أحمد طوغان هو شيخ رسامي الكاريكاتير87 عاما -أطال الله في عمره- يكتب هذه السلسلة عن الشخصيات التي شغلت حيزا في وجدانه وخزانة ذكرياته التي يفتحها لملحق الجمعة ب الأهرام يتناول فيها الكواليس التي عاصرها عبر مشواره الذي يمتد لأكثر من65 عاما.. وتأتي أهمية هذا السرد الذاتي إلي كونه ليس مجرد حكي بقدر ما هو تأريخ وتسجيل لأحداث غنية بالمعلومات والأسرار ولكن غفلها التاريخ كما يحدث عادة وأسقطها من ذاكرته الرسمية, وكما يفعل رسام الكاريكاتير فهو لايرسم الواقع ولكن تأثير الواقع عليه... كذلك كتب طوغان عن هذه الشخصيات بصدق وحب. خلال مشواري الصحفي, كنت لا أزال تلميذا بالبنطلون القصير, وكان من حسن حظي أن نجحت في الالتحاق بأسرة تحرير مجلة روز اليوسف, أول مرة وقعت عيناي علي المجلة عندما عثرت عليها في الترام.. كان أحد الركاب قد نسيها ونزل, شدني غلافها المرسوم بالكاريكاتير, وعندما حملت رسومي وذهبت الي العنوان فوجئت بشرطي علي الباب عرفت منه أن الحكومة أغلقت المجلة ومنعتها من الصدور, فعدت حزين النفس كسيف البال وانصرفت الي دراستي والاشتراك في المظاهرات التي كانت تندد بالعدوان علي فلسطين الي جانب لعب الكرة في شوارع الجيزة مع مجموعة من الصحاب منهم محمود السعدني الذي أصبح الكاتب الساخر البارز وجمال غزالي الذي سافر مع أسرته الي السودان واستقروا هناك وسعيد محمد حسن الذي انتهت حياته بفاجعة وعبد المنعم عثمان الذي أصبح أستاذا في كلية الهندسة بجامعة القاهرة وكان موقعي في لعب الكرة حارس المرمي وكان راعي الفريق مكوجي اسمه عبده بكر كنا نقضي فترات الراحة في محله نشرب الشاي, أيامها تعلمنا شرب السجاير وخوفا من الكبار كنا نلجأ الي مخبأ كانت الحكومة قد أقامته اتقاءا للغارات الجوية في الحرب العالمية التي كانت قد بدأت عام1939 وانتهت عام.1945 بعد ستة شهور قرأت خبرا صغيرا في الأهرام يقول بأن روز اليوسف عاودت الصدور, في هذه المرة ذهبت الي المجلة, كان المبني من طابقين والباب الرئيسي مفتوح وعليه بواب أشار الي غرفة بالدور الأرضي وقال أنها لصاحبة المجلة واسمها الست, فدخلت وطلبت لقاء الست, وكانت الست هي السيدة العظيمة فاطمة اليوسف, يومها بدأت خطوة هامة في حياتي, منذ اللحظة الأولي, عطفها وحنانها وصبرها وهي تستعرض الرسوم وقرارها بضمي لأسرة تحرير المجلة, دخلت روز اليوسف و فيها أم رؤوم قوية صاحبة عزيمة حولها أفراد أسرتها الذين فرزتهم وحددت قدراتهم وهيأت لهم ما يشبه خلية نحل, ووجهتهم وساندتهم وأعطتهم الفرص, فدخلت فيهم وأصبحت واحدا منهم. وعندما أسعدني الحظ والتقيت باحسان عبد القدوس كان أيامها حديث العهد بالعمل في روز اليوسف, لقيني وكأنه كان في انتظاري, كان أكبر مني عمرا بسبع سنوات وكان حبه للكاريكاتير وايمانه بأهميته وتوجيهاته ونقده وفراسته وروحه المرحة وسخريته الظريفة الراقية تجعلني أتفاني فيما أقدمه للمجلة من رسوم للحصول علي رضاه. في معظم الأيام عندما كان الكل ينصرف كنت أبقي معه. وفي صحبته شاهدت النجوم محمد التابعي الذي كانت مقالاته تتخطفها الأيدي ومحمود عزمي الفيلسوف وعباس محمود العقاد المهيب ومصطفي أمين الأستاذ وصلاح عبد الجيد ومحمد حسنين