توجيهات من وزير التعليم للتحقيق مع مدرسة دولية لهذا السبب    سيارة مرسيدس GLC الكهربائية.. تصميم كلاسيكي بإمكانات عصرية    «لأسباب شخصية».. استقالة وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي من منصبه    منتخب مصر يخوض تدريباته باستاد العين استعدادا لمواجهة أوزبكستان وديا    الأهلي يفوز على سبورتنج في ذهاب نهائي دوري المرتبط للسيدات    وقف الإجازات ونشر السيارات.. 6 إجراءات استعدادًا لنوة المكنسة بالإسكندرية    رئيس المتحف الكبير: ندرس تطبيق نظام دخول بمواعيد لضمان تجربة منظمة للزوار    مراسل إكسترا نيوز بالبحيرة ل كلمة أخيرة: المرأة تصدرت المشهد الانتخابي    «هيبقى كل حياتك وفجأة هيختفي ويسيبك».. رجل هذا البرج الأكثر تلاعبًا في العلاقات    أحمد السعدني يهنئ مي عزالدين بزواجها: سمعونا زغروطة    أمين بدار الإفتاء يعلق على رسالة انفصال كريم محمود عبد العزيز: الكلام المكتوب ليس طلاقا صريحا    رئيس العربية للتصنيع: شهادة الآيرس تفتح أبواب التصدير أمام مصنع سيماف    تهديد ترامب بإقامة دعوى قضائية ضد بي بي سي يلقي بالظلال على مستقبلها    هل يشارك الجيش التركي ب«عمليات نوعية» في السودان؟    كريم عبدالعزيز يوجه رسالة لوالده عن جائزة الهرم الذهبي: «علمني الحياة وإن الفن مش هزار»    جائزتان للفيلم اللبناني بعذران بمهرجان بيروت الدولي للأفلام القصيرة    تقرير لجنة التحقيق في أحداث 7 أكتوبر يؤكد فشل المخابرات العسكرية الإسرائيلية    الجارديان: صلاح خطأ سلوت الأكبر في ليفربول هذا الموسم    هند الضاوي: أبو عمار ترك خيارين للشعب الفلسطيني.. غصن الزيتون أو البندقية    ضبط أخصائي تربيه رياضية ينتحل صفة طبيب لعلاج المرضى ببنى سويف    رئيس مجلس الشيوخ يستقبل رئيس نادي قضاه الأسكندرية    الهيئة الوطنية للانتخابات: لا شكاوى رسمية حتى الآن وتوضيح حول الحبر الفسفوري    استجابة من محافظ القليوبية لتمهيد شارع القسم استعدادًا لتطوير مستشفى النيل    ديشامب يوضح موقفه من الانتقال إلى الدوري السعودي    المخرج عمرو عابدين: الفنان محمد صبحي بخير.. والرئيس السيسي وجّه وزير الصحة لمتابعة حالته الصحية    الصين تحث الاتحاد الأوروبي على توفير بيئة أعمال نزيهة للشركات الصينية    الجامعات المصرية تشارك في البطولة العالمية العاشرة للجامعات ببرشلونة    هؤلاء يشاركون أحمد السقا فى فيلم هيروشيما والتصوير قريبا    إبداعات مصرية تضىء روما    الرئيس السيسي: مصر تؤكد رفضها القاطع للإضرار بمصالحها المائية    انقطاع التيار الكهربائى عن 24 قرية وتوابعها فى 7 مراكز بكفر الشيخ غدا    هل يجوز تنفيذ وصية أم بمنع أحد أبنائها من حضور جنازتها؟.. أمين الفتوى يجيب    الزمالك يشكو زيزو رسميًا للجنة الانضباط بسبب تصرفه في نهائي السوبر    تأجيل لقاء المصرى ودجلة بالدورى ومباراتي الأهلى والزمالك تحت الدراسة    نقل جثمان نجل مرشح مجلس النواب بدائرة حلايب وشلاتين ونجل شقيقته لمحافظة قنا    هل الحج أم تزويج الأبناء أولًا؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف نتغلب على الضيق والهم؟.. أمين الفتوى يجيب    الفريق ربيع عن استحداث بدائل لقناة السويس: «غير واقعية ومشروعات محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ»    توافد الناخبين على لجنة الشهيد إيهاب مرسى بحدائق أكتوبر للإدلاء بأصواتهم    حادث مأساوي في البحر الأحمر يودي بحياة نجل المرشح علي نور وابن شقيقته    الحكومة المصرية تطلق خطة وطنية للقضاء على الالتهاب الكبدي الفيروسي 2025-2030    عمرو دياب يطعن على حكم تغريمه 200 جنيه فى واقعة صفع الشاب سعد أسامة    غضب بعد إزالة 100 ألف شجرة من غابات الأمازون لتسهيل حركة ضيوف قمة المناخ    تأجيل محاكمة 8 متهمين بخلية مدينة نصر    الكاف يعلن مواعيد أول مباراتين لبيراميدز في دور المجموعات بدوري أبطال أفريقيا    ضمن مبادرة «صحح مفاهيمك».. ندوة علمية حول "خطورة الرشوة" بجامعة أسيوط التكنولوجية    بعد قليل.. مؤتمر صحفى لرئيس الوزراء بمقر الحكومة فى العاصمة الإدارية    مراسل "إكسترا نيوز" ينقل كواليس عملية التصويت في محافظة قنا    طقس الخميس سيء جدًا.. أمطار وانخفاض الحرارة وصفر درجات ببعض المناطق    إقبال على اختبارات مسابقة الأزهر لحفظ القرآن فى كفر الشيخ    بعد غياب سنوات طويلة.. توروب يُعيد القوة الفنية للجبهة اليُمنى في الأهلي    وزير الصحة يؤكد على أهمية نقل تكنولوجيا تصنيع هذه الأدوية إلى مصر    محافظ الإسكندرية: انتخابات النواب 2025 تسير بانضباط وتنظيم كامل في يومها الثاني    "البوابة نيوز" تهنئ الزميل محمد نبيل بمناسبة زفاف شقيقه.. صور    محافظ قنا وفريق البنك الدولي يتفقدون الحرف اليدوية وتكتل الفركة بمدينة نقادة    بنسبة استجابة 100%.. الصحة تعلن استقبال 5064 مكالمة خلال أكتوبر عبر الخط الساخن    إيديتا للصناعات الغذائية تعلن نتائج الفترة المالية المنتهية فى 30 سبتمبر 2025    مجلس الشيوخ الأمريكي يقر تشريعًا لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ البلاد (تفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة ضبط المزاج بين الحزن و الابتهاج
نشر في الأهرام اليومي يوم 13 - 01 - 2017

منذ سنوات بعيدة وأنا لا أسأل أحدا عن تاريخ ميلاده ؛ لأني منذ رأيت صورتي كل» نيني؛ لعينيها كان هذا هو ميلادي الحق الذي أحسسته ؛أما ما فات من أيام وشهور وسنوات من قبل ذلك، فبدت وكأنها الرحم الذي حملني كي أتعرف على الكون ،
ثم دهمني خبر سفرها إلى بعثة باريسية ؛ فصرت التائه بمدينتي ، وصار كل ما أراه هو تذكار لأيامنا معا ؛ ولم يكن هناك مفر من أن تدور عقارب الساعة لتضيف إلى حياتي وحشة متبوعة بفراغ مؤلم ؛ ظللت أحتمل وجودي بصعوبة قاسية إلي اللحظة التي التقيت فيها بيوسف السباعي الذي كان يقتسم مع إحسان عبد القدوس قيادة روز اليوسف ؛ أقنعته بأن لقلبي دولة خاصة اسمها حبيبتي وبالقفز فوق كروب متعددة ؛ استطعت شراء تذكرة سفر كي ألحق بمدينة ميلادي « عيون حبيتي «. ولا أحد يستطيع تصور البهجة التي ملأتني لحظة انطلاق المركب سوريا من ميناء الإسكندرية لتحملني ‘إلى فينسيا ومنها سأركب القطار إلى باريس ، وكان عامي الثالث والعشرون قد قارب على الانتهاء فالنتيجة قالت لي أن تاريخ هذا اليوم هو الثاني عشر من ديسمبر والعام 1963 ، وسأكون في باريس صباح الثامن عشر من ديسمبر .
ولما كانت تذكرة سفري هي أرخص تذكرة وأني مطالب بالبحث عن مكان أنام فيه على سطح المركب ؛ هكذا قالت التذكرة التي دفعت فيها كل ما أملك مضافا إليه بعض ما إقترضت لتكون هي تذكرة وحيدة الاتجاه دون معرفة كيف سأعود لبلدي مرة أخرى ، ولأن الأمر كذلك فقد ركنت حقائبي بجانب حجرات الركاب ، وأخذت أدور على سطح المركب لألتقي بالقبطان أنيس أنسي سيد هذا الكيان الذي يقطع مياه المتوسط ، فيتعرف على شخصي وليقول لي أنه جار صديق مقاتل بالبحرية المصرية ، ويطلب أنيس أنسي تذكرتي ليبتسم دون ان ينطق بالدهشة استغرابا من أن تذكرتي لا تسمح لي إلا بالبيات على سطح المركب ، وأني قد أموت من البرد إن قضيت ليلة واحدة نائما على هذا السطح ، وسمعته يأمر أحد العاملين معه أن يحمل حقائبي ويضعها في الجناح الملكي ؛ فهذا جناح مغلق لا يستخدمه أحد؛ ومخصص لكبار الضيوف.
