(1) يقول الأديب الألمانى «هاينريش بول» الحاصل على نوبل فى الآداب عام 1972: « لقد علمنى الطريق المؤدى إلى المدرسة، أكثر مما علمتنى المدرسة». (2) وقف مدرس الفصل طالبا مننا أن نفتح الكتاب ثم قال الجملة الساحرة التى أسكرتنى كما لم يسكرنى حب أى فتاة فى حياتى قال ( اشطبوا معايا على اللى هيجى فى الامتحان)، شخص ما يحررك من بعض المسئولية بلا مقابل، و يمنحك مقابل كل مللى يمحوه من المسئولية الملقاة فوق كتفك مللى سعادة، ظلت الجملة مفتاح تعاملاتى مع الكوكب طول الوقت، بالذات فى علاقاتى الشخصية، لا أتعامل مع البنى آدم بالجملة أتعامل فقط مع (اللى هييجى فى الامتحان) فأتحرر من ثقل بعض عيوبه لأننى حذفتها، تعلمت أن أضع بنفسى امتحانات العلاقة حتى أسيطر على ( اللى هييجى فيها)، أتحاشى الجزء المؤذى فى المنهج وأشطب على كل الطرق المؤدية إليه، كانت جملة أستاذ(ميخائيل) تافهة شكلا و أعمق ما يكون مضمونا. (3) كانت أمى عندما ترسلنى إلى مشوار ما تقول لى ( رجليك ما تعلمش على الارض)، ظللت لسنوات طويلة أذهب لشراء العيش من الفرنة كراقص باليه، قفزات رشيقة على أطراف الأصابع مع استدارات محكمة فى الهواء أقطع بها بضع الخطوات، حتى شاهدنى أبى مرة فى الشارع أحمل حبات الفلفل الرومى والباذنجان عائدا من السوق وأنا أسير بهذه الطريقة فرزعنى قلما على القفا قائلا أصل أنا ماخلفتش رجالة، لكن عندما كبرت عرفت أننى أدين بكثير من الفضل لأمى بسبب جملتها، صار عنوان مشاويرى فى الحياة كلها ( رجليا ما تعلمش على الأرض) أتحرك بخفة ولا أترك الفرصة لأى شىء أو شخص أن يأسرنى، تعلمت ألا يصبح لى جذور فى أحداث أو أماكن او مع أشخاص سأغادرهم أو سيغادروننى يوما ما بطبيعة الحال و الأحداث، بفضل أمى أصبحت شخصا لا يعانى من اقتلاع الجذور عند الرحيل، بفضل أمى نجوت من آلام الفراق. (4) عرفت بعد انتهاء الدراسة الحرية فى مسألة النوم. لذلك أصبح النوم بالنسبة لى كبيرا مغامرة. يصعب توقع ما سأصادفه بعد قليل. تشغلنى المسألة فعلًا قبل النوم، وأحاول أن أتحاشى كل ما سيقودنى إلى كوابيس تنتهى بمطاردة كلاب ضالة فى شارع نصف مظلم، أو أشخاص راحلون يعانون من مأساة ما، أو ضياع مفاجئ للصوت أو القدرة على الحركة..ليست كوابيس التى تطاردنى، ولكن مشاهد مركبة شديدة التعقيد، أصحو مشغولًا بالبحث عن معناها، لا أجد فى الماضى عادة أمرًا له علاقة بالحلم، لذلك أظل طوال الوقت فى انتظار ترجمة المستقبل لما رأيته فى أثناء النوم. كان خالى فى العناية المركزة، ونمت، حلمت أننا فى ملعب كرة قدم كبير، هو يلعب دور الجناح الأيمن وأنا رأس الحربة، لا أحد غيرنا فى الملعب، كل مرة يرفع الكرة عرضية وأقفز لأسددها برأسى فأفشل، يكرر اللعبة ثم أفشل، يطلب منى ألا أتوقف، يكرر العرضية فأفشل فى إحراز هدف، وهكذا حتى وجدت خالى ينسحب محبطًا قائلًا مافيش فايدة. كانوا يحاولون إفاقته فى الوقت نفسه، مرة ثم أخرى، ثم أخرى، ثم مافيش فايدة، رحل فى اللحظة نفسها التى أفقت فيها أفكر فى معنى الحلم. (5) الطعام بالنسبة إلىَّ هو العائلة.نصف ما تعلمته صغيرًا تعلمته فى جلسة الطعام بملابس المدرسة ، على الطبلية ذات الطبقة الفورميكا الحمراء، أو على السفرة التى شغل النجار نهاية قوائمها على هيئة مخالب حتى يربط بينها وبين وجه الأسد المنحوت على باب البوفيه، لم يكن هناك فرق، كانت الدروس المستفادة هى الموضوع، العدل، الإيثار، الرضا، المجاملة، الشكر، الاستطعام على مهل، كان كل هذا يحدث بشكل تلقائى، لا تقُل «أنا مابحبش السبانخ»، ولكن قل «السبانخ مابتحبنيش»، هذا نصيب الغائب يقتطع تمامًا كأنه موجود، تهادوا تحابوا تكبر المحبة بهدية ليست أكثر من جناح دجاجة أو قطعة من كبدها الصغير، لا تغادر قبل أن تمدح من تعب وتشكر من خلق، الحمد لله، مع التأكيد أنه (يستاهل الحمد).بعد أن كبرت ضاق خلقى وصارت أفكارى حول الطعام تدور حول ملاحظاتى السلبية على ما تقديمه لى، أحاول أن أدفنها تحت الشكر والحمد، لكننى أدفنها حية فتفضحنى. (6) قال له أستاذه: لابد أن تمشى كثيرا، دون هدف، دون ان تمتلك محطة ينتهى عندها المشى، ضع قدميك على الطريق و انطلق، مع كل خطوات تقطعها يُمحى تلقائيا حرفا من صاك عبوديتك، عندما تمشى تمشى إلى جوارك الأفكار العظيمة التى تحملها روحك، تتنفس هوائا غير سابق التجهيز، تتولد كهرباء تعالج أمراضك النفسية تماما مثلما تفعل جلسات الكهرباء فى المصحات النفسية لكن الكهرباء هذة المرة طيبة، بينك و بين نسختك الأولى كإنسان ملايين السنوات، كل مرة تمشى تحرق مسافة جديدة بينكما، استمر فى المشى حتى تصل إليه. (7) أقول لنفسى دائما الحمد لله أن ( البقاء لله)، هو معنا أينما كنا، بما يعنى أننا معه، و هو باقى، إذن فكلنا باقون، فيما عدا ذلك هى أشكال و تجليات، فى كل شكل تجربة، الجنين الطفولة المدرسة الزوج الأبوة الشيخوخة الموت ، ولا أحد يستطيع أن يزعم أن هناك تجربة أحلى من الأخرى، الممتع حقا كما يقول أحد الأكابر أنك خرجت من العدم.