هيكل الذي كان كثير الزيارة للدار الي جانب كثيرين أصبحوا ملء السمع والبصر في حياتنا الصحفية! كان احسان شخصية فريدة ومن النادر أن تكون لها مثيل, كان مكتبه ندوة مستمرة, التقيت فيها بفنانين وأدباء وشعراء الي جانب ضباط من الجيش معظمهم اشترك في ثورة يوليو1952 وبعضهم تولي قيادتها! كان احسان واحدا من أعقل العاقلين وكان لديه الحل لكل معضلة, حتي الملمات الجسيمة والخطيرة كان حلها عند احسان! عندما تمكن سعد زغلول فؤاد من خطف جندي بريطاني من الاسماعيلية يوم أن كانت القوات البريطانية متمركزة فيها بعد ثورة القاهرة علي بقاء قوات الاحتلال بها وانتهي أمرها بالجلاء والتمركز في مدن القنال, أحدث خطف الجندي الذي جاء به سعد هياجا كبيرا في الشعب البريطاني وحكومة وقوات الاحتلال التي هددت باجتياح القاهرة اذا لم يعد الجندي المخطوف, أيامها كانت ثورة يوليو في بدايتها ولم يكن الموقف يحتمل الدخول في مواجهة عسكرية مع قوات الاحتلال, وكانت نصيحة كامل زهيري لسعد زغلول الذهاب بالجندي وتسليمه لاحسان الذي سوف يجد المخرج وبعد شرح خطورة الموقف اقتنع سعد وذهب بالجندي الي احسان الذي اتصل بزكريا محيي الدين عضو مجلس الثورة الذي كان يتولي وزارة الداخلية, وانتهت الأزمة بالعثور علي المخطوف في أحد شوارع برلين! وعندما أعلن أمين عثمان وزير المالية في حكومة الوفد والذي كان وثيق الصلة ببريطانيا وربيبا لها وداعيا لاستمرار بقائها في مصر وصاحب تصريحه المشهور الذي قال فيه أن علاقة بريطانيا بمصر أبدية لا انفصام لها مثل الزواج الكاثوليكي واستفز تصريحه مجموعة من الشباب قرروا عقابه وتصفيته وانتهي الأمر بقتله علي سلالم مكتبه الخاص الذي كان في ميدان التحرير واتهم في قتله حسين توفيق الذي قبضوا عليه وأودعوه السجن الذي التقي فيه بالمناضل الشريف صاحب التاريخ الناصع المشرف في الحركة الوطنية سعد كامل الذي كان موعد الافراج عنه قاب قوسين فصارحه حسين بنيته في الهرب, وتحمس سعد للفكرة ووعد حسين بمساعدته في حال هروبه بل وتدبير خروجه من مصر, وبعد خروج سعد من السجن بشهور واستقراره بمنزله رن جرس الباب وفتحه ليجد أمامه حسين توفيق, كان الراديو وكل الصحف تتحدث عن هروب حسين توفيق وأعلنت الحكومة عن مكافأة خمسة آلاف جنيه( أيامها كانت الخمسة آلاف جنيه مبلغا كبيرا) الي جانب التهديد بأشد العقاب لمن يؤوي حسين توفيق أو يساعده أو يعرف شيئا عنه ولا يبلغ السلطات ونشروا صورته في كل مكان وفي مختلف الملابس التي يمكن أن يتخفي فيها أو يتنكر بها, وبعد الأحضان والقبلات تذكر سعد أن بقاء حسين في منزله قد يكون سببا في العثور علي حسين ففكر لمدة دقيقتين وهداه تفكيره الي قرار الذهاب بحسين الي احسان عبد القدوس الذي كان يبعد عن منزله بكيلومترين وفي احدي عمارات سيف الدين بشارع قصر العيني حيث كان يقيم احسان رن جرس الباب فتحت السيدة العظيمة الشجاعة المخلصة زوجة احسان الباب لتجد أمامها سعد كامل وحسين توفيق فأدركت الموقف ودعتهما للدخول وأيقظت احسان الذي كان يغط في نوم القيلولة فصحا من النوم وبعد لحظات قرر استضافة حسين في منزله وتحمس للفكرة والد احسان الفنان الكبير محمد عبد القدوس وباقي الأسره بمن