وهكذا انتهت مؤقتا دوامة سؤالي كل صباح للشمس لماذا جاء نهار جديد ؛ وتأجلت رحلة قهري لنفسي للقيام بأى عمل.رغم أني نركت بالقاهرة زغاريد فلاحي قرية بدواي التي زرتها لخمسة أيام وكتبت عن شظف عيش فلاحيها من نيران عائلة أني تذكرت بالقاهرة زغاريد فلاحي قرية بدواي التي زرتها لخمسة أيام وكتبت عن شظف عيش فلاحيها من نيران عائلة إحترفت نهب عائد زراعة الأرض بواسطة كمبيالات متعددة ؛ وكان عنوان تحقيقي الصحفي هو « بعد 11 سنة من 23 يوليو 1952 ، فهذه الثورة لم تصل إلى بدواي . وتلقفت الإذاعات المعادية لعبد الناصر سطوري لتذيعها أكثر من مرة ، فيأمر عبد الناصر بالتحقيق ويتم رفع القهر عن فلاحي بدواي وتثبت صحة سطوري ، فيأتيني شكر من مكتبه أمتن له ، لكنه كان مصحوبا بمنع إي اجتماع مع صحفي في أي قرية !!. ويبقى في الذاكرة صورة فلاح مصري يجمع حشيش الأرض ويغليه ليكون حشيش الأرض طعام أولاده ، ويأتي هذا الفلاح وقد عاد إليه ريع أرضه ليشكرني ، ثم يأتي من بعده أحد الملاك المستغلين ومعه ابنته الصغرى ليسألني « ماذا جنت هذه الصغيرة كي يضع عبد الناصر العشرين فدانا المملوكة لها تحت الحراسة ولا تصرف كل شهر سوى بضعة جنيهات لا تكفي مصاريف المربية التي تقوم على رعايتها . وعلمت نفسي أن أخرس طوفان الأسئلة التي تنفجر بعد تلك الأقاويل. وعدت إلى كياني الذي لا يكف حتى أثناء السفر عن النظر إلى عيون الآخرين بحثا عن مدى تطابق كلماتهم مع مشاعرهم . وفي نفس الوقت أتحسس الكلمات لأستكشف فيها حقيقتها هل هي من الزجاج الذى يجرح جلد المشاعر. ودائما ما أشرك الغير في مشاعري دون خشية من أن بعضهم قد يقتحم حياتي ليأكلوا أسراري وقد يحاولون لتدمير علاقاتي بغيري .. تذكرت أني قبل الصعود إلى المركب أن ابتسامتي هى قناع أخفى به دموعاً متجمدة فى عيوني ولايراها أحد. ولكن الموقف إنقلب ، فها أنا ذا في الجناح الملكي بالباخرة سوريا ، ولأتذكر أن وزير الصحة عام 1951 كلف والدي بالصعود إلى نفس المركب كي يبلغ الأمير محمد عبد المنعم وزوجته الأميرة نسل شاه تحيات الوزير ، فوالدي هو مدير الحجر الصحي في ذلك الوقت ، وقد سمح لي أبي أن أصعد معه ألى سطح المركب وكان اسمها مركب محمد علي باشا ؛ وكانت ملكية أحمد عبود باشا المليونير الأشهر قبل الثورة . وكانت عيوني في الحادية عشرة تقيس جمال وحيوية الأميرة نسل شاه ، تلك التي قال عنها شباب قرية أبي أن الملك فاروق عشقها من وراء ظهر زوجها ، وأنه ضبطهما معا ، وأطلق رصاصة من مسدس اخترقت كفها الأميري . وكان صعودي مع والدي له هدف واحد هو مراقبة كف الأميرة نسل شاه . وقد شاهدت الكف سليما وليس مثقوبا كما قال شباب أنشاص. طبعا حكايات شباب القرية عن أسرة الملك السابق فاروق كانت كثيرة ومنوعة ، خصوصا عن إفطاره الصباحي بأربعين حمامة مسلوقة وموجودة كعصير مركز في فنجان ، وطبعا يشرحون سبب ذلك بزيادة فحولة الملك فاروق ، تلك الفحولة التي روت عنها راقصة شهيرة لكاتب أحبته ، حين خطفها بولي حارس مزاج الملك من الكازينو الذى ترقص به لتجري بها سيارة إلى ركن فاروق بحلوان ويدخلونها عرفة نوم ليدخل فاروق بعد ذلك فيبكي بين يدي الراقصة وهو يحكي لها كيف دخل على والدته غرفتها فوجدها في احضان رئيس الديوان الملكي أحمد حسنين باشا ، وتتوسل الملكة نازلي لإبنها أن يكون شاهد الزواج العرفي بينها وبين رئيس الديوان الملكي ، هذا الذي تدهس سيارته سيارة لوري لم يعرف من هو قائدها .
سوريا.. محمد على سابقا
ها أنا ذا في الجناح الملكي بالباخرة سوريا والتي كان اسمها قبل الثورة «محمد علي « . وعلى مائدة العشاء الذي دعاني إليه قبطان المركب أنيس أنسي ، أجد شجاعة الإبتسام وسؤال القبطان « هل الجناح الملكي الذي خصصه لي كان هو نفس الجناح الذي سكنه الأمير محمد عبد المنعم وزوجته الأميرة نسل شاه ؟ فضحك قائلا « هو جناح ملكي واحد موجود بالمركب ، وقد سكنته أيضا جميلة جميلات شقيقات الملك فاروق وهي الأميرة فايزة ، ومن قام بتهريبها أحمد عبود باشا بالإتفاق مع صلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة يوليو؛ فقد أحبها بجنون . والنوم على سرير ملكي لا يجعل الجفون قادرة على الإنغلاق. وأسأل الجدران ان تكون لها ألسنة لتحكي لي أسرار ما دار. ولكن الجدران الأنيقة المزودة بلوحات مغشوشة جعلني أسال قبطان المركب في الصباح : هل هذه هي المركب التي عاد بها خريجو كلية الفنون الجميلة من رحلتهم الأوربية التي زاروا فيها روما وفلورنسا وباريس .. خصوصا متحف اللوفر ؟ قال لي القبطان أنه لم يسمع عن تلك الرحلة ، لكني كنت قد سمعت عنها . وكانت ليلتي السابقة على السفر هي لقائي مع مخالي صاحب محل الإيليت والراعي الفعلي لسيف وانلي رسام الإسكندرية الأشهر، وهو صديقي الأثير الذي تقرأ لوحاته أحاسيسي ، فقد كنت منذ عام 1955 أزور مرسمه كعاشق للفن ، على الرغم من مدرس الرسم في مدرستي جعلني عاجزا عن الإمساك بالفرشاة لارسم فقد طلب مني أن أرسم أرنبا على قطعة مستطيلة من القطن وأقصها ليعلقها على جدران الفصل ، لكني لم أضبط شكل الأرنب فوضع قلما من الرصاص بين أصابع يدي وحاول ضربي بمسطرة أخرى على ظهر أصابعي ، فدفعته وأنا في الثانية عشرة بقوة لا أدري من أين جاءتني فإلتصق بالحائط . وصرح بأني مجنون ومفصول ، وفتحت باب الفصل متجها إلى غرفة الناظر محمد بك الزمك مؤلف كتاب الجغرافيا المقرر على فصلي الدراسي ، لأقول بصوت مختبق بالدموع « مطلوب أن تكشفوا على عقول المدرسين ، حتى لا يفعلوا مثلما أراد الأستاذ رشاد أن يضربني بوضع قلم رصاص متضفر بين أصابعي ليضربني من بعد ذلك وقد دفعته بعيدا عني فإلتصق بالحائط « ولحق مدرس الرسم بي في غرفة الناظر . وطالبني الناظر بالإعتذار . فقلت أعتذر لحضرتك لأني دخلت غرفتك مندفعا . وعلى المدرس الإعتذار لي « وتركت غرفة الناظر لأسمع زعيقه في المدرس الذي كان ذلك آخر يوم له كمدرس بمدرسة محرم بك الخاصة. وقلت لطلبة الفصل « علينا أن نسافر لمقابلة طه حسين باشا وزير المعارف لنقدم له شكوى « . سخر مني البعض ، وتساءل البعض الأحر عن سعر تذاكر القطار ، وهل سنستطيع لقاء طه حسين باشا حين نذهب إليه في مكتبه ؟ . ولا أدري كيف وصل الخبر للأستاذ ناظر المدرسة الذي حضر إلى الفصل قائلا أن تعليماته للمدرسين واضحة أنه لا عقاب بالضرب أبدا والتلميذ المشاغب يمكن فصله وإستدعاء ولي أمره. وبقي من تلك الواقعة هو خوفي من أن أرسم وفي نفس الوقت لم أمل من عشق لوحات الفنان كنعان التي تزين غلاف آخر ساعة كل أسبوع ، ولا لوحات جمال كامل المرسومة بخطوط سوداء لجميلات يصعب أن نجدهن في الواقع ، ولكن يمكن رؤية أي جميلة منهن على قصة بروز اليوسف .
وكان عشاء الليلة السابقة على مائدة سيف وانلي ليذكرني كيف رسم أكثر من خمسين لوحة للمراة عندما زاره شارل زهار مؤسس متحف الفنون الجميلة وقال له «» لن يعترف بك أهل باريس وروما ما لم ترسم المرأة « ، وسافر شارل زهار في رحلة للأقصر ويعود بعد أسبوع ليجد أتيليه سيف وانلي قد ازدحم بما لا يقل عن خمسين لوحة زيتية للمرأة . وطبعا كان سر السرعة في الرسم وهو قدرة سيف وانلي على تحضير ألوان زيتية تجف بعد وقت قصير .
وعلى مائدة العشاء حدثني مخالي عن عظمة ما سوف أشاهده في فينسيا إن كان عندي وقت لأزور متحفها أو كنائسها فهي أحد بيوت الفن ، وكيف يمكن أن أرتوي من نهر الألوان المبدع في متحف اللوفر ، هنا ضحك سيف وانلي قائلا لمخالي « هذا الشاب الذي يجلس أمام رآى لوحات الكون من بدايته إلى أن تقوم القيامة في عيون حبيبته ، فلا تحدثه عما سيرى . فقال مخالي : تعلم ياسيف أن الشاب الذي أمامك هو من قال وكتب أن العين سكين تبقر بطن المزيف في اللوحات وترى الموسيقى السرية التي أدى بها الرسام لوحاته ،
وقال سيف : أنت سألت عن رحلتنا إلى باريس وفينسيا وروما التي قامت بها جماعة الفن ، وكان فيها الفنان حسن فؤاد والفنان جمال كامل وأنيس منصور وكمال الملاخ . وقد زرنا المتاحف كلها وإستمتعنا بكلمات حسن فؤاد على الرسم الفصيح الذي يبسط اللوحة أمام الجمهور العادي ، أما مدارس الفن بتعقيداتها فتعزل الجمهور عن رؤية الفن. كما أن المدارس الفنية من وجهة نظر حسن فؤاد توجد في العالم كله في توقيت واحد ، فأنت تجد رساما مصريا يرسم التكعيبة في نفس وقت ظهورها في باريس . قال مخالي « السماء تمطر إبداعاتها في توقيت متقارب ، فتهب فنانا مثل منير كنعان قدرة على التجريد قبل أن يظهر في باريس ؛ بينما هو يعيش بيننا في القاهرة ومازال يهدينا سحر الأنوثة بلوحات على أغلفة آخر ساعة.
