الزراعة: تحصينات الحمي القلاعية تحقق نجاحًا بنسبة 100%    الكهرباء: تسجيل 3.4 مليون محضر سرقة تيار كهربائي حتى أكتوبر الماضي    «لاعب مهمل».. حازم إمام يشن هجومًا ناريًا على نجم الزمالك    «محدش كان يعرفك وعملنالك سعر».. قناة الزمالك تفتح النار على زيزو بعد تصرفه مع هشام نصر    السوبرانو فاطمة سعيد: حفل افتتاح المتحف الكبير حدث تاريخي لن يتكرر.. وردود الفعل كانت إيجابية جدًا    حدث ليلا.. مواجهات وملفات ساخنة حول العالم (فيديو)    الأهلى بطلا لكأس السوبر المصرى للمرة ال16.. فى كاريكاتير اليوم السابع    شيري عادل: «بتكسف لما بتفرج على نفسي في أي مسلسل»    أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 10 نوفمبر 2025    عدسة نانوية ثورية ابتكار روسي بديل للأشعة السينية في الطب    اليوم..1283 مرشحًا فرديًا يتنافسون على 142 مقعدًا فى «ماراثون النواب»    ترامب: الإغلاق الحكومى فى الولايات المتحدة يقترب من نهايته    السقا والرداد وأيتن عامر.. نجوم الفن في عزاء والد محمد رمضان | صور    اليوم.. العرض الخاص لفيلم «السلم والثعبان 2» بحضور أبطال العمل    مجلس الشيوخ الأمريكي يتوصل إلى اتفاق لإنهاء الإغلاق الحكومي    التحول الرقمي.. مساعد وزير الصحة: هدفنا تمكين متخذي القرار عبر بيانات دقيقة وموثوقة    قطع التيار الكهربائي اليوم عن 18 منطقة في كفر الشيخ.. اعرف السبب    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 10 نوفمبر    شبورة وأمطار.. الأرصاد تكشف حالة الطقس المتوقعة اليوم 10 نوفمبر    مواجهات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلى شمال القدس المحتلة    تركيا تسعى لتأمين ممر إنساني لإنقاذ 200 مدني من أنفاق غزة    مساعد وزير الصحة: نستهدف توفير 3 أسرة لكل 1000 نسمة وفق المعايير العالمية    عاجل نقل الفنان محمد صبحي للعناية المركزة.. التفاصيل هنا    ترامب يتهم "بي بي سي" بالتلاعب بخطابه ومحاولة التأثير على الانتخابات الأمريكية    الاتحاد الأفريقي يعرب عن قلقه البالغ إزاء تدهور الوضع الأمني في مالي    قائمة مقررات الصف الثاني الثانوي أدبي ل امتحانات شهر نوفمبر 2025.. المواعيد كاملة    طوابير بالتنقيط وصور بالذكاء الاصطناعي.. المشهد الأبرز في تصويت المصريين بالخارج يكشف هزلية "انتخابات" النواب    رئيس لجنة كورونا يوضح أعراض الفيروس الجديد ويحذر الفئات الأكثر عرضة    «مش بيلعب وبينضم».. شيكابالا ينتقد تواجد مصطفى شوبير مع منتخب مصر    معسكر منتخب مصر المشارك في كأس العرب ينطلق اليوم استعدادا لمواجهتي الجزائر    مي عمر أمام أحمد السقا في فيلم «هيروشيما»    وزير المالية: نسعى لتنفيذ صفقة حكوميه للتخارج قبل نهاية العام    الطالبان المتهمان في حادث دهس الشيخ زايد: «والدنا خبط الضحايا بالعربية وجرى»    وفاة العقيد عمرو حسن من قوات تأمين الانتخابات شمال المنيا    "مصر تتسلم 3.5 مليار دولار".. وزير المالية يكشف تفاصيل صفقة "علم الروم"    باريس سان جيرمان يسترجع صدارة الدوري بفوز على ليون في ال +90    «لا تقاوم».. طريقة عمل الملوخية خطوة بخطوة    أداة «غير مضمونة» للتخلص من الشيب.. موضة حقن الشعر