فيهم محمد الذي كانا صبيا وقتها وهو الآن عضو بارز في مجلس نقابة الصحفيين والذي دائما ما يحصل علي أعلي الأصوات في انتخابات النقابة, أقام حسين توفيق في منزل احسان عبد القدوس مدة أسبوع كامل انتهي بهروبه الي سوريا, وقال عن فتره استضافته في منزل احسان أنها كانت من أجمل وأحلي أيام عمره. في هذه الأيام أصدر حزب مصر الفتاة الذي كان يتزعمه أحمد حسين جريدة الاشتراكية التي كانت تدعو للثورة وإنها السبيل الوحيد للخلاص من الملك علي الانجليز فاقتنعت بها وذهبت اليها ولكني تركت نفسي مع احسان, لذلك لم يكن يمر يوم الا وأجد نفسني أسعي اليه وأسمع منه. ولو أني كنت أملك منح شهادة للصدق والشجاعة وقوة الارادة والصلابة والثقة بالنفس لقدمتها لاحسان عبد القدوس. قبل قيام ثورة يوليو بعامين كتب احسان مقاله الشهير( دولة الفشل) الذي هز النظام وآذن بأفوله ونهايته, كانت حرب1948 قد أذهلته وأفزعته وأخرجت ما فيه من عزيمة فقاد حملته التاريخية بضرورة كشف المستور وعقاب المتسببين, كما رفع قضيته المشهورة بقضية الأسلحة الفاسدة وساهم بها في تغيير الواقع البائس الذي كانت تعيش فيه مصر في تلك الأيام! ولم يكن عمره قد تجاوز السادسة والعشرين عندما كتب مقاله الذي طالب فيه بطرد اللورد كيلرن سفير بريطانيا أيام جثوم الاحتلال البريطاني علي مصر! أيامها كان كليرن هو الفتوه وهو صاحب الكلمة وهو الذي كان يطلع علي الناس وصدره يكاد يتمزق من الغرور بما يملكه من عتاد وسلاح, وهو الذي اقتحم قصر الملك بالدبابات وأمر فاروق بتعيين النحاس باشا رئيسا للوزراء! انفجر مقال احسان كالقنبلة الهائلة الدوي الرهيبة التداعيات والتي انتهت بدخوله السجن وهو في ربيع العمر! صدق ظن الأم فاطمة اليوسف في ابنها احسان, وأسعدها أن تربيتها لم تذهب هباء وأن الدفاع عن الحق هو الواجب الأول الذي كانت تتمناه لاحسان كصحفي يحترم مهنته ويعمل من أجل شعبه وكرامة أمته! كانت مقالات احسان تدخل كل بيت ويقرؤها كل الناس ومن المقطوع به أنها مهدت وأسهمت في انجاح ثورة يوليو52! كانت كلماته من ضميره وتعبر عن أحلامه فنذر حياته للدفاع عن مصر والتصدي لمن حاول ايقاف مسيرتها والسعي الي الانحراف بها الي الطريق الذي رسموه فبانت المثالب وزاغ الاتجاه فكتب احسان مقاله الشهير( الجمعية السرية التي تحكم مصر)! كان المؤثرون في الثورة قد أداروا ظهورهم لنصائح وامنيات احسان الصادقة الواعية, وتطور الأمر فألقوا به في السجن الحربي! وتكرر سجنه عدة مرات! كما قامت عدة محاولات لاغتياله كانت منها واحدة أثارت من الضحك أكثر مما أثارت من الأسي عندما قرر حاكم عربي تصفية احسان! وبعث بمن يقوم له بهذه المهمة, وأتخم جيوبه بالمال والوعود وعندما نزل المسئول عن تحقيق الهدف الي الاسكندرية في طريقه الي القاهرة, مر علي المواخير والكباريهات وسقط في براميل الخمر والمتعة. وعندما نفذ ما معه من المال, سقط في البكاء والنحيب وضاع في الشوارع الي أن وجد نفسه أمام مركز للشرطة فسلم نفسه واعترف بتفصيل ما كان ينتويه! وفي مرة استأجروا صحفيا( مع الأسف) كان مشهورا بالقوة العضلية وكان يتباهي بعضلاته وكلفوه بتأديب احسان فتربص له أمام باب المجلة وكانت علقة شفي منها بعد أيام في المستشفي! كان احسان يدخل السجن فيخرج منه أقوي ايمانا بواجبه نحو شعبه ووطنه وعقيدته في أن سبب وجوده في الحياة هو البحث عن الخلل وكشفه والعمل علي ازالته من علي جبين الوطن! كنت قبل دخولي روز اليوسف ولقائي باحسان أرسم في مجلة كان اسمها ز ز(....., الشيخ...... غريب الأطوار! عندما يخبره البواب أن ضيفا في انتظاره بالصالة, يسرع الي هندمة نفسه وضبط وضع العمامة فوق رأسه, ثم يضرب الجرس ويأذن للضيف بالدخول, وعندما يكون الضيف علي عتبة الباب يجد الشيخ جالسا علي كرسي المكتب وأمامه في مقدمة المكتب في مواجهة الزائر لافتة من النحاس مكتوب عليها بالخط الثلث( الأستاذ الكبير الشيخ أحمد..... رئيس التحرير) وفي يده سماعة التليفون يضغط بها علي أذنه وكأنما هو يستمع الي حديث هام! عندها كان الضيف لا يملك الا الجلوس علي كنبة كانت في مواجهة المكتب انتظارا لنهاية المكالمة التي أحيانا ما تطول, كان حديث الشيخ يوحي بأنه مع أحد المسئولين الكبار, مثلا كان يقول: بس باقول لمعاليك ايه.. ده واد كويس.. خده علي ضمانتي.. طيب أشكر معاليك وربنا يخليك لينا, أو يقول القرار اللي معاليك أخدته ده غير مناسب, أنا بقول لا زم تعيد النظر فيه, ويقولون أنه في مرة, تظاهر بسؤال لمتحدث قال فيه: أعذرني أنا مش فاكر... هوه مين رفعتك ؟! أيامها كانت هناك رتبة يحملها عدد محدود جدا من الناس اسمها( صاحب المقام الرفيع)! كنت أرسم في غرفة أخري كان فيها عدة تليفون, وفي مرة تصادف أني رفعت السماعة وسمعت الشيخ يتحدث ويسكت قليلا في انصات ثم يعاود الحديث, فاكتشفت أن لا احد علي الخط! وكانت تسليتي عندما كان يأتي للشيخ ضيف جديد. رسمت لمجلة الشيخ أحمد سبعة أشهر لم أحصل في آخرها الا علي ثلاثة جنيهات بالرغم من أنني كنت أشتري الورق والاقلام والفرش والحبر والأساتيك من مصروفي الخاص! وعندما دخلت روز اليوسف والتقيت باحسان قلت في نفسي ( ايش جاب لجاب)! كان احسان شابا جميل الصورة رشيقا باسما ضاحكا بشوش الوجه, اقتربت منه وعايشته وأخذت عنه مجموعة من القيم ما زلت أعيش بها حتي اليوم. في الصبا والنفس بيضاء والعقل مؤهل للاستقبال, كنت حسن الحظ عندما التقيت باحسان عبد القدوس, كل ما أعطانيه وما أخذته منه كان هاديا لي في حياتي كرسام كاريكاتير! ومن كلماته التي لا أنساها قوله لي بأنه لايقيد آراءه بالانتماء لحزب أو جماعة أو الانتماء لأي رئيس, ولا حتي الارتباط بصداقة يمكن أن تقيد رأيه! ظل هذا هو أسلوبي الدائم في حياتي كرسام كاريكاتير الي الآن. حتي عندما طلب مني أحمد حسين زعيم حزب( مصر الفتاة) أن أنضم الي أسرة تحرير مجلة الاشتراكية التي كانت تنطق بلسان الحزب والتي كانت واسعة الانتشار و كان لها تأثير كبير في الرأي العام قبلت العمل فيها بشرط أن أكون حرا فيما أرسمه وأن أكون صاحب الفكرة والرسم! وبالرغم من محاولات أحمد حسين العديدة في تنفيذ ما يقدمه لي من افكار أو الاشتراك معي في الفكرة الا أن محاولاته لم تنجح! كنت مسلحا بنصيحة احسان, وقلت للزعيم أن من حق المجلة عدم نشر ما أقدمه اذا ما تعارض مع خطها! وكان أن اتفقنا, وأتذكر أني رسمت في الاشتراكية ما ساهم في تكوين ما أحظي به من رأي عام كرسام كاريكاتير! كانت علاقتي باحسان مصدرا لثرائي النفسي وحصولي علي احترام الناس, كما كانت أيضا سببا لافلاتي من السجن والاعتقال, عندما جمعوا الاخوان المسلمين والشيوعيين والوفديين وأودعوهم السجون والمعتقلات, وبالرغم من أن رسومي كان فيها الكثير من النقد والسخرية الا أني لم ألق نفس المصير لسبب واحد هو عدم انتمائي لحزب أو جماعة أو تنظيم! كما أوصاني احسان باحترام المهنة وحريتها والدفاع عنها والتصدي لمن يحاول المساس بها أو تقييد حريتها أو التأثير عليها, وكانت وصيته سببا في حملي لواء التصدي لمحاولة خطيرة كانت تستهدف الصحافة المصرية! في عام1957 عندما جرت مناورات ومشاورات كانت تسعي الي اصدار أربع صحف أمريكية في مصر وطبعها باللغة العربية هي مجلات( لوك ولايف وتايم وريدرز دايجست) تصديت للمشروع وتمكنت من حشد معظم الصحفيين وعقدنا جمعية عمومية في نقابة الصحفيين اصدرت قرارا بوقف المشروع حماية للقارئ المصري من الوقوع في أيد أجنبية ومن هجمة شرسة تهدد كيان الصحف المصرية نتيجة لاختلال ميزان القوي بين الصحف الأمريكية التي تملك المال والامكانيات وبين الصحف المصرية التي كانت تحاول تثبيت وضعها وخدمة قرائها بما تملك من امكانيات متواضعة( بالقياس)! وأمكن ايقاف المشروع وطلبوا استثناء الريدرز دايجست لأن الرئيس جمال عبد الناصر سبق وحصل منه صاحب المجلة علي موافقة قديمة! وكل ما استطعناه هو توعية باعة الصحف حتي أمكننا تحديد كمية النسخ المبيعة من الطبعة العربية ل ريدرز دايجست التي لم تلبث أن اختفت بعد فترة, أيامها كان احسان هو السند والظهير! كنت محظوظا في علاقتي باحسان واقترابي منه, كان المخلص الأمين الصادق في كل شيئ.. في اخلاصه لوطنه ولأسرته وتلاميذه العديدين الذين اكتشف مواهبهم وقدمهم ليصبحوا من نجوم الصحافة والفكر والأدب, أعطاهم كل ما استطاع أن يعطيه مقرونا بالحب والعطف والكرم! ولا يفوتني هنا أن أذكر نادرة له تؤكد مبلغ ما كان يملك من روح ساخرة محببة.. التقيت به مرة في نقطة بوليس بولاق, كان علي موعد فيها مع أبو الخير نجيب صاحب جريدة الجمهور المصري! كانا قد جاءا لتقديم بلاغين قالا فيهما أن مجموعة من الرجال اقتحموا روز اليوسف والجمهور المصري بالقوة وطردوا المحررين والعمال واستولوا علي أعداد من المجلتين, وأغلقوا الأبواب بالضبة والمفتاح, ولم يكن معهم أمر من النيابة! وأنهما جاءا لكتابة محضر اثبات حال بالواقعة! كان أبو الخير منفعلا وقال لنا: ازاي ده يحصل في البلد.. أنا لو كان معايا مسدس كنت ضربتهم بالنار ثم سكت قليلا وقال: ده أنا معايا تصريح!!! وفي ابتسامة سخرية عذبة من سخرياته قال له احسان: كنت ضربتهم بالتصريح! وفي ليلة كنا في سهرة مع الأصدقاء في منزل احسان وفجأة سألني: انت اتسجنت كام مرة ؟ ولما قلت: ولا مرة! قال: ليه مع انك تستاهل! عشت مع احسان أحلي أيام عمري وما أندم وأتحسرعليه هي الأيام التي كنت أضيع فيها فرص اللقاء به, ولو أني أملك منح شهادة للصدق والوفاء والاحساس بالآخرين وتشجيع المواهب ورعايتها والشجاعة وقوة الارادة والصلابة والثقة بالنفس والبداهة والاخلاص والفداء وحب الوطن والتضحية في سبيله لقدمتها لاحسان عبد القدوس.