يسألني سيف وانلي عن موعد إفراج الرئيس جمال عبد الناصر عن الشيوعيين المعتقلين بالواحات ففيهم فنانون كبار مثل حسن فؤاد وداود عزيز ووليم الملك ؟ فأقول : تم الإقراج عن جمال كامل بعد لقاء بين عبد الناصر وإحسان عبد القدوس ، حين اشتكى إحسان لعبد الناصر أنه لا يجد فنانا يرسم بروز اليوسف مثل جمال كامل . أما الباقي من المفكرين والرسامين فكل ما أعرفه هو لقائي من حسن مصلحي ضابط مكافحة الشيوعية وقد تم نقله من الإشراف على المعتقلين بعد موت شهدي عطية المفكر الذي أحب عبد الناصر وأحب في نفس الوقت تنظيمه الشيوعي . وطبعا الكل يعلم أن عبد الناصر لا يهتم بمن يحبه أو يكرهه ، لكن عنده حساسية مطلقة ضد وجود أي تنظيم سري حتى ولو كان مؤيدا له . هذا ما قاله لي شعراوي جمعة محافظ السويس وأحد أعضاء الضباط الأحرار وهو من عمل قبل تولي منصب المحافظ بالمخابرات العامة . وكان يعرف عبد الناصر لا بمحبة بل بقداسة . سألت سيف وانلي : مادمت تعرف واحدا قريبا من عبد الناصر لماذا لا تكلمه عن الفنانين المحبوسين ؟ ألست أنت محرر شاب بالدار التي أسس فيها حسن فؤاد شكل وأسلوب تحرير مجلة صباح الخير. قلت لسيف وانلي ´لك أن تتخيل أن لقائي مع حسن المصيلحي بعد أن إنتقل لمصلحة الجوازات والجنسية وأن أي صحفي يسافر يجب أن يمر عليه ليأخذ موافقته على أن يخرج من المطار أو الميناء ، وقد قال لي « أنت مسافر لباريس حتى تلتقي بالشيوعيين الهاربين .. أنا أعرفكم يا بتوع روز اليوسف طول عمركم شيوعيون ولا علاج لكم إلا الحرق فقلت ردا عليه : سأخرج من عندك إلى مكتب الرئيس عبد الناصر لأنقل له رأيك في مجلة تحب 23 يوليو « . قال لي حسن المصيلحي : أنا أعرفك وأعرف أنك كنت تدرس بآداب الإسكندرية وإصطدمت هناك بالضابط سعد عقل ، ولولا تدخل شوقي عبد الناصر مدرسك لكنت الأن مع المعتقلين . قلت له لكني لم أنضم أبدا لأي تنظيم ضد الثورة . قال كلكم شيوعيون أولاد ستين في سبعين .
قال مخالي يخسر عبد الناصر بسبب أجهزة الأمن . قال سيف وانلي وتخسر الحركة الفنية بوجود مثفقين وفنانين وراء القضبان
إذا كنت هذا الإنسان.. فأنا أدعوك معى إلى ضبط أوتار الأحاسيس لتعيش بانسجام مع نفسك ومع من حولك.
وأقصد ب «ضبط أوتار الأحاسيس» أن تعرف أن المزاج الإنسانى فى هذا العصر قد دخل على مائدة العلماء.. وقالوا عشرات الملايين الآراء.. ثم قالوا:
إن مزاج إنسان القرن العشرين.. أزرق اللون.. وداكن.. ويمكن أن يتحول إلى مزاج متفائل ممتلئ بالفرحة.. إذا عرف إنسان القرن العشرين أن يخرج من حصار الزيف.
لكن كيف يخرج إنسان القرن العشرين من حصار الزيف..؟
وتكون الإجابة على لسان د. أردن بيك أستاذ علوم الإحساس الإنسانى بجامعة بنسلفانيا.
أن يعرف الإنسان أنه لم يعد العملاق الوحيد فى هذا الكون.. وأنه ليس مطلوباً منه أن يجلد نفسه برغبة الوصول إلى الكمال.. وأن الحياة تسير منذ بدء الخلق حتى الآن بقدر كبير من الانسجام الخاص بها.. ولا يوجد بعد نهايات عصر الرسالات السماوية أى داع لإرهاق النفس البشرية بأحمال ثقيلة من الإحساس بالذنب لأن الإنسان لم يصل إلى الكمال.. إن الإنسان الكامل هو النبى.. وفى عصرنا لا يولد أنبياء.. إنما بشر.
وعلى الإنسان أن يعمل بحماس لا ليصفق له الآخرون.. ولكن ليرى هو أنه استطاع أن ينجز عملاً..
وعلى الإنسان أن يصحو كل صباح بعقل إنسانى لا بعقل فأر.. والفرق بين عقل الفأر وعقل الإنسان هو ما يلى:
عقل الإنسان يعرف أن الهدف من الحياة ليس امتلاك كل شئ.. ولا التهام كل شئ.. ولكن لابد من التوازن بين ما أمتلكه وبين إحساسى بالسعادة.. فلا يهم أن تكون سيارتى بنصف مليون جنيه.. وتكون مشاكل يومى فى حجم الهرم الأكبر.. ولا يهم أن تكون ملابسى أكثر أناقة من ملابس الرئيس ريجان.. وتكون أحزانى كسرطان سرى يأكل منى بهجة الفرح وليس معنى ذلك أن يعيش الإنسان على الكفاف.. ولكن أن يحيا بتوازن..
وعقل الفأر هو عقل يفكر بالأنياب والترصد.. أن يترصد دائماً الأنفاق المظلمة.. ويدرب أنيابه على أكل كل شئ.. إن الفأر لا يتوازن على الإطلاق.. يأكل كل ما أمامه – ويتكاثر بسرعة رهيبة.. ذكر الفأر يلتهم الأنثى فى وجبات من الشهوة المتلاحقة ثم بعد أن يكثر عدد الفئران تبدأ رحلات من الانتحار الجماعى للفئران.. وغالباً ما يقف إنسان ليرى ظاهرة انتحار الفئران وهو يتساءل:
- لماذا هذا الغباء؟
ولكنه غباء مطلوب لنعلم أن الحياة بالأنياب والترصد تقود إلى النهاية السريعة..
إذن لا مفر أمام الإنسان من السباحة فى بحر الحياة بتوازن..
ولا مفر من مواجهة اليوم كحقيقة واضحة من الساعات التى تطلب منك معرفة حدود الاتصال بالآخرين.. وحدود الانفصال عن الآخرين.. لا مفر من معرفة أن لمسة يد الرجل للمرأة فى حلال.. هذه اللمسة فيها من العناق والدفء ما ينقل رفرفة الأمل.. ومن الأمل إلى اتساع الرؤية.. لا مفر من معرفة أن عيون الإنسان خلقت لتتعلم أن قانون النشوة مكتوب فى تواصل العشق.. والألم مكتوب فى تحمل مسئولية العشق.. ولو أراد الإنسان أن يواصل التهام ساعات النهار فى عشق بلا مسئولية.. فعليه أن يتحمل الألم العنيف بلا مبرر واضح.. فأكثر النساء شقاء فى الغرب.. الخائنات وكذلك أكثر الرجال شقاء هم الذين يستبيحون لأنفسهم الحرام.. لا مفر من معرفة أن جمال الكون موجود وفى انتظار عيون تراه.. لا عيون تسجن نفسها فى انتظار الموت. إن الموت سهم غير واضح الملامح منطلق معنا ليجرى خلفنا منذ لحظة الميلاد وعندما يأتى الميعاد المحدد فى اللوح المحفوظ ستسلم أنفاسنا الراية للملاك القادم من السماء، المسافة بين الميلاد والموت هى تواجد يومى فى علاقات بين البشر وعلاقات مع الأماكن.. المهم هو أن نستخلص الجمال من هذه العلاقات لنرى حياتنا على ضوء شموع الدفء الإنسانى.. وعلى ضوء الإشراق الجمالى للأماكن التى نوجد فيها..
الفرق بين الانسان والباذنجان
ثبت كما يقول عالمنا الجليل د. عبد المحسن صالح خبير تبسيط العلوم أن الهندسة الوراثية توصلت إلى أن الفرق بين الإنسان والباذنجان والقرد والتفاح هو اختلاف فى ترتيب وتركيب شريط رفيع فى الخلية الأولى.. وهذه الخلية الأولى تملك أربعة عناصر فقط.. تختلف نسبتها فى الإنسان عن الباذنجان وفى القرد عن التفاح.. إذن فلا تعالى ولا كبرياء لأحد.. إنما الكرامة مقدسة لكل كائن وكلمة «أنا» تعنى الضعف والقوة..
ومعرفة الإنسان لضعفه هى بداية معرفته لقوته..
ثبت أن الأجيال يمكنها أن تضحك على حماقات الظلم المتراكمة.. تماماً كما يضحك العشاق على غباء من أقام صالات لتعذيب البشر وإلقائهم للحيوانات.. وعندما يرى الإنسان ساحات القتال القديمة.. يمكنه أن يمتلئ بالأسى على جنون حاكم حبس «150» ألف إنسان فى سيراكوز ليحفروا له جبلاً بسكاكين صغيرة.. وأن يزرعوا فى بطن الجبل أشجار البرتقال.. لقد زرعوا بالفعل أشجار البرتقال.. ولعن التاريخ الحاكم الظالم الرومانى.. وعرفوا آلام البشر عندما تحولت إلى فصوص من البرتقال أكلوا البرتقال بلون من الترحم والشفقة على حياة هؤلاء الشهداء.. لقد بقى البرتقال دليلاً على غباء رجل قوى وشهادة إبداع للشهداء.
ثبت أن للحزن عدوى.. لذلك صار من السهل أن يطلب الإنسان من صديقه أن «يعقم» نفسه من الحزن.. بمعنى أن يبتلع قرصاً مهدئاً.. وذلك حتى لا تفيض الأحزان من إنسان إلى آخر.. وثبت أن «تعقيم» الأحزان عن طريق الأقراص المهدئة يسلب الإنسان القدرة على إدارة أمور حياته.. وأن أفضل وسائل تعقيم الإنسان لأحزانه أن يقرأ وأن يلعب وأن يحب وأن يؤمن بأن الله خلقه فى هذا العالم ليبتهج لا ليغتم.. والبهجة تأتى بإنجاز العمل ومحاولة تقبل العالم كما هو.. وأن السعى لتغيير العالم أمر مهم ومطلوب من كل إنسان.. بشرط ألا يتحول هذا السعى إلى مرض عصبى.. فلا أنا أغير العالم ولا أنت تغير العالم وقوتى لن تقهر ضعفك.. وقوتك لن تقهر ضعفنا.. ولكن قوتى وقوتك يمكنها التعاون لنقهر ضعفنا المشترك.
ثبت أن أمام الإنسان لونين من السفر.. سفر إلى المكان وسفر إلى الأعماق..
وعندما يمتزج السفر من المكان إلى مكان آخر مع السفر من أعماق إلى أعماق فهذا هو السحر الحى الذى يلون الحياة بألوان من الحرية. الحرية التى لا قمع فيها.. وخيال الإنسان عندما حطم القمع.. فهو أيضاً يرتوى من نهر جمال الأماكن ويشرب من خمر قادرة على أن تزرع الصفاء فى الوجدان، إنها خمر التاريخ.
وأعماق الإنسان عندما نجيد السفر إليها.. فنحن نتيح للآخرين الذين نمتزج بهم فرصة التخلص من الإحساس الداكن بالوحدة.
أنت معى الآن عزيزى القارئ فى ضرورة الإبحار بعيداً عن صناعة أى بطولة مزيفة، وضرورة طرد أى دموع غير صادقة من عيوننا، وضرورة أن نلقى بضحكات الخبث بعيداً عن حناجرنا.. وأن يقول كل منا للآخر – أنا ضعف وقوة وأنت كذلك.. فأين ضعفك لأحترمه.. وأين قوتك لأفخر بها معك؟
ولأن البداية دائماً هى سفر من رحم الأم إلى العالم.. ومن أعماق الإحساس بالوحدة إلى أعماق الإحساس بالانسجام مع البشر.
ولأن الهدف هو ضبط أوتار الإحساس لنستقبل أنفاس الهواء فى صدورنا بنقاء الصدق.. لذلك دعنى أوجه لك الدعوة الآن لمحاولة ضبط الإحساس بالانطلاق إلى رحلة ما.. دعوة تتنوع وتتشكل وتحاول كسر جمود أى زيف.
رحلة من مكان إلى مكان.. ومن أعماق إلى أعماق.. وكما تطلب فنجان قهوة لتضبط كمية الكافين على قدر طاقة الانتباه.. أدعوك أن تقرأ بعينيك رحلتنا كل أسبوع لنعيد معاً ضبط الإحساس وليحصل كل منا على «إحساس مضبوط» ينتعش من بعده بأريج الحرية.
* لأنوثة خشنة وملابس ناعمة
تتداخل الأنوثة مع أوراق الورد، في لوحات عدلي رزق الله، لتنطق النساء بآهات النشوة، ويشتاق الرجال إلى دفء البيت وتخرج من النخيل في تلك اللوحات ثمار التمر، ويبقى من سعف النخيل بيتاً ليختفي فيه من يحب، هذا ما فكر فيه المهندس إسماعيل وهو يلتقي بمدرسة الأطفال ابتسام، فقد زادت أنوثة هذه المدرسة فوق ما يحتمل خيال المهندس إسماعيل، حتى صار رأسه مليئاً بصورها، وكأنه يملك معرضاً خاصاً ينافس به لوحات عدلي رزق الله، لكن المفاجأة الصعبة في حياة إسماعيل أنه اكتشف بألم أن ابتسام تعاني من كراهية شديدة لكل ما يمت إلى أنوثتها بصلة.
* من يتحمل زحام العيون:
كل إنسان يسأل نفسه خلال حياته أكثر من مرة هذا السؤال القاسي: ماذا فعلت يا ربي حتى ألتقي هذا النوع من الحياة كعقاب؟!
ودار السؤال في حياة المهندس إسماعيل أكثر من مرة، فحين دخل كلية الهندسة، لم يستطع الالتحاق بقسم «عمارة»، وكان عليه أن يلتحق بقسم الإلكترونات، لأن إدارة الكلية شاءت ذلك، وهكذا انتقل من دنيا تصميم البيوت إلى دنيا إصلاح الرادارات، والترانزستور، والكمبيوتر، والمسافة بين حجم أي بيت وبين حجم الكمبيوتر، أو الترانزستور هي مسافة شاسعة، وعلمته الدراسة في كلية الهندسة، أن يقلل من حجم أحلامه، فلا يطمع إلا فيما بين يديه، ولكن كانت السماء تعد له مفاجأة أخرى، فمنذ التقى بنهلة، هذه التي تتركز أنوثتها في بروز خفيف في أسنانها، وتضخم مرسوم في شفتيها، وضوء مبهر في عينيها، وبهجة خاطفة من نهديها تحت البلوزة أو الجاكيت، وتراقص غير مقصود ظاهر في خطواتها، وثقة باهرة في أن الدنيا لعبة في يدها، كانت تلك هي مفاجأة السماء لإسماعيل، وكان من السهل أن تلتقي عيونه بحزنهما مع فرحة عيني نهلة، ليتجاور الحزن مع الفرح، ويبحث الفرح عن لحظة اندماج في شجن هذا الحزن، واندفع الاثنان إلى أن يبسط كل منهما قائمة أحلامه أمام الآخر، فسارت نهلة على بساط من مشاعر إسماعيل، وخطا إسماعيل على ورود من كلمات نهلة، وأحس كل منهما أن أحضان الآخر له مهما طال الزمن، وقد طال الزمن فعلاً لمدة تسع سنوات من بدء لقاء الاثنين إلى أن تزوجا، وعرفا خلال تلك السنوات عبء ادخار كل جنيه بجانب الآخر، ثم تلهث أسعار الشقق إلى ما فوق القدرة، فتبكي عيناه دون دموع في عيونها، فتعده عيناها بأن الفرح قادم، ثم يأتي اتفاق بين العائلتين ليتزوج الاثنان، ويعيشا شهراً في بيت والد نهلة، ثم شهراً في بيت والد إسماعيل، وتشعر نهلة في بيت والد إسماعيل أن عيني أمه تفتشان في جسدها عن أسرار لقائها مع جسد ابنها، ويشعر إسماعيل في بيت والد نهلة أن عيني أبيها تسألان دون كلام عن مدى اقترابه أو ابتعاده من جسد ابنته، وغلف إسماعيل ونهلة آلامهما بضحك، ويبحثان عن خصوصية حياتهما في زحام من العيون، إلى أن يحين وقت السفر إلى الخليج، وكأن بطون نساء مصر صارت كالنافورة التي تنتج الأيدي والعقول لتعمل في الجو الحار، كل ذلك والمقاولون يعيشون في قمة إدمان الارتواء من دم الشباب، حين يجمعون دم الشباب المسافر ليتحول إلى أرباح، وما بين خزائن البترول وخزائن المقاولين كان هناك جسر من أحلام جيل مدهوس، مغموس في قوقعة ذل يسأل السماء: لماذا أجريت علينا هذا القدر يا رب؟
وأثناء العمل في الخليج ولدت نهلة الابن الأول هشام، فجاءت والدتها إليها لتقيم معها في الخليج وتقضي النهار أمام الطفل، وتقضي الظهر أمام الفتارين، وتحاول أن تعبئ الخليج كله في حقائب لتعود به إلى القاهرة، وحين جاء ميعاد ميلاد الطفل الثاني، كان الطبيب المولد هندي الأصل، وأهمل هذا الطبيب في رعاية نهلة فودعت الحياة ليتركز الحزن في عيني المهندس إسماعيل بافتقاده نهلة وطفلها الثاني، وبقي له منها هشام، وتكررت أيامه في الخليج إلى أن استطاع ادخار مقدم شقة فعاد إلى القاهرة يحمل حزنه وابنه الذي بلغ عمر الدراسة. ويسأل عيني كل امرأة يلتقي بها: هل تستطيعين أن تقبلي قدري في عينيك كما فعلت نهلة؟!
* امرأة الدفء.. باردة:
وتعلقت عينا المهندس إسماعيل بعيني ابتسام، عينان زرقاوان تضم ان جمود التوالد من أم ألمانية، وأب صعيدي، وكأن ابتسام أخذت جمود الألمان، وخشونة أهل الصعيد، فلم يلمسها نور وخصب إيزيس، ولا دفء وشجن نساء ألمانيا، وأعجب إسماعيل بهذا الإطار الجاد لامرأة كل ما فيها يعد بخصب قديم، لكن أعماقها ليست ظاهرة له، أعماق قاسية بلا سبب إلا سبب قديم هو أن والدتها بعد اندهاش مبدئي بالحياة المصرية، شعرت أن جو مصر يخنقها، فتركت ثلاثة أطفال للزوج المصري والد ابتسام وهربت إلى ألمانيا، واكتفت بمراسلة أبنائها، وإرسال الهدايا لهم، ولأن أحداً لا يستطيع تلخيص الأمومة في هدايا موسمية، لذلك وقع على ابتسام عبء مشاركة والدها طبيب العيون مسئولية تنشئة الأخوة الصغار، وهي تحاول دائماً نسيان مشهد قديم، لكن هذا المشهد ينفجر في أحلامها فيدمر علاقتها بأنوثتها، حين زارهما في المنزل شاب ألماني، وكانت الأم تقضي معظم وقتها مع هذا الشاب، ولا تنسى أبداً لحظة أن فتحت باب غرفة النوم فوجدت أصواتاً فيها ألم وصخب وعرى بين أمها وبين هذا الشاب الألماني، وتبع ذلك رحيل الأم إلى ألمانيا، وبقي لابتسام جمود في العيون، وحلم مزعج بأن هناك من يرفعها فوق سرير ضخم فوق سطح أحد المنازل ثم يلقي بها إلى الأرض، وتقوم من النوم وهي تصرخ، لتجد في آخر صرخاتها صورة والدتها أثناء صخبها مع الضيف الألماني.
وتختلط صورة الأم مع صورة اللعب القادمة من أمها التي حصلت على الطلاق وأقامت في ألمانيا، فتزداد في قلبها كراهية كل ما هو ألماني ولكنها تندفع إلى الدراسة لتلتهم الكتب، ولا تجد أمامها سوى النجاح في المدرسة، وحين حاولت البنات في المراهقة أن يتبادلن معها حكايات الحب، وهمس الخيالات، حسمت هي الموقف بأن رفضت الاندماج مع هوس تلك الخيالات، فعارها في رأسها متجمد في صورة الأم الخائنة، ودموع الأب المتجمدة من الحزن، وأوصدت باب قلبها عن سماع كلمة «أحبك» التي نطقت بها عينا أكثر من شاب، وتعذبت كثيراً بحلم يتغير، فلم تعد تحلم بوالدتها لحظة الخطيئة، بل كانت ترى نفسها هي بين أحضان الشاب الألماني، ثم تندمج في الخيال في عناق محموم تستكشف به أسرار أنوثتها، بينما ترى والدتها أثناء الحلم وهي تشهد هذا العناق، لكنها تنهي كل شيء بصرخة، ويأتي الأب مفزوعاً، وقد حدث ذلك لأول مرة بعد أن أعلنت نتيجة ليسانس الآداب الألماني، والذي نجحت فيه ابتسام بدرجة امتياز، ولم تفضل العمل كمعيدة في الجامعة، فقط حصلت على درجة الامتياز لتهزم لغة أمها ولتكتب لها خطابات تأنيب متكررة، لدرجة إصابة الأم بالانهيار العصبي هناك، ثم فضلت ابتسام العمل في روضة أطفال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.