى بعد إجهاض مشروع النهضة فى سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. نعم.. تلك المجموعات تخشى من رئيس قادم يتبنى بحق أهداف ثورة 25 يناير ويضع محاربة الفقر و«العوز» الذى أوصل أسرا مصرية إلى أكل هياكل الدجاج أو البحث فى صناديق القمامة عن قوت يومهم، فى أولوياته، ويسعى من أجل التوزيع العادل للثروة، حيث إن تلك المجموعات المنتفعة من الفساد تأتى على رأس أولويات عملية إصلاح الخلل فى المنظومة، وستدفع ضريبة الإصلاح بعد أن تغادر سفينة الإصلاح الحقيقى الشاطئ إلى مستقبل جديد، فالتحديات الاجتماعية المتراكمة تحتاج إلى تضحيات وإجراءات واضحة وحاسمة مع مثل هذه المجموعات. وبدورها.. تبعث تلك المجموعات حاليا رسائل إلى المرشحين للرئاسة، وبالتحديد للمرشح الأكثر شعبية المشير عبدالفتاح السيسى، وهى تقوم بمحاولة إعادة إنتاج نفسها فى مختلف المؤسسات بالدولة، وإعادة إنتاج الفوضي، واستخدام الخطاب المغلوط، للإيحاء بأن أى أصلاح هو بدوره مرتبط بمصالح خاصة وللأسف الشديد فتلك المجموعات لها وجود فى غالبية المؤسسات، وهى تختبيء اليوم وراء أهداف ثورة يناير بمسميات مختلفة ومتنوعة ومن الأمثلة الواضحة محاولاتها المتكررة لإحياء الفتنة الطائفية التى ظننا أننا قد تخلصنا منها بعد زوال حكم جماعة الإخوان. ومن مظاهر صناعة الفوضى التى تروج لها، الضغوط المتزايدة والابتزاز فى إطار المطالب الفئوية، والقفز على مرشحين بأعينهم، والإيحاء لهم بأنهم يملكون مفاتيح التأييد والشعبية فى الشارع، وعند الضرورة يمكن أن تتحول إلى درع واق ضد الخصوم، ومن هنا تأتى المبالغة الشديدة فى إظهار التأييد لمرشح بعينه، وتقدم تلك المجموعات نفسها أيضا بحملة على اليسار والناصريين رغم أنه لا يوجد مذهب سياسى يحمل اسم جمال عبد الناصر، وفى نهاية الأمر، قدم الرجل لوطنه تجربة إنسانية لها ما لها وعليها ما عليها إلا أن شبح الزعيم الراحل بكل ما حاول أن يقدمه من مشروع وطنى مستقل، وإنهاء التبعية الخارجية، وحفظ كرامة أبناء وطنه، يؤرق مجموعات المصالح، ويقلق مضاجعها خشية ظهور من يحمل الفكرة النبيلة من جديد إلى أبناء شعبه. وهناك قطاع يريد تصفية حساباته مع ثورة 25 يناير، ويعتقد أن ثورة الشعب فى 30 يونيو ستغطى على فساده ويصيبه الارتباك كلما أكدت قيادات الدولة أن ما فعله الشعب فى العام الماضى هو تكملة لأهداف ثورة يناير، التى رفعت شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، وفى إطار حالة اليأس التى تنتاب الفريق السابق لا يتورع بعض أنصاره عن السعى لهدم بعض مؤسسات الدولة، التى تمثل القوة الناعمة، كالمؤسسات الثقافية والاعلامية، بعدما فشل آخرون فى هدم مؤسسات القوة الصلبة، وبعدما استعاد جهاز الشرطة الوطنى عافيته كمؤسسة وطنية تنحاز للشعب.. هؤلاء لا يتورعون أيضا عن تبنى خطاب جماعة الإخوان، والتنسيق معها، لإحداث مزيد من الوقيعة والفوضى والفتنة الطائفية فى ربوع مصر مع سعى محموم لشن حروب قذرة على شخصيات وطنية من أجل العودة لمواقع القيادة والسلطة. ولا شك فى أن هذه الرسائل كلها مكشوفة.. ببساطة لأن كلا منا له تاريخ. فى إطار ما سبق.. يعود السؤال مجددا فى كل مرة يجد المجتمع المصرى نفسه أمام أسئلة صعبة بشأن المستقبل.. ما العمل؟ أحسب أن كل فئات الشعب فى حاجة إلى إدراك خطورة ما يجرى من بعض المتلونين وأصحاب المصالح والباحثين عن أدوار اعتقادا منهم أن ركوب موجة الثورات والتغيير سوف ينطلى على الجماهير التى وثقت فى فرصة حقيقية للتغيير وسوف ينالها الإحباط واليأس وهى ترى تلك العناصر «المزيفة» تتنفع من الابتزاز حتى تفرض مصالحها الخاصة على الجميع وهو ما يجرى اليوم على قدم وساق فى عدد من مؤسسات الدولة المهمة والعريقة أملا فى إعادة أوضاع قديمة أو التأسيس لمنظومة فاسدة على مقاسها وحدها. العمل المرجو فى تلك الحالة هو التكاتف حتى نخرج بمصر من تلك الدائرة الجهنمية التى وضعنا فيها كل صاحب مصلحة وكل هؤلاء الفاسدين وأن تظهر الدولة لهم قدرتها على الفعل من خلال رؤية واضحة للمستقبل لا تخضع لشروط أحد ولا تملى معالمها فئة تريد اختطاف المجال العام بالصخب وعلو الصوت والمصادرة على المستقبل بأقبح الأشكال والأدوات والوجوه وإدعاء التحدث باسم الشعب دون سند من الحقيقة. فى حال إخفاق السيناريو السابق، سيعود المنتفعون أكثر شراسة وتموت كل فرص الإصلاح المؤسسى فى كل مصر، وعندها سيكون مصير الفقراء والكادحين والطبقة الوسطى فى مهب الريح من جديد وستجنى البلاد مرة أخرى نتاج ما يفعله صناع الفوضى الجديدة من المرتبطين بدوائر الفساد والإفساد وعندها أيضا لن تقوم قائمة لمؤسسات الدولة بل للدولة نفسها. فى الوقت نفسه.. فإن ما يروجه البعض، بالحق أو بالباطل، عن ضرورة إقصاء كل من شارك أو اقترب من النظام الأسبق نظام مبارك بدعوى محاربة الفساد فهؤلاء يشعلون نيرانا ولا يسهمون فى حوار حقيقى حول أولويات المجتمع، فهناك من عمل فى خدمة «الدولة» من الكفاءات الوطنية وهناك من اقترب وعمل فى خدمة «النظام ومشروع التوريث» وفسد وأفسد، فعلى سبيل المثال،.... من منا لا يعرف أن عضوية الحزب الوطنى كانت فى الريف المصرى ضرورة فى وقت ما لدى كثير من البسطاء للوصول إلى خدمات فى الحكومة وليست تعبيرا عن توجه سياسى حقيقى؟ فى الجانب الآخر من الصورة.. هناك غياب لقوى ثورة 25 يناير والتى عملت من جديد فى 30 يونيو لبلورة رؤية حقيقية لانتشال مصر من عثرتها وتركوا مجالا مفتوحا للعناصر «المزيفة» التى تمرح باسم مصلحة الشعب وهم فى واقع الأمر لا يبغون سوى مصالحهم الشخصية. وأرى.. أن روح 30 يونيو التى وحدت الأغلبية العظمى من المصريين على اختلاف مشاربهم ضد من حاول سرقة ثورة 25 يناير وأن يهدم الدولة ومؤسساتها ويشوه هويتها بل هدد وجود الدولة ذاته، ستعود من جديد لمواجهة من يحاول من مجموعات المصالح الخاصة فى النظام الأسبق سرقة ثورة 30 يونيو من أجل بناء وطن يتسع للجميع على أساس من العدالة والمساواة والكفاءة، وكما منحت الأغلبية العظمى من الشعب تفويضا فى 26 يوليو الماضى لمواجهة أى عنف وإرهاب ستمنح الرئيس المقبل أيضا تفويضا لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية مهما تكن التضحيات على أساس من العدالة والمساواة وأحكام القانون والدستور ما دامت تلمس فيه الصدق فى العمل والوطنية والأمانة والشرف. وتبقى كلمة.. إن مشروع «مستقبل أفضل» لابد أن يرتكن إلى مجموعة من الاعتبارات أولها النظر إلى المستقبل بعين المسئولية الوطنية وتجنيب البلاد الصراع السياسى القائم على الإقصاء والطائفية حتى لا ندخل دوامة جديدة من القلاقل التى كادت تعصف بالدولة وتهدم مؤسساتها الحصينة فى الفترة السابقة على ثورة 30 يونيو. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام