بنارها يتلظى أولياء الأمور، وبلهيبها يكتوى كل بيت مصرى، يعتمد عليها معظم الطلاب، إن لم يكن جميعهم، بعد أن ولوا وجوههم عن المدرسة شطر مراكز الدروس الخصوصية، أو «السناتر»، كما يحلو للبعض أن يطلق عليها، هى أشبه بتعليم موازٍ يدفع فيه ولى الأمر دم قلبه، مما يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصّعّد فى السماء.. إنها الدروس الخصوصية التى تثقل سواعد الأسر المصرية، بمختلف طبقاتها، وأماكن إقامتها. يكشف تاريخ التعليم المصرى أن كل من حاول، أو يحاول من وزراء التعليم المتعاقبين، مواجهة هذا الوباء، لم ينج من الهجوم عليه من «مافيا» الدروس الخصوصية، بل ويتهم بأبشع الأساليب، وتحريض الرأى العام وإثارته ضده، خاصة أن هذه «المافيا» أصبح لها رجالها، والمدافعون عنها، فى مواقع مؤثرة، بل ويمكن أن تقنع ضعاف النفوس بالقيام ببحوث توصف بالعلمية، لتبرير شرعيتها ومشروعيتها فى الواقع المصرى. عن جذور هذه الظاهرة، يشير الدكتور محمد سكران، أستاذ أصول التربية بكلية التربية بجامعة الفيوم، رئيس رابطة التربية الحديثة، إلى أن ظاهرة الدروس الخصوصية ليست وليدة اليوم، وإنما تضرب بجذورها فى أعماق تاريخ التعليم المصرى، حيث ولدت فى أواخر القرن التاسع عشر، وحصلت على شهادة ميلادها عام 1901، بقانون يبرر الأخذ بها، وينظمها، ويحدد ممارستها، ويقيدها، ولكنها خرجت على الطوق، وكبرت وكشرت عن أنيابها، وتمت مواجهتها – لأول مرة – عام 1935، ولكن لم تفلح المواجهة، وفشلت بعد ذلك كل المحاولات والجهود، ولا تزال، رغم شيخوختها الطاغية، فتية، تتمتع بالصحة والعافية، بل ازدادت قوة ونفوذا بفعل العديد من الظروف، التى استغلها فاسدو الذمة، ليرتكبوا أبشع جريمة أخلاقية وتربوية، بل وإنسانية، فى حق الأجيال، وفى حق مصر، وحق الأسرة المصرية. ويوضح أن هذه الظاهرة أصبحت تتم «على عينك يا تاجر»– كما يقول المثل الشعبى- حيث يتم الإعلان عنها فى الصحف، والشوارع، والأرصفة، ومحطات المواصلات، وبأساليب مختلفة جذابة، وكلها أساليب تنبئ عن ظاهرة خطيرة، هى ظاهرة «التفسخ والتحلل القيمى»، والتعامل مع أقدس المهن بمنطق السوق، متسائلا: كيف بالله يحترم التلميذ أستاذه؟ وكيف تسود العلاقات النبيلة السامية، وما ينبغى أن يكون بين التلميذ والأستاذ من احترام وتقدير؟. ويطرح أمورا ضرورية وأساسية لحل هذه المشكلة، يأتى فى مقدمتها تحمل الدولة لمسئوليتها، وهى توفير الميزانية الكافية للتعليم، والتى يجب أن تكون على الأقل ثلاثة أضعاف ما هو مخصص الآن. ويقترح فرض «ضريبة» تحصل من كل مواطن، اسمها «ضريبة التعلم» تفرض على كل الأنشطة التى يقوم بها الأفراد، والهيئات، والمؤسسات، مع فتح باب التبرع الشعبى فى كل الأماكن، والكفور، والنجوع، وإثارة وعى الجماهير من خلال ميديا الإعلام، والمساجد، والكنائس بخطورة الدروس الخصوصية على مستقبل الأبناء، وآثارها الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية الخطيرة، وأيضاً إثارة وعى التلاميذ والطلاب بهذه الأخطار من خلال الندوات فى المؤسسات التعليمية، والأندية الرياضية، وإعطاء حوافز تشجيعية لمن يمتنعون عن إعطاء الدروس الخصوصية، واعتبار هذا ضمن شروط الإعارة وغيرها من الإجراءات الممهدة لاستصدار قانون التجريم والتحريم لهذا الوباء المدمر لأبنائنا، والذى لا يقل خطورة على أبنائنا عن تعاطى الحبوب والمخدرات. باختصار ضرورة التعامل مع الدروس الخصوصية على أنها وباء تعليمى مجتمعى، بكل ما يعنى هذا من أبعاد وأخطار. ويؤكد الدكتور عادل رسمى النجدى، أستاذ المناهج وطرق التدريس، عميد تربية أسيوط، أن مراكز الدروس الخصوصية انتشرت واستشرت- للأسف الشديد- كالنار فى الهشيم، وباتت تستنزف أموالا طائلة من الأسر المصرية، وتثقل كواهل أولياء الأمور، وأصبحت تؤدى دورها فى ظل عدم الرقابة من الدولة وأجهزتها المختلفة. ويرجو من الدولة اتخاذ موقف صارم تجاه هذه الظاهرة، من خلال تشديد الرقابة على هذه المراكز، ولكن قبل كل شىء يجب إصلاح المنظومة التعليمية من الداخل، وذلك بقيام المدرسة والمعلمين بدورهما على أكمل وجه، حتى لا يتوجه الطلاب إلى هذه المراكز، ماداموا قد وعوا الدروس جيدا فى المدرسة. ويطالب بسنّ تشريع لإلغاء الدروس الخصوصية من خلال منح الضبطية القضائية لوزارتى التعليم والداخلية، حتى يتم إنفاذ القانون. الدكتور على سيد عبدالجليل، أستاذ المناهج وطرق التدريس بتربية أسيوط، يختلف قليلا مع الرأى السابق، حيث يرى أن القضاء على ظاهرة الدروس الخصوصية لا يكون بتشريع ملزم، ولا بقرار أمنى، ولا مداهمات من الشرطة، وإنما بإصلاح نظام التعليم الذى يركز على الحفظ والتلقين فقط، وإعادة النظر فى المناهج والمقررات، وإزالة الحشو الزائد منها، وإعادة الأنشطة إلى سابق عهدها، وتحسين دخل المعلم. ويضيف أن رغبة أولياء الأمور فى تفوق أبنائهم هى التى أدت إلى استشراء هذه الظاهرة، لافتا إلى أن كثيرا من المعلمين يروجون للدروس الخصوصية داخل المدارس، ويفرقون بينها وبين مجموعات التقوية المدرسية فى الشرح وبذل المجهود. ويطالب بضرورة تشديد مبدأ الثواب والعقاب، حيث يجب أن يكافأ المدرس المجيد، ويعاقب المقصر، متسائلا عن اختلاف أداء المدرس خارج المدرسة، حيث يكون شعلة من النشاط، أو حين يسافر خارج مصر، مع ضرورة توعية أولياء الأمور بتنشيط مجالس الأمناء، والإدارات المدرسية لمراقبة الأداء المدرسى داخل الفصول المدرسية. الدكتور محمد حسنين العجمى، أستاذ اجتماعيات التربية وإدارتها بكلية التربية بجامعة المنصورة، ينكأ الجراح بقوله إن قضية الدروس الخصوصية باتت قضية مجتمعية، وأصبحت بين مطرقة الحاجة المحتومة، وسندان الضغط المجتمعى، الذى لا يبقى ولا يذر، خاصة أن ما ينفق على الدروس الخصوصية يقارب 10 أضعاف ما ينفق على العملية التعليمية. ويضيف أنه إذا كان البعض يرى أن الدروس الخصوصية أصبحت حقا مكتسبا للمدرس، فإن هناك سبلا مختلفة لعلاج هذه الظاهرة، منها ترشيد نفقات العملية التعليمية، بمعنى ألا يكون للمعلمين، الذين يعطون دروسا خصوصية، ويصرون عليها- وهم بذلك يجمعون بين الحسنيين: «الوظيفة الميرى»، وربح الدروس الخصوصية- راتب من الوزارة أصلا، أو إعطاؤهم إجازة حتى يكتنزوا من المال ويكتفوا، وترك أماكنهم للمعلمين الذين على استعداد لأن يضحوا بجهدهم ووقتهم من أجل التعليم الحقيقى للطلاب، خاصة أن هناك طابورا طويلا من خريجى كليات التربية فى الشارع. ويؤكد أنه إذا كانت المدرسة قد سقطت، فإن التعليم لم يسقط، ويتساءل: إذا كانت الدروس الخصوصية واقعا مريرا، لا مناص منها، فهل المدرسة مؤهلة للقيام بدورها الأصيل والأساسى؟ ويجيب بنفسه: لا بالطبع لم تعد مؤهلة، لاسيما أن كثيرا من مديرى المدراس يحصلون على نسبتهم من عائد مجموعات التقوية التى تتم داخل المدارس. ويصف الدكتور سيد على، كبير معلمى اللغة الإنجليزية بوزارة التربية والتعليم سابقا، موضوع الدروس الخصوصية ب «جحر ثعابين» يُلدغ من يحاول دخوله، حيث يتم إجبار التلاميذ فى المدارس على دخول الدرس الخاص، طوعا أو كرها، إذ يتم الاتفاق بين بعض المعلمين منعدمى الضمائر، وبعض المديرين، خربى الذمم، على مبلغ معين، حسب عدد الطلاب والفصول، مقابل أن يكون المعلم مطلق اليدين فى الفصل، يفعل ما يشاء، دونما حسيب ولا رقيب. أما المدرس المحترم، وكذلك المدير، أو المفتش، فلا مكان له بينهم، إذ يتم الالتفاف عليه باستغلال ضائقته المالية. فإن رفض، فإنهم يطبقون عليه قول قوم لوط» أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون».