أما القناع الثانى الذى يأتى بعد «مذكرات الملك عجيب بن الخصيب»، فهو مذكرات الصوفى بشر الحافي، وهو قناع يدل على عمق إبحار صلاح عبد الصبور فى دروب التصوف وتأثره البالغ به، فالشيخ بسام الدين الذى كان يظهر لنا كاللمح فى «الناس فى بلادى» يعود لنا فى هيئة بشر الحافى الذى كان يرى الدنيا من قمة وجده، فلا يبصر إلا الأنقاض السوداء. وهكذا نقرأ فى قصيدة القناع: ونزلنا نحو السوق، أنا والشيخ/ كان الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسان الكرِكيّ/ فمشى من بينهما الإنسانُ الثعلب/عجبا،/ زور الإنسان الكركى فى فكَّ الإنسان الثعلب/ نزل السوق الإنسانُ الكلب/ كى يفقأ عين الإنسان الثعلب/ ويدوس دماغ الإنسان الأفعي/ واهتز السوق بخطوات الإنسان الفهد/ قد جاء ليبقَر بطن الإنسان الكلب/ ويمصّ نخاع الإنسان الثعلب... والصورة بشعة فى تشويه الموقف الإنسانى وتحويله البشر إلى حيوانات متصارعة. صحيح أن الصورة عبثية، لكنها وحشية فى الوقت نفسه، لا ترى فى عالم الإنسان إلا عالم الحيوان الوحشى الذى يتصارع ليأكل بعضه بعضا. هل كانت هذه الصورة البشعة نبوءة بالكارثة التى سوف تحدث عام 1967، الإجابة محتملة. ولكن الرؤية موحشة وموجعة فى عبثيتها وفى امتدادها الذى يؤكد أن الإنسان الإنسان عَبَر، وأن زمنه مضي، وأن العالم الوحشى الذى نعيشه قد استبدل بالإنسان وحوشا ضارية يأكل بعضها بعضا، دالة على عالم بلا منطق أو عقل، فلا شىء فيه سوى غريزة البقاء التى لا معنى لحضورها سوى القضاء على الآخرين ليبقى - فحسب- الوحش الأقوى فى عالم ليس فيه سوى قواعد الغابة، أعنى قواعد تخلو من المعنى أو المنطق اللذين نعرفهما. ولذلك يقول بشر الحافى فى القصيدة لشيخه بسام الدين عندما يطالبه بالصبر وانتظار مجيء الإنسان، فيسخر منه قائلا: يا شيخى الطيب/ هل تدرى فى أى الأيام نعيش؟/ هذا اليوم الموبوء هو اليوم الثامن من أيام الأسبوع الخامس/ فى الشهر الثالث عشر/ الإنسان الإنسان عبر/ من أعوام/ ومضى لم يعرفه بشر/ حفر الحصباء، ونام/ وتغطى بالآلام. هذه الرؤيا الهولية المفزعة هى الرحم الذى تولدت منه رؤى ما بعد العام السابع والستين، ذلك العام الذى كانت مأساته اللامعقولة إيذانا بتولد الرؤى العبثية فى شعر صلاح عبد الصبور الليلية. ولنلتفت إلى حضور الشهر الثالث عشر، بينما لا يعرف العقل الإنسانى إلا الشهر الثانى عشر. وهو الأمر الذى يتكرر فى الإشارة إلى اليوم الثامن، بينما أيام الأسبوع سبعة لا ثمانية. وهكذا نصل إلى قصيدة «حديث فى مقهى» من ديوانه «تأملات فى زمن جريح» الذى صدر سنة 1970، أى بعد سنوات معدودة من هزيمة 1967، حيث نقرأ: أتحول عن ركنى فى باب المقهى حين تداهمنى الشمس/ أتحول عن شباكى حين يداهمنى برد الليل/ أتبسم أحيانا من أسناني/ أتنهد أحيانا من شفتيَّ/ أحلم فى نومى حلما يتكرر كل مساء/ أتدلى فيه معقودا من وسطى فى حبل/ ممدودا فى وجه ركام الأبنية السوداء/ أتسمع طلقا ناريا، يتماوج حولى مثل ذبابة/ يهوى جسمى المجروح/ ويرفرف حينا،/ ثم يغوص بطيئا فى جوف الكون المفتوح/ أخشى عندئذ أن أؤخذ عنوة/ حين أمس تراب الأرض الرخوة/ لأفرّغ من أمعائي، وأُعلق فى متحف/ فأظل أرفرف... وأول ما يلفت الانتباه فى هذا المقطع الذى تبدأ به القصيدة، هو فعل «التحول» الذى يتكرر مفتتحا السطر الأول والثاني، فى علاقة بالفعل «أحلم» الذى يفتتح السطر الخامس كى يأتى بعده الفعل «يتدلى»، معبرا كالأفعال التى سبقته عن تحولات غير منطقية، لا بمعنى أنها أحاديث مجانين، وإنما بمعنى أنها تخرج على منطق هو نقيض للمنطق والوعى الصارم، أعنى منطق الحلم الذى هو نقيض لمنطق الواقع. ويساعد على إدراك هذه التحولات أننا نراها فى الليل من حيث المهاد الذى تتحرك فيه، كما لو كانت نوعا من الأحلام التى سرعان ما تتحول إلى كوابيس، حيث نسمع طلقا ناريا يتماوج حول الجسد الذى يهوى ويرفرف فى أعماق الكون لا يصاحبه سوى الشعور بالخوف، أعنى خوف الذات المذعورة من كل ما يحدث حولها، فلا تملك سوى الفرار الذى يتكرر عبر امتداد المساء وتحولات الذات فيه. ونمضى مع القصيدة فى امتدادها اللامعقول: تعصر قلبى فى ساعات العصر المبطئة الخطوات،/ تبدو الدنيا من شباكي،/ ميتة مسجاةً،/ باهتة اللون مكتمة الأصوات،/أمضى عندئذ، أتسكع فى الطرقات،/ أتتبع أجساد النسوة،/أتخيل هذا الردف يفارق موضعه ويسير على شقيه،/ حتى يتعلق فى هذا الظهر،/ أو هذا النهد يطير ليعلو هذا الخصر،/ (وأعيد بناء الكون)/ لا يمضى زمن حتى تتمدد أجنحة الظلمة،/ تتكوم عندئذ فى عينى المرئيات،/ تتقارب فيها الأجسام وتتلامس،/ تتواجه تتعانق،/ تبدو كتل أخرى من أركان نائية جهمة،/ تتكور أجساما،/ تتكور جسما جسما، تتشكل هامات،/ قامات، أذرعة، أقداما،/ تتقدم نحوى حتى أخشى أن تصدمني،/ أتوقف لا أدرى ماذا أفعل،/ فأعود إلى شباكي. المؤكد أن صلاح عبد الصبور كتب هذه القصيدة بعد الهزيمة التى أثقلت قلبه بالهموم السياسية والميتافيزيقية على السواء، ودفعت به دفعا إلى عالم اللامعقول الذى سبقه إليه نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم على السواء، ولم يكن كلاهما بعيدا عن التأثر نفسه بالكارثة التى عصرت قلب صلاح عبد الصبور وجعلته يشعر بتوقف الزمن أو بتباطؤ الساعات المقتربة من الليل، حيث نرى الدنيا ميتة مسجاة حوله بلا أصوات، فيشاهد مناظرها، كما لو كان يشاهد فيلما صامتا هو الذى يتولى إخراجه وإعداده فيعيد تشكيل أجساد النساء، بل يعيد بناء الكون كله، عله يعثر على بقعة ضوء. ولكن تتمدد أجنحة الظلمة فتختلط المشاهد أمام عينه، عندما تتحول المرئيات إلى أشباح متقاربة أو متلاصقة أو متواجهة، لا تفعل شيئا سوى أن تهوى فى أفق مغلق لا ينفتح أمام عينيه فتسقط فى أعماق الظلمة، بينما تصعد أشباح أخرى تتقدم نحو عينى الرائى فيلوذ بشباكه محتميا فيه، منتظرا إلى أن يعود الفجر أو يصعد النور بأمل ما أو وعد ما. لكن لا يبدو من الظلمة أمل أو ضوء سوى وحشة الرعب وأشباح الفزع الكونى. «وللحديث بقية» لمزيد من مقالات جابر عصفور