كتبت في هذا المكان قبل شهور عن السياسة الخارجية باعتبارها امتدادا للسياسة الداخلية في أي بلد، وأن صلابة ورؤية الخارج تحمل في طياتها قدرة علي احتواء الأنواء والعواصف في الداخل. في الحالة المصرية، انطلقت مسيرة إصلاح العلاقات على المستويات: العربي والإفريقي والدولي من تقديرات داخلية محسوبة للوضع الإقليمي ومضت الدولة المصرية بعد ثورة 30 يونيو في طريق وعر وصعب, حيث الحدود من حولنا من الشرق إلي الغرب ومن الشمال إلي الجنوب ملتهبة ومتقدة وتنذر بخطر عظيم علي الأمن القومي. ففي الغرب.. حالة سيولة غير عادية في الأراضي الليبية, وظهور جماعة تنظيم الدولة «داعش» للمرة الأولي في شمال إفريقيا, وفوضي تجارة السلاح والبشر علي أشدها, ولم تفقد مصر بوصلتها في دعمها لوحدة التراب الليبي والحفاظ علي كيان الدولة, وتشارك بجهد مخلص مع دول الجوار لدعم الشرعية وتحقيق المصالحة علي أسس واضحة.
وفي الشرق.. إرهاب عابر للحدود ضد الشرطة والجيش وعداء غير مبرر من جماعة ترتبط بتنظيم إرهابي بغيض وأنفاق تحمل خطرا داهما. وحققت القوات المسلحة والشرطة نجاحات مؤكدة في حرب بلا هوادة ضد أوكار الإرهاب في سيناء التي راهنت جماعات القتل والتدمير في السابق علي سقوطها في قبضتهم.
وفي الجنوب.. وبعد فترات ارتباك ما لبثت الدولة أن نجحت عبر علاقة جيدة مع حكومة الخرطوم علي تقليص آثارها السلبية في فترة زمنية قصيرة, وفتح صفحة جديدة مع الأشقاء, بينما تلتزم حكومة البشير بعدم الإضرار أو السماح بأن يكون السودان مصدر خطر علي الأمن القومي المصري. وقد كانت حكومة السودان خير عون في التوصل إلى اتفاق الإطار بشأن سد النهضة، وهو الاتفاق الذي حمل اسم «الخرطوم» في دلالة رمزية لا يمكن إنكارها.
وفي شمال العالم العربى.. حكومة رجب طيب أردوغان تحرق مراكبها مع الشعب المصري من خلال سياسة خرقاء، تساند جماعة إرهابية ولا تحسب حسابا لعلاقات الصداقة وروابط التاريخ بين تركيا ومصر. وفي الشمال أيضا، تفرض العلاقات مع قبرص واليونان واقعا جديدا في حوض البحر المتوسط، يحاصر سياسات حكومة أنقرة ويعمل من أجل السلام والتنمية وليس الهدم والتخريب. وفي منطقة الخليج العربي، تقف مصر وبالتنسيق مع المملكة العربية السعودية داعمة لأمن دولها وحارسة للاختراقات الإيرانية التي تريد أن تبسط هيمنة طهران علي مقدرات المنطقة من خلال دعم جماعات موالية وتصدير القلاقل للجيران بالتلويح بالقدرات النووية. ثم جاء المؤتمر الاقتصادي في مدينة شرم الشيخ مؤخرا تتويجا للاختراقات الناجحة في السياسة الخارجية من حيث حجم الدعم المعنوي والمادي وتأييد العالم لمنهج الإصلاح المتدرج للحكومة المصرية وهو ما شكل أيضا نقلة نوعية في قدرة الحكم تحت رئاسة عبد الفتاح السيسي علي تقديم صورة مغايرة لتلك التي سعي خصومه إلي رسمها بعد الثورة الشعبية علي جماعة الإخوان ورفض المصريين لسياسات الأنظمة التي تعرقل جهوده في إعادة البناء. المثير .. أنه بعد الحصاد المثمر والمتنامي لسياسة مصر الخارجية في الشهور الأخيرة، علت أصوات نشاز في وسائل إعلامية مملوكة لرجال أعمال ولأصحاب مصالح... ودون سابق إنذار تتكالب أقلام وحناجر تنهش في الجسد المصري وتخفض من سقف توقعات المواطنين وتشكك في عملية الإصلاح الدائرة بل وفي قناة السويس الجديدة, وتطول تلك الحملات الرئيس نفسه والحكومة في ظل اسطوانة تبدو معدة سلفا عن فساد قائم وفشل مزعوم بعد قوة الدفع الكبيرة التي حصلت عليها مصر في شرم الشيخ. اشتعال حرب إعلامية ضد الرئيس والحكومة وشخصيات عامة وطنية من أنصار حماية الدولة وضد مؤامرات هدمها في هذا التوقيت ووجود مفردات واحدة تجمع خليطا غريبا من أطراف شتي من فلول الحزب الوطني الفاسدة وجماعة الإخوان الإرهابية وبعض قوي اليسار من دعاة هدم الدولة في صحف وفضائيات خاصة مملوكة لرجال أعمال كونوا ثرواتهم في عصر الفساد ثم هادنوا جماعة الإخوان الإرهابية (بعضها دافع بقوة عن حق جمال وعلاء مبارك في العودة وحق رجل الأعمال مهندس الحزب الوطني المنحل أحمد عز في الترشح لانتخابات البرلمان)، لا ينتج سوي تلك الحالة المضطربة والعصبية التي تغلب المصلحة الفردية والشخصية علي المصلحة العامة وهو أمر طبيعي من رجال أعمال وجدوا أنفسهم أمام دولة لم تعد مثلما كانت في السابق تغدق عليهم بلا رقيب وعندما جاء يوم منح بلدهم العون والدعم لم تجد منهم سوي الإحجام والتراخي عن المساعدة وليس أدل علي الموقف السابق من حجم تبرعاتهم لصندوق «تحيا مصر» رغم أن هدفه الرئيسي هو المساهمة بقدر في خطط إعادة البناء. وليس سرا أن الحكومة الحالية قد رفضت طلبات كثيرة في الفترة الأخيرة منها طلبات رجال أعمال منها طلبات للحصول علي أراض في العاصمة الإدارية الجديدة بأسعار منخفضة ظنا منهم أن الأوضاع مازالت «علي قديمه»!!
علامات استفهام كثيرة .. وأجواء مريبة يتحرك فيها هؤلاء! كيف يمكن لنا أن نفهم السياق الإقليمي الدائر في سوريا وليبيا والعراق واليمن دون أن نعي خطر استمرار مسلسل إضعاف وإنهاك الدولة المصرية ومحاولة إعادة ممارسات ما قبل 25 يناير واستئناف مشروع هدم الدولة ومؤسساتها من خلال قوي الإرهاب والفوضي التي مازالت تتلقي تمويلات مريبة ودعما خفيا من أطراف كارهة للحالة الجيدة التي وصلت إليها مصر بعد سنوات من الفوضي. ومن المظاهر الماثلة للأعين في الأسابيع الأخيرة التحريض الواضح علي جهاز الشرطة وآثارة اكاذيب حول تورط مسئولين في عمليات فساد والإساءة لسمعة شخصيات عامة تدعم الرئيس من أجل إرباك الرأي العام ودفعه إلي إدارة الدفة ضد السلطة.
للأسف الشديد.. التسامح مع نشر معلومات لا أساس لها ولا تحمل ظلا من الحقيقة يسيء إلي الإعلام المصري ولا يسهم في الوصول إلي حالة نضج تصب في مصلحة الشعب الذي يعتقد هؤلاء أنهم يدافعون عن حقوقه ومصالحه. ولم تقتصر محاولات التشويه علي السياسات الداخلية وحدها، فهناك فريق يروج اليوم لإخفاقات مزعومة في إدارة ملفات السياسة الخارجية السابق الإشارة إليها، وهناك محاولات خبيثة تهدف للتشويش علي نجاحات الخارج مثل حملة التشكيك في العلاقة الجديدة مع إثيوبيا والاتفاق الأخير حول سد النهضة وشغلهم الشاغل هو إعادة اجواء الأزمة مع أديس أبابا إلي المربع رقم واحد!! ومدخل تلك القوي الداخلية والخارجية هو ضرب العلاقات المصرية-السودانية باستفزاز حكومة البشير واستدعاء الصحف السودانية لشن هجوم علي مصر والسيسي وهي لعبة مكشوفة لمصلحة أطراف خارجية معروفة. كما جرت محاولات للوقيعة في الملف القبرصي-اليوناني وإفشال ما تحقق من تفاهمات في الأسبوعين الماضيين بحديث غير مبرر عن»قبرص التركية» وهو الجزء المحتل من تركيا في شمال الجزيرة، في عدد من وسائل الإعلام- صحف وفضائيات- والخوض في ملف العمالة المصرية في اليونان بطريقة توحي بوجود تعنت ضد الجالية المصرية هناك!!.. ذلك بالتناغم مع حملات قطرية وتركية مستمرة ضد مصر!!!. وتطول الحملة بالقطع الموقف المصري من عاصفة الحزم في اليمن لاستعداء السعودية والإمارات ضد القاهرة! وفي الأيام الأخيرة ظهرت معالجات إعلامية تشكك في قدرة مصر علي تنفيذ نتائج مؤتمر شرم الشيخ وهو يصب في نهاية المطاف في خانة التشكيك في مؤسسات الدولة ويصيب عزيمة المصريين بالوهن والضعف في وقت نحتاج إلي جهد وتفاؤل كل مصري لاستكمال ما خرج الناس من أجله في ثورتهم الكبري في 30 يونيو ضد الفساد والطغيان والظلم الاجتماعي.
السؤال المنطقي .. في تلك الأجواء الصعبة هو: كيف يمكن أن يقدر الإعلام دوره المحوري في وقت مصر فيه في معركة وجود وهوية وفي حالة حرب ولاتراعي فيه مقتضيات الأمن القومي؟! وكيف يمكن لإعلام يرفع شعار المصلحة العامة أن يسهم في إعادة البناء؟ وهو غارق في الفضائح والنميمة وترويج الأكاذيب والخوض في الأعراض وفي شرف الناس وكيف يمكن لإعلام يدعي معرفته بالمسئولية الوطنية أن يتعمد إثارة الجماعات الفئوية والتبشير بعودة الاعتصامات والاحتجاجات؟! وكيف يفكر البعض في فرص إعادة أجواء ما قبل 25 يناير 2011 دون مراجعة من الجماعة الصحفية والإعلامية؟ وكيف لا نفتح المجال لمناقشة أفكار بعض المجموعات التي تدعي الثورية بصورة عميقة تحول دون تكرار مآسي ومراهقات تلك المجموعات في المستقبل؟ إننا يمكن أن نختلف حول رؤي الحكم تجاه الإصلاح وتجاه إدارة الدولة ويمكن أن ننتقد الأداء الحكومي علي أسس ومعايير واضحة ويمكن أن نعري أوجه القصور في الجهاز الإداري وفي قدرته علي تلبية احتياجات المواطنين علي أصعدة شتي ولكننا لا يجب أن نسقط في فخ عدم إدراك المسئولية تجاه الأمن القومي وحدود النقد وتأثيره علي الحالة الاقتصادية ونظرة الخارج إلي الوضع الداخلي. لا يمكن أن نغفل حقيقة أن الدولة تواجه اليوم أخطر تنظيم دولي في التاريخ المعاصر ومدعوم من قوي إقليمية ودولية، وحسب ما توافر لدينا من معلومات، تأتي الحملات الإعلامية الأخيرة فيما يروج البعض لدعوات مشبوهة للمصالحة مع «الإخوان» واستخدام أدوات ضغط عديدة منها الإعلام لعدم تنفيذ أحكام الإعدام علي قيادات الجماعة الإرهابية بمنطق بسيط جدا وهو «سيب وانا أسيب».. ألا يدرك الحمقي أن الظروف الراهنة لا تحتمل مواءمات ولا حياد، فالحياد خيانة في تلك الحالة ولكننا للأسف نعيش لحظة من الزمن فيها الخيانة وجهة نظر!! يفتقر منطق التجرؤ علي الدولة في تلك الظروف إلي «السلامة الأخلاقية» وما يجري علي أرض مصر يستفيد منه في المقام الأول جماعة الأخوان وفلول الحزب الوطني الفاسدة وبعض قوي اليسار الممولة من الخارج مع الأسف وكل هؤلاء يجمعهم عدم القدرة علي تحريك الشارع ويجدون اليوم ضالتهم في إثارة القلاقل والفوضي والتشويش علي أي إنجاز وفي التجرؤ علي الدولة!..
في تقديري.. أن المشهد السياسي الحالي يشي بعودة ثنائية فلول الحزب الوطني الفاسدة في مواجهة فلول الإخوان وهي الثنائية البائدة التي خرج الشعب ضدها. فالمشكلة من وجهة نظري هي الفراغ في الشارع السياسي المصري بعد سقوط الحزب الوطني في ثورة يناير والإخوان في ثورة 30 يونيو، فقد فشلت القوي السياسية في ملء الفراغ بعد قرابة عامين من الثورة الثانية لأن بعضها مازال ينظر للدعم القادم من الخارج وبعضها لم يقدم بادرة علي الرغبة في الوحدة في أحزاب وتيارات متماثلة في الفكر والأيديولوجية ويغلب المصالح الضيقة واللجوء إلي النقد الهدام للتغطية علي حالة العجز والإخفاق. ولا تريد تلك النخب الاعتراف بفشلها وتلقي اللوم علي السلطة والأمن والجيش وبقايا نظام مبارك لتبرير عجزها أو التغطية علي عمالتها للخارج. المأزق يتمثل في أن أنصار الدولة متفرقون بينما قوي الشر تتجمع وتشد من عزيمة بعضها البعض لمواجهة اصلاحات تضر بمصالحهم والحل هو خطوات فعالة لوقف تلك الحالة العجيبة في المشهد السياسي ولن يمكن الوصول إلي منظومة منضبطة ما لم نقم بخطوات محددة منها: تطبيق القانون، وعدم التسامح مع الخارجين عليه وفضح هؤلاء الأشخاص والمنظمات، والمحاسبة الجادة سواء للإخوان أو فلول الوطني الفاسدة، والحزم وليس ممارسة الجبروت في التعامل مع الوضع الراهن، وطرح رؤية واضحة لخريطة تقودنا نحو المستقبل وتشرك أصحاب المصلحة الحقيقيين من عامة الشعب في تحديد معالم المستقبل. المجالان السياسي والإعلامي في مصر في حاجة إلي تنقية وغربلة الغث من السمين لو أردنا صناعة مستقبل مختلف .. فهل يتقدم من يملأ الفراغ من قوي حية ونابضة تعبر عن الصالح العام بدلا من دوائر الفراغ التي أدمنها البعض؟! لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام