عندما تأكد توقف صحيفة السفير عن الصدور عدت بذاكرتى إلى كل رحلة كنت أتجه فيها إلى بيروت الحبيبة وأتخذ مقعدى على الطائرة وتأتى المضيفة لتسألنى عن أى الصحف أُريد فكانت إجابتى دائما صحيفتين لابد أن تكون السفير إحداهما فلا غنى لاكتمال فهم ما يجرى فى لبنان والوطن العربى عن قراءة السفير التى كان تاريخ تأسيسها كتاريخ رحيلها بالغ الدلالة ، فقد أسست فى عام 1974 بعد حرب أكتوبر 1973 مباشرة وكأن الإنجاز العربى الذى تحقق آنذاك قد امتد إلى عقول المخلصين من أبناء الأمة بأن أوان النهوض من كبوة هزيمة 1967 قد حان، وليس أدل على ذلك من أنه فى التوقيت نفسه, كان آخرون يعملون من أجل تأسيس مركز للبحوث والدراسات يتعهد قضايا الأمة وهمومها بالبحث العلمى كى يمهد للأمة من جديد سبيل نهوضها. وهكذا نشأ مركز دراسات الوحدة العربية بعد تأسيس السفير بوقت وجيز، وعبر ما يزيد على أربعة عقود خاضت السفير والمركز معارك ضارية من أجل الدفاع عن المشروع النهضوى العربي، فلم تكد السفير وكذلك المركز يبدآن مسيرتيهما حتى حل بلبنان والأمة العربية ما نعرفه جميعاً من حرب أهلية لبنانية وتسوية سلمية بين مصر وإسرائيل وحرب عراقية - إيرانية لم تكد تنته حتى غزا صدام حسين الكويت وعندما بدا فى قمة بيروت 2002 أن الجرح العربى بدأ يندمل عاجلتنا الولاياتالمتحدة بغزو العراق وسياستها المدمرة تجاهه ثم جاء ما عُرف بالربيع العربى الذى عمم الحالة العراقية على دول عربية عديدة وشُغلت الدول العربية بأمنها الذاتى ونعمت إسرائيل بأمان غير مسبوق . لم تكن مهمة السفير ومن سار على دربها سهلة بأى مقياس بل لقد كانت نضالاً أخذت ضراوته تشتد كلما طالت معاول الهدم ركناً جديداً من أركان العروبة وآخرها تهديد الدولة الوطنية العربية وانتشار الطائفية التى بدأت السفير بخوض المعركة ضدها فى لبنان فإذا بها تتحول إلى وباء عربى ولذلك فإن نذر الأزمة كانت واضحة، ومع ذلك فعندما بدأ الحديث عن احتمالات اختفاء السفير «خلتها لن ترحل» بتعبير الأستاذ جميل مطر فى مقاله «إنهم يقتلون الصحف» ولم يكن هذا الخيال المفارق للواقع سوى تعبير عن الألم من احتمال اختفاء جواد أصيل من حلبة السباق والأمل فى حدوث معجزة تبقيه، لكن عصر المعجزات ولي. ولذلك فإنه مع تسليمى بالأزمة العالمية للصحافة الورقية جراء التطورات التكنولوجية المذهلة فى وسائط نقل المعلومات والآراء والأكاذيب فإن السؤال يثور: لماذا تكون جريدة بتوجهات السفير ونزاهتها وليس غيرها فى طليعة ضحايا الأزمة ؟ ومع التسليم كذلك بدور أزمة الديمقراطية فى الوطن العربى فى محنة الصحافة العربية التى أشار إليها الأستاذ طلال سلمان فى مقاله المنشور بالشروق «عن الصحافة العربية : السفير نموذجاً « والتى لفتنا الأستاذ جميل مطر فى مقاله إلى أنها امتدت إلى دول ديمقراطية كالهند فإن السؤال السابق يبقى مشروعاً : لماذا السفير فى صدارة شهداء الديمقراطية وليس غيرها ؟ ولذلك فإنى أفضل ربط رحيل السفير بأزمة المشروع النهضوى العربى التى أشار إليها باقتدار الأستاذ طلال سلمان فقد انتقل هذا المشروع من مرحلة المد التى قادتها مصر إلى المرحلة الراهنة حيث «انتعشت الإقليميات والطوائفيات وتقدمت البداوة إلى الصدارة» وحيث أصبحت السطوة للمال فى النظام العربى للمال ولذلك فقد أختلف مع عنوان مقال الأستاذ فهمى هويدى فى الشروق «انتحار صحيفة» فالسفير لم تنتحر ولكنها قُتلت عمداً بينما تنعم صحف قائمة بتمويل هائل لأن وظيفتها مطلوبة من مراكز القوى فى النظام العربى . لم تكن السفير وحدها فى مواجهة الخطر وإنما صاحبتها كل مؤسسة اشتركت معها فى التوجه العروبى وهاهو مركز دراسات الوحدة العربية يواجه أزمة مالية طاحنة وهو الذى تفرد بين مراكز البحث العربية باعتماده الأساسى على موارده الذاتية الناجمة عن مبيعات إصداراته الرفيعة لكن الربيع العربى والاستقطاب الذى تلاه تكفلا بتراجع القدرة الشرائية للقارئ العربى والضغط على كل من يريد مد يد المساعدة النزيهة للمركز ناهيك عن مخطط مدروس دعمه المال العربى لإقامة بديل عمد إلى تصفية جهاز المركز من معظم العاملين المتمرسين فيه بإغراءات مالية لا تُقاوم وهاهو معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة يواجه المخطط نفسه مع أنه نجح منذ عقدين فى الاعتماد على التمويل الذاتى دون تفريط فى رسالة نشر العلم لكل دارس عربى راغب فيه بغض النظر عن قدراته المالية. على مدى عشرين سنة كانت معارك الدفاع عنه ضارية ضد أنصار الفرانكفونية الذين يسوؤهم انتشار الثقافة العربية وأصحاب الجامعات العربية الخاصة الذين يضيرهم وجود كيان أكاديمى لا يسعى إلى الربح والمتمسكين بالجمود الاجتماعى الذين أفزعهم أن فرصة الحصول على الماجستير والدكتوراه قد امتدت إلى كل الطبقات الاجتماعية ورواد التوجهات الطائفية والمتأسلمة والمنغلقة الذين أصابهم الكمد من أن الدارسين بالمعهد يضمون سنة وشيعة وأكراداً يتلقون جميعاً ثقافة عروبية منفتحة هى خير إطار لتجاوز محنتنا الراهنة وظل المعهد صامداً صاعداً إلى أن وصل العداء لرسالته إلى المنظمة التى يتبعها فاتخذت الخطوات اللازمة لتصفية رسالته وبالمناسبة فإن من أقاموا بديلاً لمركز دراسات الوحدة العربية فعلوا الشيء نفسه بإقامة معهد بديل. هى إذن ليست محنة السفير وحدها وإنما محنة كل من يحمل رايات العروبة وليس الاستسلام مطروحاً فى هذه المعركة ولا أعتقد أن طلال سلمان ورفاقه سوف يتوقفون عن النضال ، ولعل الغياب يكون تأكيداً لاستدامة الحضور، كما بشرنا الأستاذ فهمى هويدى فى حديثه عن انتحار السفير . لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد