أواصل الكلام عن اتهام نجيب محفوظ بخدش الحياء فى رواياته والتهديد بتقديمه للمحاكمة لو كان حيا! أواصل الكلام فى هذه الواقعة التى قد ينظر لها البعض على أنها نوع من العبث الماجن، أو المزاح الثقيل الذى لايستحق أن نقف عنده أو نلتفت إليه. والحقيقة أنها لاتخلو من كل هذا، لكنها ليست هذا فقط، وإنما هى أكبر بكثير وأخطر بكثير. وإذا كانت قد بدأت بالحياء وخدشه فلأن الحياء وما يمكن أن يتعرض له موضوع مثير رائج يتصل بالجنس الذى يعتبر فى كثير من المجتمعات موضوعا محرما يمنع الناس من الخوض فيه، ومن ثم يمنعون من الخوض فى غيره من الموضوعات التى تتصل به وتصبح «تابوهات» كما تسمى فى اللغات الأجنبية، أى ممنوعات أو محظورات أو مقدسات يتعرض من يقترب منها أو يفكر فيها بحرية للاتهام بخدش الحياء، وازدراء الدين، ومعارضة النظام، وهى تهم وجهت كلها لنجيب محفوظ كما وجهت لغيره. عندما أصدر الروائى الإيرلندى جيمس جويس روايته الشهيرة «يوليسيس» فى العشرينيات الأولى من القرن الماضى لم يتهم بخدش الحياء فقط، بل اتهم أيضا بنشر الفوضى والتبشير بالشيوعية التى كان لينين فى ذلك الوقت يحمل لواءها فى روسيا. وكما اتهم الروائى الإيرلندى بالشيوعية اتهم الروائى الانجليزى د. ه. لورنس بمعاداة الحضارة البرجوازية الحديثة والانحياز للفقراء الذين يمثلهم فى روايته البستانى الذى أسلمته الليدى تشاترلى جسدها وانفصلت عن زوجها الغنى المثقف الذى فقد قدرته الجنسية. العشيق فى رواية لورنس يرمز للخصوبة والدفء الإنسانى وتجاوز الفروق الطبقية. والزوج يرمز للعقم والجفاف والانقراض. وهى نغمة ترددت فى قصيدة إيليوت «الأرض الخراب» التى ظهرت عام 1922 بعد «عشيق الليدى تشاترلي» بسنوات ثلاث. ومن الواضح أن الاتهام بخدش الحياء ليس إلا مقدمة للاتهام بازدراء الدين والخروج على النظام السياسي. وهى كما أشرت تهم وجهت كلها لنجيب محفوظ منذ كتب روايته «أولاد حارتنا» ولاتزال توجه إليه حتى الآن. الاتهامات الموجهة لنجيب محفوظ بدأت فى الشارع، فى المظاهرة التى تزعمها الإخوانى المتنكر الشيخ محمد الغزالى وسار بها إلى صحيفة «الأهرام» التى نشرت فيها الرواية فصولا متتابعة، ولم تعترضها قوات الأمن ولم تفرقها، لأن السلطات التى كانت تمنع التظاهر فى ذلك الوقت وكانت تحارب الإخوان رأت أن تترك مساحة يتحرك فيها الشيخ الغزالى وأمثاله ممن انفصلوا عن الإخوان ووجهوا سهامهم للمثقفين الذين كانوا يحاربون الإخوان ويعارضون السلطة الحاكمة، لأنهم يرفضون الحكم العسكرى ويطالبون بالديمقراطية. ولأن السلطة كانت تشك فى ولاء المثقفين لها، وخاصة الليبراليين ومنهم نجيب محفوظ، وتحب أن تشعرهم بأنهم معزولون عن الشعب الذى يعتقدون أنهم يتحدثون باسمه سكتت على حملات التكفير والتحريض التى شنها على الثقافة والمثقفين فلول الإخوان الذين حلت السلطة تنظيماتهم واعتقلت أفرادها وحرمت عليهم الاشتغال بالسياسة فلم يعد أمامهم للمحافظة على ما بقى لهم من وجود إلا الطعن فى عقائد المثقفين المعادين لهم والتحريض عليهم. وهو ما تغاضت عنه السلطة وشجعته بتعديل مواد الدستور وبقانون الحسبة الذى جعل العنف الموجه للمثقفين حقا يمارسه الغوغاء ومن يحركونهم من أمثال الشيخ يوسف البدرى الذى استطاع «بجهاده» ضد المثقفين أن يفوز بعضوية البرلمان الذى وقف أحد أعضائه قبل أسبوعين يهدد نجيب محفوظ فى عيد ميلاده الخامس بعد المائة بتقديمه للمحاكمة لو عاد حيا. وهذا هو الجديد فى الحرب المعلنة على نجيب محفوظ من ستينيات القرن الماضى إلى اليوم. بدأها الشيوخ المتطرفون، وواصلها الأميون الذين حاولوا اغتياله وهو حي، وهاهو أحد النواب المحترمين يعاود الكرة ويحاول اغتياله من جديد. إذن، التهمة التى وجهت لنجيب محفوظ ليست مجرد عبث أو مزاح، وإنما هى أكبر وأخطر. لأن البرلمان يعنى الأمة. ولأن نجيب محفوظ يعنى المثقفين. لكن نجيب محفوظ رحل، فما هو المقصود بالضبط من توجيه هذه التهمة له? ليس هناك إلا جواب واحد هو أن التهمة الموجهة لنجيب محفوظ موجهة للمثقفين المصريين، والحرب المعلنة عليه معلنة على المثقفين المصريين الذين كانوا معرضين دائما لما تعرض له الروائى العظيم. والتهمة خدش الحياء أو ما يتصل بها ويرادفها. لكن ما معنى خدش الحياء؟ سؤال آن لنا أن نطرحه على أنفسنا لنعرف ما الذى تعنيه هذه العبارة التى لم نتبين معناها حتى الآن، لأننا نعتقد أنها تشير إلى محظور يجب علينا أن نتجنب الاقتراب منه وأن نكتفى فى معرفته بما ورثناه وبما نستشعره إزاءه من رهبة تلزمنا بالوقوف عند حد لانتجاوزه وإلا وقعنا فى المحظور وخدشنا الحياء، فما الذى تعنيه هذه التهمة حين توجه لكاتب أو شاعر. ما معنى خدش الحياء فى رواية أو مقالة أو قصيدة؟ معناه أن يتعرض الشاعر أو الكاتب لأفعال أو ممارسات اصطلح الناس على عدم التعرض لها، لأنها تدخل فى نطاق التجارب والأفعال التى لا يسمح للإنسان بالحديث عنها، حتى ولو كانت حقا من حقوقه أو حاجة من حاجاته الضرورية، خاصة حين يستخدم الكاتب أو الشاعر فى حديثه عن هذه التجارب الكلمات والعبارات التى تعتبر كلمات بذيئة. لكن الكلمات التى توصف بالبذاءة ليست بذيئة إلا لأنها تتحدث عن الجنس الذى نعتبره فعلا فاحشا. وعلى هذا أصبحت المفردات الدالة عليه بذيئة وأصبح استعمالها خادشا للحياء، وصار من واجبنا أن نبتعد عنها وألا نستعملها. لكن هذه المشكلة التى نواجهها تصبح عندئذ معقدة، لأن خوفنا من هذه الكلمات وعدم استعمالنا لها رغم حضورها القوى فى وعينا ولا وعينا يزيد من شعورنا ببذاءتها مع أنها ليست بذيئة فى ذاتها، وإنما لأنها أسماء لمسميات اعتبرناها نجسة. ولو أننا خلصنا الجنس من هذه النظرة البدائية لأصبحت المفردات الدالة عليه مجرد مفردات، خاصة حين تستخدم فى إبداع حقيقي. لمزيد من مقالات أحمد عبدالمعطى حجازى