الرمادي تثير جدلا    أمواج تسونامي خفيفة تصل شمال شرق اليابان بعد زلزال بقوة 6.9 درجة    ON SPORT تعرض ملخص لمسات زيزو فى السوبر المحلى أمام الزمالك    «لاعيبة لا تستحق قميص الزمالك».. ميدو يفتح النار على مسؤولي القلعة البيضاء    الكشف إصابة أحمد سامي مدافع بيراميدز    مساعد وزير الصحة لنظم المعلومات: التحول الرقمي محور المؤتمر العالمي الثالث للسكان والصحة    نشأت أبو الخير يكتب: القديس مارمرقس كاروز الديار المصرية    3 أبراج «مستحيل يقولوا بحبك في الأول».. يخافون من الرفض ولا يعترفون بمشاعرهم بسهولة    ميشيل مساك لصاحبة السعادة: أغنية الحلوة تصدرت الترند مرتين    البابا تواضروس ومحافظ الجيزة يفتتحان عددًا من المشروعات الخدمية والاجتماعية ب6 أكتوبر    محافظ قنا يشارك في احتفالات موسم الشهيد مارجرجس بدير المحروسة    3 سيارات إطفاء تسيطر على حريق مخبز بالبدرشين    تطورات الحالة الصحية للمطرب إسماعيل الليثى بعد تعرضه لحادث أليم    كشف ملابسات فيديو صفع سيدة بالشرقية بسبب خلافات على تهوية الخبز    نجل عبد الناصر يرد على ياسر جلال بعد تصريح إنزال قوات صاعقة جزائرية بميدان التحرير    هل يجوز الحلف ب«وحياتك» أو «ورحمة أمك»؟.. أمين الفتوى يُجيب    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    انتخابات مجلس النواب 2025.. اعرف لجنتك الانتخابية بالرقم القومي من هنا (رابط)    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهلا يا أنا
ابتسامة حنان فوق جرح قديم
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 01 - 2016

بين انتقال عقارب الساعة من افتراق إلي عناق, ثم إعلام ميلاد عام جديد, يطل من الذاكرة مشهد ماريا الإيطالية التي اشتعل مطعم الإيليت السكندري برقصها الصاخب, ثم تظل ماريا هي الإيطالية التي توجز في مشيتها حلم الرقص معها إلي حد الدوار, فلم تكن يرهقها الرقص أبدا, ما إن أطلت ماريا علي الدور العلوي من مطعم الإيليت السكندري حتي ازدحم المكان بدفءلا يناسب علي الإطلاق برودة شتاء محطة الرمل ولا عصف الهواء القادم من كورنيش محطة الرمل ليعربد بلا هوادة علي طول شارع صفية زغلول, ولا ينتبه أحد إلي عيون ثلاثة معجبين بما يجري في هذا الدور العلوي في هذا المطعم الذي لا شبيه له في أركان الأرض التي خطا فوقها كاتب هذه السطور,
الثلاثة هم الفنان سيف وانلي فنان الإسكندرية الأثير وهو من فقد شقيق عمره أدهم وانلي, منذ أيام قليلة. وكانت هي الليلة الأولي التي يغادر فيها إعتكاف الحزن ليسهر مع راعيه الدائم مخالي صاحب الإيليت. وكان رقص ماريا يوجز رغبة الثلاثة_ مخالي وسيف وكاتب هذه السطور_ في معرفة موسيقي الروح التي تملئ ماريا, فلا يرهقها الرقص أبدا.
كان ثلاثتنا يعرف أنها مضيفة أرضية بمكتب شركة طيران أوروبية, وفي نفس الوقت هي أصغر أرملة شابة لرجل كان صاحب محل تجهيز الموتي الاجانب في مدينتنا التي لا نظير لها في الكون. وكنت قد تعرفت عليها قبل صديقيي سيف ومخالي, منذ أن أشعلت كازينو إستانلي برقصها الآخاذ,في الصيف السابق لمطلع عام1959, ولعلي كنت الوحيد في ذلك المساء الصيفي الذي لم يقترب منها سائلا إياها أن ترقص معي, فلم أكن قد تعلمت الرقص.
قلت لسيف وانلي: كل لوحاتك لا توجد فيها امرأة واحدة, ترسم الوجوه وترسم الموسيقي ونساء فرق الأوبرا التي تزور المدينة عندما ترسمهن تبدو الواحدة منهن مجرد خطوط تعبر عن المعني ولا توضح تفاصيل الانوثة. قال مخالي معلقا وهو دارس الفن الراقي لا تكن مثل مشيل زهار الذي كان أول من اقتحم بلوحات سيف وأدهم عالم الفن السكندري, وهو من قال لسيف: إن لم ترسم المرأة فأنت لم ترسم حتي الآن. أضحك لمخالي قائلا: لتكن ماريا هي أول إمرأة يرسمها سيف وانلي. أضفت: كانت لحظة دخلوها إلي اكازينو إستانلي في الصيف تعني أن يشتعل المكان رقصا وجنونا.
وها نحن في الشتاء; وهاهي قد صعدت إلي الدور العلوي في الإيليت. وأخذتنا خطواتها لمتابعتها, وكأن الخطوات قد جعلت المكان الضيق يتسع ليكون صالة أحلام الاكتمال الإنساني; فخطواتها تعرف تؤدي رقصة التانجو سواء بالهمس أو بالسرعة, وتؤدي رقصة السامبا بأناقة قهر الزمن مع استسلام الجسد لدوامات الإيقاعات الموسيقية.
ويدور ذلك في الإيليت الذي لا يستقبل إلا من يحبون الترفيه البريء الخالي من مناورات استئجار الرجال لأجساد النساء مثلما كان يحدث في ملاهي الدرجة الثانية المفتوحة للعمد وأعيان الريف, ولبعض من جنود قوات حفظ السلام التي كانت تعسكر في سيناء أياما في ذلك الزمن, وكلها ملاهي علي الكورنيش.
أما الإيليت فهو يعطي البعض فرصة الاستمتاع بحضارة البحر المتوسط وهو موجود في الثغر الذي لا مثيل له في الكون, قد تشبهه بعض شوارع روما أو أثينا أو برشلونة, لكن الإسكندرية هي ماريا والتي ترابها زعفران كما يقول أهلها وأنا منهم. ولعل ماريا قد امتلأت بنشوة متابعة العيون لها كأميرة متوجة علي عرش النشوة والخوف في آن واحد, النشوة بسبب حيويتها التي تفوق الوصف. وكنت قد تعرفت علي هذا السحر حين كنت أتوقف متأملا هذا السحر الأنثوي الفرحان الصادر منها, حين ألمحها خلف زجاج مقر شركة الطيران التي تعمل بها كل صباح, ذلك أن الضوء الصادر منها يمكن أن يشدك بحيث لا تستطيع الفكاك من حيويتها سواء رأيتها بعد التاسعة مساء أو رأيتها في مكتبها في الثامنة صباحا وهي تستقبل عملاء المكتب السياحي, وليس أمامك في كل الحالات إلا أن تتسمر في مكانك إلي أن تنظر إليك هي, وتقول لك بابتسامة لا تخلو من تحذيرك من الغواية: أظن أن عندك عمل يمكن أن تذهب إليه, بدلا من الوقوف أمام مكتب شركة الطيران.
وكان مكتب شركة الطيران هذا يقع بجانب مقر هيئة الصحة العالمية, منذ عام1950.
ومن المؤكد أن المبني يشبه قصور روما أيام القياصرة, ومن المؤكد أن العيون حين ترتفع عن رؤية ماريا خلف فاترينة شركة الطيران; ستسحب معها خيال ماريا, لتضعها كأميرة لجمال صاخب داخل هذا القصر, ولابد للعيون أيضا أن تعترف بأنها غير قادرة علي الإلمام بحدود جمال هذه المشتعلة بالحيوية دائما, وسيصعب علي الذاكرة ألا تجد في ملامح ماريا بعضا من آفا جاردنر نجمة السينما التي كانت تطل أنوثتها من عيونها كشبكة تحول قلب أي رجل إلي سمكة في حالة حصار, وستجد المشاعر في ماريا بعضا من صوفيا لورين بدوامة الأحاسيس التي تدير أي رجل كأنه نحلة يبحث عن وسيلة للاتصال أو الانفصال.
ولكن كان الخوف أيضا يتجمع في عيون من يعرف ماريا خوف مشوب بالدهشة, فقد كانت أرملة رجل تجهيز الموتي الأجانب وصاحب الثروة الطائلة التي تركها لماريا. وقد أحسن الرجل صنعا بالرحيل لأن ماريا كانت تصغره بما لا يقل عن خمسة وعشرين عاما. وكان متخصصا في نقل جثث الإيطاليين والأرمن وغيرهم من الأجانب المقيمين بالإسكندرية إلي المقابر التي تزينها تماثيل كبيرة وجميلة وتقع في مواجهة حدائق الشلالات, حيث يحدها من جهة كلية الهندسة, ويحدها من أمامها شارع فؤاد الذي أصبح اسمه طريق الحرية, ويحدها من ناحية البحر شريط الترام.
شاءت ظروفي أن تتعرف علي ماريا, فأنا واحد من الذين ما إن يروها حتي يشكروا السماء بدهشة إعجاب ما أهدتها من أنوثة. وطبعا كنت مندهشا لأن والد ماريا الإيطالي تاجر الأنتيكة الشهير قد قبل صفقة زواجها. وسرعان ما حسم القدر تلك الصفقة بموت الزوج; لكن بقي للحلوة خوف العيون من القفز فوق جثة الزوج السابق, أما عن نفسي, فكنت كلما ذهبت إلي الإسكندرية, فيكفي أن أمر عليها لتأتي إلي نادي سبورتنج, لتحيطها العيون ولا يقترب أحد. رغم علم الجميع أنها تسكن في قصر صغير كان هدية زواجها وفي منطقة وابور المياه أمام تمثال نوبار باشا, ذلك الرجل الذي تولي نظارة مصر إبان فترة بيعها لكل من إنجلترا وفرنسا من بعد محمد علي باشا. وقد تنافس رجل تجهيز الموتي مع يحيي إبراهيم بك في شراء هذا القصر, وكان يحيي إبراهيم واحدا من كبار رجال المال وتجارة الأقطان.
وحين علمت ماريا أني أعمل في روز اليوسف, أخذت تكيل الإعجاب لإحسان عبد القدوس لأنه كتب رواية تشعر أنها بطلتها. وكنت مندهشا من أنها تقرأ العربية, فكانت تؤكد أنها درست العربية جيدا لأنها تحب أن تكون مصرية رغم جذورها الإيطالية.
أما القصة التي كانت تعتبرها قريبة من حياتها فهي رواية أنا حرة التي دعيت في الأسبوع الماضي لحفل الإحتفال بإعادة إصدارها, ومناقشة قيمة إحسان عبد القدوس ككاتب روائي, بواسطة اثنين من أساطين النقد هما جابر عصفور القادر علي تفكيك أي رواية أو قصيدة وإعادة تكوينها فيصبح فهمها أكثر عمقا, ومعه أستاذ يقوم بالبشارة إلي مواطن الجمال في أي عمل أدبي يقع تحت يديه ويكون له قيمة مضافة هو الأستاذ الدكتور صلاح فضل, فضلا عن المهندس أحمد بن إحسان الذي عاش مع إحسان كابن, وأكرمني الناشر محمد رشاد صاحب الدار التي تعيد نشر روايات إحسان وإنقاذها من محاولات التشويه التي تعرضت له حين قام أحد الناشرين بتغيير بعض من التفاصيل كي تناسب رقابة الكتب في بعض الأسواق العربية. فقد طلب مني محمد رشاد أن أتحدث عن إحسان كأستاذ ومعلم. وكأنه كان يعلم أني إلتقيت لأول مرة بإحسان صيف عام1957, وكنت أعوم أنا وصديق لي في بلاج ميامي, ثم صرخ الصديق إحسان وعبد الحليم حافظ بيعوموا معانا فطلبت من صديقي ألا نزعج الأثنين, لأني أخشي إزعاجهما بتطفل إثنين, بينما هما يرغبان في قضاء وقت أجازة. ويبدو أنهما كانا قريبين منا فقد وصلت لهما كلمتي, فيقترب مني إحسان سائلا هل أنت تكتب فعرفت أن الكاتب يحتاج إلي العزلة والراحة ؟ ومن تلك الكلمة يأتي التقارب مع إحسان فأجد فيه فهما لمعني أن يكون الإنسان شابا. وتقديس لمعني أن تكون حرا دون أن تسجن نفسك في فكرة واحدة, لأن الحرية تبدا عندما تحرص علي فهم حدود ضروريات الحياة دون تنازل يمس بالكرامة, وبرز هذا الجوهر كثيرا, بداية من إعادته لتقييه لعلاقته بجمال عبد الناصر الذي كان أول المبشرين بثورة قادها عبد الناصر, لكن الأيام جاءت بمسافة بين الإثنين. ولعله الوحيد من أصحاب دور الصحف الذي كتب بعد صدور قرارات تنظيم الصحافة وإنتقال ملكيتها للعاملين فيها الآن أشعر أني عصفور خرج من قفص يقيده هو ملكيتي لدار صحفية ولم يغرق في ندم إفتقاد مؤسسة صحفية تربح, ولم يمنعه ذلك مشاركة أحمد بهاء الدين في التحضير لأفكار الميثاق الوطني, وكانت الصياغة النهاية مع مواءمة رحلة23 يوليو بواسطة سيد مهنتنا محمد حسنين هيكل العقل اليقظ, والقلب الهادئ, والذي لا يصيبه دوار الفنانين عند ممارسة السياسة علي سطح كرة أرضية تغلي. وكانت مصر تشق طريقها كأحد مراكز الكون. ثم إزدادت المسافة إتساعا بين إحسان عبد القدوس الفنان وبين أنور السادات الذي زارنا كثيرا في روز اليوسف بصحبة عبد الرحمن البيضاني فيما قبل ثورة اليمن ثم نائب رئيس جمهورية اليمن بعد قيام الثورة هناك. ولم يقبل مزاحمة انيس منصور أو موسي صبري علي مكانة الصحفي المقرب من السادات بعد أن صار حاكما. فحريته ككاتب كانت هي التي تقود كل أفكاره وهي جوهر حياته.
في نادي الكتاب الذي أسسه الناشر المصري محمد رشاد وأولي بداياته هو نشر كل مؤلفات إحسان عبد القدوس; حماية لها من تدليس وعدوان ناشر أثيم حاول تغيير بعض من احداثها بواسطة أناس غير أمناء, وعندما يكتشف إبنه أحمد ذلك يوقف التعامل مع الناشر وتمر السنوات حتي كاد إسم إحسان ككاتب وروائي يختفي خلف ضباب نسيان لا يتصوره أبناه احمد ومحمد, وتكون البداية الجديدة هي إعادة طباعة أعماله.
.........................
وحين كان الكل يناقش أمينة التي كتب إحسان قصتها عام1954, سرح خيالي في موقع الندوة التي يؤسس بها الناشر محمد رشاد ناديا للكتاب, وهو مكتبة القاهرة, فأهمس لنفسي الذي أشرف علي تأسيس مكتبة القاهرة في قلب الزمالك وفي هذا القصر المنيف هو بعض من عطر روز اليوسف مدرسة الهواء الطلق التي أسسها إحسان عبد القدوس, وأعني به المثقف المصري كامل زهيري, هذا القارئ المحترف والكاتب الهاوي كما وصف نفسه. وهو من كشف تفاصيل ما ترسمه الولايات المتحدة لمنطقة الشرق الأوسط في أكثر من مقال إستعرض فيه العقول المؤثرة في الولايات المتحدة, وكان هنري كيسنجر واحدا ممن كشف كامل زهيري عن موجز أفكاره في عام1957 علي صفحات روز اليوسف, ولم ينتبه البعض إلي ماكتبه كامل زهيري إلا بعد مرور أعوام تربو علي الخمسة والعشرون, لنقاسي مما لم نحترس منه رغم أن كامل زهيري هو من سبق ونبهنا. وأضحك لنفسي حين أتذكر أن أسهل نقود يمكن تحصل عليها من خزانة روز اليوسف هي نقود فواتير الكتب, فما أن كان إحسان يعلم أنك قارئ وتريد أن تقدم للمجلة بعضا من خلاصة قرائتك حتي يوافق علي الفور تسديد ثمن ما أشتريت من كتب. وكان هناك مبلغ خمسون جنيها في الشهر لكامل زهيري ليشتري ماشاء من كتب. وتمر السنوات ليؤسس وهو في السبعين مكتبة القاهرة الكبري. وهي التي صارت حاليا أكثر أمانة_ من وجهة نظري_ من مكتبة الإسكندرية التي تحولت إلي مركز ضجيج إحتفالي دون إنتاج يضيف, فمن بعد أن فقدت رعاية السيدة الأولي السابقة لم يعد لها هذا الرونق الذي سوقت به نفسها. أقول ذلك وقد كنت من أشد المتحمسين لها عند نشأتها, ثم أصابني الزهد من المنطق الأمريكي الذي تدار به وينطبق عليه تفاصيل الكتاب الذي وضعه واحد من أكبر علماء النفس في العالم وهو د. مصطفي صفوان بعنوان العبودية المختارة, فأنت مدعو لمكتبة الإسكندرية لتقدم فروض الإعتراف بقيمة إسماعيل سراج الدين وهو قيمة كبيرة في عالمنا, لكن ذاته قد كبرت_ ولا أقول إنتفخت_ إلي الدرجة التي أنكر أو تجاهل المؤسسون معه سواء أكان جابر عصفور أو صلاح فضل, ودعك من حالة الفزع التي أصابته لمجرد أن شاعرا شابا إنتقد أسلوبه في إدارة المكتبة, فكان مصيره هو الإبعاد, ونتج عن الإبعاد دخول الشاب إلي معسكر الرفض الشاب, وبغضب الاندفاع يدخل الشاب السجن حسب قانون التظاهر. وكان إسماعيل سراج الدين قادرا علي ألا تضيع منه موهبة شابة, لتقف في معسكر مضاد. وطبعا لن يحكي محسن يوسف المثقف المصري الكبير آلامه وهو الذي أدار سنوات المكتبة الأولي بحنكة التواصل مع المثقفين, وكيف غضب ذات نهار من عقبة ما فكتب استقالة فأخذها منه إسماعيل سراج الدين ناهيا إياه عن فعل ذلك فما بينهما هو عشرة عمر, لكن إسماعيل يحتفظ بالاستقالة في مكتبه, وبعد مرور شهور وأثناء سفر محسن يوسف في رحلة علاجية يعود ليجد الاستقالة مقبولة, وطبعا كان لمثل هذه التصرفات ما يضع ستارا ومسافة بيني وبين رجل أعجبت بتفكيره وإزداد الستارة سمكا وطالت مسافة ابتعاد المودة معه بعد نشر صورة حسن البنا كغلاف لواحد من أبحاث تجديد الفكر الإسلامي عام2010, فضلا عن ملاحظتي لحرص إسماعيل سراج الدين علي التقرب من المستشار محمود الخضيري ذلك الإخواني القح. وما أعرفه عن مكتبة الإسكندرية كثير ولكن في الفم ماء; كما أن بعضا من مؤتمراتها كان له بعض من الأفكار الأكثر من رائعة والتي لم تحسن المكتبة تنميتها.
.........................
والذي جاء بتلك الأفكار إلي خيالي هو أمينة بطلة أنا حرة رواية إحسان الثالثة من سلسلة رواياته. و قد حاول د. صلاح فضل ان يعقد مقارنة بينها وبين أمينة في ثلاثية نجيب محفوظ, رغم اختلاف مزاج نجيب محفوظ الدارس للفلسفة والمصر علي إعادة بناء خلق العالم, بينما إحسان عبد القدوس دارس الحقوق والذي ينساب قلمه كجدول رقراق يروي ظمأ من يريد التعرف علي نفسه; فكتابة إحسان عبد القدوس قد يصعب معها تطبيق قواعد علم الرواية كما إستقر عند النقاد مثل جابر عصفر وصلاح فضل, ولكنه سرد يتجول في أعماق من يكتب عنهم إحسان. فهاهي أمينة قد جاءت إلي العالم من أم مقهورة ضعيفة, وأب بسيط هارب من مسئوليات لا يحس بها, ويتنازل عن إدارة حياة أمينة لشقيقة له بعد أن يهبها بعضا من المال أول كل شهر ووعد بالتنازل عن قطعة أرض صغيرة, وتمارس العمة علي أمينة كل قواعد القهر التقليدية التي كانت تبدو كقالب من حديد يتم صب البنات فيه, فإذا كانت الصين القديمة قد اخترعت الحذاء الحديدي الذي توضع فيه قدم الفتاة فلا تكبر, فكانت القدم تكبر وتبرز مشوهة من الحذاء الحديدي. وكانت الأسر المتوسطة قد وضعت للبنات قالبا غير مرئي من عدم التعلم لأكثر من الثانوية العامة مع إتقان عزف بعض مقطوعات البيانو, وحضور قعدات حريمي أو حفلات زار, وتبادل النميمة أو الحكايات المرصعة بضحكات مصنوعة, و أكاذيب عن إمكانات زوج كل امرأة, ثم متابعة أخبار الزواج والطلاق.
وطبعا كان لأمينة جهاز عصبي عصي علي الانصياع, فواصلت التعليم, وعندما دقت المراهقة أبواب أنوثتها التي برقت في أعين الجميع, كانت هي الوحيدة التي آمنت أن الأنوثة يمكن أن تكون سوط عذاب خصوصا بعد أن حاول أحدهم وهي في العاشرة أن يتحرش بها. واستمرت في دراستها, لتنضج كأنوثة محاطة بسياج من تمرد صاعق. ولأن حي الظاهر كان بجانب حي العباسية, ولان معظم الأسر كانت تقوم بتفصيل وحياكة ملابسها عن محترفات من حي الظاهر بعضهم يهود الذين يمارسون إنطلاقا إقتربت منه أمينة لكنها لم تنزلق إلي أخر طريقه.
ويظل هناك شاب هو عباس الذي لم يكن ينظر إليها وعندما تأتي أمامه يكتفي بإحمرار أذنيه, وكأنها علامة علي مقاومته للإندفاع إليها.
ونقوم قيامة بيت العمة وزوج العمة حين تحصل أمينة علي التوجيهية وتطلب دخول الجامعة. وكأنها قد قررت الإنحراف. ولا يبقي أمامها إلا أن تترك العباسية لتسكن في وسط البلد مع أبيها وخادمه العجوز, وتختار الألتحاق بالجامعة الأمريكية; حيث تكون الحياة فيها شديدة الإختلاف والبساطة والأمركة. وتمر سنوات الجامعة وهي علي علاقة بشاب تقترب هي منه بالقدر الذي تريده ولا تمنحه ما يهفو إليه. وعندما تتخرج تذوب علاقتهما بحكم إختلاف طرق المستقبل, حيث عملت مندوبة مبيعات لشركة أجنبية, جاءتها الفرصة لتتعرف علي الشاب الذي تجاهلها وهي طفلة ومراهقة في العباسية قد صار كاتبا صحفيا. وتذهب إليه لتكتشف أن حريتها هي الإمتزاج به ومعه دون قيد سوي قيد الحب, فهو ضرورتها وهي ضرورته, ويقيمان معا لسنوات ليعاملها من يعرفه علي أساس أنها زوجته, ويعامله من يعرفها علي أساس أنهما مرتبطان دون معرفة هل وصل الإرتباط إلي المأذون أم لا وترك إحسان النهاية مفتوحة.
..........................
لا أدري لماذا أخدتني أمينة إلي دنيا ماريا التي صادقتها وأنست بمعرفة تفاصيل حياتها وكانت زوجة لرجل تجهيز أجساد الأجانب في الإسكندرية لرحلة ما بعد الموت. وسمعت منها حكاياتها عن الإنطلاق دون أن تصل إلي إكتمال سعيد, وكانت تقول لي كلمة دائمة الصداقة معك هي إبتسامة حنان فوق جرح عمري, وهو جرح عرفته بالزواج وبموت الزوج وبالثروة, ولكني لم أعرف الحب الذي يذيبني وأذوب فيه.
ومازلت كلما سافرت إلي الإسكندرية أحتسي معها فنجان قهوة بنادي اسبورتنج وأتساءل عن أخبار الجرح, فتضحك قائلة بحكم كبر العمر لم أعد أرقص, بل صرت أقرأ فقط أعمال مولانا جلال الدين الرومي الذي صار شوقا لامعا لا في الشرق الغارق في دوامات دماء المتقاتلين من أبنائه بل في باريس ونيويورك وكل عواصم التقدم وكأنهم يأخذون إستراحة من بحثهم عن الحرية بفهم حقيقة الحياة في أسر قضبان الضرورات اليومية. ألست معي في ذلك ؟
ولا أجيبها لأني كثيرا ما تمنيتها لنفسي لكني كنت أصاب بالرعب من التجربة مع جميلة كانت ذات يوم قديم في أحضان رجل يمسك جثث الموتي بيديه.
وكنت أعلم أن ما أخاف منه يخافه غيري من الرجال. ومازالت ماريا تدعوني علي القهوة, وتحترم الحرص علي وجود مسافة ما.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.