حكاية طلاب الثانوية العامة ( لغات تجريبى) هذه الأيام، مع مادة الجيولوجيا، تُذكّرنا بعبارة كاللغز، ظل الفنان الراحل عبد المنعم إبراهيم يرددها طوال أحداث فيلم «القصر الملعون»، حيث راح يُكرر متعجبًا:«واحد عايش وهو ميّت.. إزّاى يموت وهو عايش؟ ويعيش ليه وهو أصلًا ميّت؟ طيب ما يموت وهو عايش»! ملهاة مادة الجيولوجيا، هي أن طلاب الثانوية العامة تجريبى، قررت الوزارة عليهم دراستها بالإنجليزى، لكنهم عندما يتوجهون للامتحان، ويجلسون فى اللجان، يجيبون عن الأسئلة بالعربى، طيب كيف يجيبون بالعربى وهم أصلًا طلاب لغات إنجليزى ( عايش وهو ميّت)! فإن أنت سألت الطلاب: وهل أنتم طوال السنة الدراسية تدرسون الجيولوجى بالإنجليزى؟ يردون عليك : أبدًا.. بل ندرسه بالعربى. الله الله .. طيب كيف وأنتم أصلًا مدارس لغات؟ هى كِده وخلاص. (إزّاى يا ناس يموت وهو عايش؟) ثم جاءت لحظة الحقيقة ( أو الذروة كما يسميها كُتّاب السيناريو)، عندما قررت وزارة التعليم إعادة الأمر إلى نصابه، وألزمت الطلاب بضرورة الإجابة بالإنجليزى فى امتحان آخر العام (يعنى رجع مات تانى وهو عايش) ! وطبعًا ثارت ثائرة الطلاب، وقامت قيامة أولياء أمورهم. قالوا: ولماذا لم تخبرينا بذلك يا وزارة فى أول العام الدراسى لنحسب حسابنا؟ وهل يصح أن تصدر القرارات هكذا فجأة فى منتصف العام دون سابق إنذار؟ إنكم بذلك تضيعون مستقبل أبنائنا. ( مات وهو عايش) ! الوزارة ردّت عليهم: ما لناش دعوة.. هذا القرار ليس جديدًا.. وهو صادر منذ 3 سنوات.. وآن الأوان لتطبيقه، ونحن شبعنا من التسيب والإهمال وتعطيل القرارات الوزارية.. أنتم لغات.. إذن فلتكن إجاباتكم على مستوى مدارس اللغات. ( لِسّه برضو ميّت وهو عايش)! هنا تعقدت الأمور، وتظاهر الطلاب، ودخل الإعلام على الخط.. فاضطر السيناريست ( الوزارة) إلى تعديل النّص. قالت الوزارة: ماشى.. حوّلوا أوراقكم إلى مدرسة حكومية عادية تكون إجاباتكم فيها بالعربى..وليكن ذلك- أى التحويل- قبل 15 يناير المقبل.. وهذا آخر كلام لكم عندى ( مات تانى رغم أنه كان نِفسه يعيش!) هنالك، بكى الطلاب، وصرخت الأمهات. قلن: يا ناس ارحمونا.. إن أبناءنا خلاص انتهوا من مذاكرة المادة.. ولم يعد ممكنًا تغيير المسار.. ومدارس الحكومة التى تريدون تحويلنا إليها.. ليس بها لا فصول.. ولا مدرسون.. ولا ديسكات أصلًا.. فكيف تحولونهم إلى مدارس كهذه؟( مات وهو عايش)! حمّرت الوزارة عينيها، وزأرت كزئير أسد هصور: من قال لكم أن تذاكروا بالعربى أساسًا.. أنتم فعلتم ذلك لأنكم لا تذهبون للمدارس.. بل تعتمدون على السناتر ومراكز الدروس الخصوصية.. وأنا لست مسئولة عن دروسكم الخصوصية.. ليس أمامكم الآن إلا التحويل.. أو البقاء فى مدارسكم مع أداء الامتحان بالإنجليزى. (وهكذا مات وهو ميّت) ! فإن توجهت أنت إلى أولياء الأمور فسألتهم: يا خلق الله.. أليس أبناؤكم يدرسون الماث والساينس (الكيمياء، والفيزياء، والبايولوجى) بالإنجليزى.. فلماذا عندما يتعلق الأمر بالجيولوجى.. تدرسونه بالعربى؟ يجيبون: لأنه مادة صعبة جدًا وكلها مصطلحات إنجليزى.. طيب لما هي بالإنجليزى عايزينها ليه بالعربى؟ ( هل هو عايش أم ميت؟). خلاصة القول؛ أننا بالنسبة لحكاية الطلاب مع الجيولوجى، إزاء تناقض صارخ، يشبه بالضبط حالة عبد المنعم إبراهيم، وهو تناقض لخّصه سؤال إبراهيم: كيف يعيش المرء بينما هو ميت؟ يعنى كيف ندرس مادة للطلاب بالإنجليزى، وهم محتاسون، ولا يجيدون الإنجليزية، وفى الوقت نفسه؛ كيف ندرسها بالعربى، الذي لا يصلح أصلًا لتدريسها، كونها علمًا غربيًا، وأباه وأمه غربيان؟ .. ولو فكرنا قليلًا، لوجدنا أن المعضلة ليست قاصرة على الجيولوجيا وحدها، بل تمتد لتشمل كل فروع العلم الحديث عندنا، والتى اخترعها الأجانب بلغتهم هم، وما نحن إلا ضيوف ثقال عليها. وببساطة، فإننا -نحن العرب- ندرس لطلابنا علومًا لا علاقة لمجتمعاتهم بها، ولا هى منّا، ولا نحن منها، فبتنا حائرين حيرة العجوز الذى يصرون على ختانه يوم خروجه على المعاش ( على حد وصف الراحل الفذ فؤاد المهندس)! وإن أردت الحق، فإن حل المعضلة، لا هو فى يد وزير التعليم، ولا هو في يد وزارته، بل يكمن الحل فى تغيير منظومة التعليم عندنا بكاملها، وليس منظومة التعليم فقط، بل قل منظومة الحياة كلها، إن شئت الدقة. مفارقات الفيلم لم تنته عند هذا الحد.. إذ قفز إلي الأحداث مشهد مؤثر، وهو دخول البرلمان الموقر إلي سيناريو الفيلم، وبعد مناقشات ومداولات، (مشكورة) ، قرر إرجاد تنفيذ القرار إلي بداية العام الدراسي، المقبل، مع تأكيد احترامه الكامل لما يصدر عن الوزارة من قرارات.. (وهكذا تنفس الطلاب الصعداء.. وعاد الميت ليعيش من جديد بعد أن ظننا أنه مات) ! في نهاية فيلم عبد المنعم إبراهيم.. اكتشفوا من هو العايش وهو ميّت، إنه الشرير شقيق المليجى التوءم ( الذى أدى دوره محمود المليجى نفسه)..وطبعاً مات الشرير في نهاية الفيلم علي يد البطل كما هي عادة افلامنا الجميلة. ونظرنا فرأينا البطل (صلاح ذو الفقار) يصطحب البطلة ( مريم فخر الدين).. فى القطار لتمضية شهر العسل.. وبعد أن ودعهما عبدالمنعم إبراهيم في المحطة تطلع إلينا مبتسمًا هامسًا: إزاى يا ناس عايش وهو ميت؟ على كل حال، نحمد الله علي أن نهاية فيلم البايولوجي جاءت سعيدة ولا يبقى أمامنا سوى أن نقف مذهولين مبهوتين «كالبُلهاء» أمام الكاميرا، فاغرين أفواهنا، لنتساءل مع عبد المنعم إبراهيم: «إزاى عايش وهو ميّت.. ومات ليه.. مادام عايش»؟ لمزيد من مقالات سمير الشحات