قرأت ما نشرته بعض الصحف فى مصر وخارجها، عن نائب فى مجلس النواب أعلن أن روايات نجيب محفوظ تخدش الحياء، ولو أن كاتبها كان لايزال على قيد الحياة لوجبت محاكمته! قرأت هذا الخبر العجيب فلم أفهم شيئا مما جاء فيه، ليس لأن ما يقوله غامض أو غير صريح، ولكن لأنه غريب لايعقل ولايصدق، فضلا عما فيه من أسماء مجهولة لم أسمع بها من قبل!. النائب المحترم بطل القصة العجيبة اسم مجهول تماما بالنسبة لي، لا أعلم شيئا عن نضاله السياسى الذى أوصله للمجلس الموقر، وأهله لتمثيل المصريين فى أول برلمان ينتخب بعد ثورة يونيو، التى أسقط فيها المصريون حكم المرشد، وبددوا أحلام الإخوان الجهنمية، وقطعوا الطريق على ما حاكوه من مؤامرات، وأعدوه من خطط لإعادتنا وإعادة المنطقة كلها إلى العصور الوسطي، هل يكون هذا البرلمان المفترض أنه برلمان يونيو، أى برلمان الدولة المدنية والملايين التى دافعت عنها، والدستور الذى كفل لنا حرية الفكر والرأى والبحث العلمي، والإبداع الفنى والأدبي، هل يكون هذا البرلمان هو المكان الذى يتسع لصاحب هذه الفتوى وأمثاله، وهو الجهة التى يستند لها ويحتمى بها وهو يسدد طعناته لنجيب محفوظ، ولجميع المثقفين المصريين؟. وما الذى يعرفه هذا السيد السند عن نجيب محفوظ؟ هل قرأ رواياته؟ لا يبدو من حديثه أنه قرأها، ولا يمكن لأحد أن يصدق أن صاحب هذا الرأى فى نجيب محفوظ قد قرأ له شيئا، أو قرأ عنه شيئا، لأن الذى يقرأ لنجيب محفوظ مضطر لأن يتأدب وهو يتحدث عنه، فهو أمام رجل اكتمل له واكتمل به فن الرواية العربية، وانضم بفضله لتراث الرواية فى العالم كله، فنجيب محفوظ الآن فى كل اللغات. وقد رأيت أعماله معروضة على القراء فى مكتبات باريس، ولندن، وروما، ومدريد، واستوكهولم التى توج فيها بجائزة نوبل، وفى نيويورك، وهافانا، وبوجوتا، ونيودلهي، وبكين، إلى جانب أعمال فلوبير، وبلزاك، وديكنز، ودستوفيسكي، وجابرييل جارثيا ماركيز. نجيب محفوظ لم يعد مجرد كاتب فرد يستطيع كل من هب ودب أن يتطفل عليه، ويتحرش به، ويقول فيه ما يعن له صوابا كان أو خطأ، دون تردد أو احتياط، وإنما أصبح نجيب محفوظ وهو لايزال على قيد الحياة رمزا لمصر وثقافتها، ثم احتل بعد رحيله هذا المقام الرفيع الذى احتله فى تراثها الخالد. فإذا كان هذا السيد السند قد قرأ شيئا لنجيب محفوظ فوجده خادشا لحيائه، ألم يكن أفضل له وأعقل أن ينصرف عن نجيب محفوظ ويكف عن قراءته حتى لا يتعرض حياؤه لمن يخدشه، وحتى لا يدلى بشهادته فى قضية يجهلها ولا يعرف عنها ما يؤهله لأن يكون شاهدا فيها؟ فإذا كان ما قرأه فى روايات نجيب محفوظ أو سمع عنه قد شغله وأقض مضجعه إلى الحد الذى لم يعد قادرا على إخفاء رأيه فيه، فقد كان من واجبه أن يستشير النقاد والدارسين الذين يستطيعون أن ينبهوه للفرق بين قول أو فعل أو سلوك خادش للحياء، وعمل أدبى يصور هذا القول أو هذا الفعل، بين ما يقوله الكاتب فى روايته، وما تقوله الشخصيات التى يصورها ويلتزم بنقل ما يصدر عنها. نجيب محفوظ الذى كتب الثلاثية غير السيد أحمد عبدالجواد بطلها، فإذا كان نجيب محفوظ قد حدثنا عن هذا السيد فى بيته وخارج بيته، مع زوجته ومع خليلته، فى مكان عمله وفى مسرح لهوه، فنجيب محفوظ ينقل لنا الواقع ويصور ما فيه، لا لنقلده، بل لنتخيله وننفعل به، ونتمثل ما فيه من نماذج وشخصيات، ومن مشاعر وأحاسيس وحقائق وأوهام وغرائز نعرفها فى أنفسنا، كما نعرفها فى غيرنا، وبقدر ما يكون من صدق الكاتب وتمثله لشخصياته فى سرها وعلنها وانفرادها واجتماعها بقدر ما يكون من انفعاله هو بهذه الشخصيات وفهمه لها، ولما تواجهه وتعانيه وتحلم به وتخاف منه، يكون انفعالنا نحن بروايته وبالحياة، الحياة التى نعيشها مرتين، مرة فى الواقع، ومرة فى الأدب الذى يجسد لنا هذا الواقع. والأدب العربى وآداب العالم كلها حافلة بهذه الصور، وهذه الموضوعات وهذه الشخصيات التى نجدها فى روايات نجيب محفوظ، والمشكلة التى نواجهها فى هذه الأيام مع هذا السيد ومع آخرين كثيرين يشتغلون بالسياسة والدين والتشريع والقانون، تتمثل فى تصديهم لقضايا لا يعرفونها، وفى توليهم مسئوليات لا يستطيعون القيام بها، لأنها تحتاج لثقافة لم يحصلوها، مع أنها متوافرة متاحة للجميع. لو أن هؤلاء السادة الذين أرادوا أن يحاكموا نجيب محفوظ بتهمة خدش الحياء بعد أن حاكموا أحمد ناجى بهذه التهمة، قرأوا كتاب الدكتور رمسيس عوض عن محاكمة جيمس جويس بهذه التهمة، أو كتابه عن محاكمة د.ه. لورنس وهنرى ميلر بها فى انجلترا وأمريكا، لتعلموا شيئا من التحلى بسعة الصدر، وعرفوا الفرق بين من يخدشون الحياء بسلوكهم، ومن يصورون هؤلاء فى رواياتهم. د. ه. لورنس يحدثنا فى روايته «عشيق الليدى تشاترلي»، وهى بالمناسبة مترجمة للعربية، عن رجل مثقف أصيب فى الحرب إصابة أفقدته قدرته الجنسية، وقد حاولت زوجته بنت الأستاذ الجامعى أن تتحمل هذا الوضع القاسي، وأن تتعايش معه، وتقنع بما يستطيع زوجها العاجز أن يقدمه لها، لكنها لم تستطع فى النهاية وأسلمت جسدها الجائع للحارس الذى يخدم زوجها، وتعلقت به حتى تحولت المتعة العابرة إلى حب جارف انتهى بالليدى وعشيقها إلى الزواج. هذه الرواية التى رأى كاتبها أن يستخدم فيها اللغة التى يستخدمها الناس حين يرفعون الكلفة، ويلغون المسافة، اعتبرتها السلطات المسئولة فى انجلترا وأمريكا رواية خادشة للحياء، وصادرتها، فرفع الناشر قضية طالب فيها بإعادة النظر فى قرار المصادرة، والسماح بنشرها وبيعها وقراءتها، وقد نظرت القضية واستمعت المحكمة للنيابة، واستمعت للشهود الذين استدعتهم من الكتاب والنقاد والناشرين ورجال الدين، الذين دافع معظمهم عن الرواية، وأوضحوا للقضاة مغزاها الاجتماعي، وجوهرها الإنساني فحكم القضاة بتبرئة الرواية وسمحوا بنشرها. وللحديث بقية ... نجيب محفوظ.. ومحاولة أخرى لاغتياله! ◀ بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى قرأت ما نشرته بعض الصحف فى مصر وخارجها، عن نائب فى مجلس النواب أعلن أن روايات نجيب محفوظ تخدش الحياء، ولو أن كاتبها كان لايزال على قيد الحياة لوجبت محاكمته! قرأت هذا الخبر العجيب فلم أفهم شيئا مما جاء فيه، ليس لأن ما يقوله غامض أو غير صريح، ولكن لأنه غريب لايعقل ولايصدق، فضلا عما فيه من أسماء مجهولة لم أسمع بها من قبل!. النائب المحترم بطل القصة العجيبة اسم مجهول تماما بالنسبة لي، لا أعلم شيئا عن نضاله السياسى الذى أوصله للمجلس الموقر، وأهله لتمثيل المصريين فى أول برلمان ينتخب بعد ثورة يونيو، التى أسقط فيها المصريون حكم المرشد، وبددوا أحلام الإخوان الجهنمية، وقطعوا الطريق على ما حاكوه من مؤامرات، وأعدوه من خطط لإعادتنا وإعادة المنطقة كلها إلى العصور الوسطي، هل يكون هذا البرلمان المفترض أنه برلمان يونيو، أى برلمان الدولة المدنية والملايين التى دافعت عنها، والدستور الذى كفل لنا حرية الفكر والرأى والبحث العلمي، والإبداع الفنى والأدبي، هل يكون هذا البرلمان هو المكان الذى يتسع لصاحب هذه الفتوى وأمثاله، وهو الجهة التى يستند لها ويحتمى بها وهو يسدد طعناته لنجيب محفوظ، ولجميع المثقفين المصريين؟. وما الذى يعرفه هذا السيد السند عن نجيب محفوظ؟ هل قرأ رواياته؟ لا يبدو من حديثه أنه قرأها، ولا يمكن لأحد أن يصدق أن صاحب هذا الرأى فى نجيب محفوظ قد قرأ له شيئا، أو قرأ عنه شيئا، لأن الذى يقرأ لنجيب محفوظ مضطر لأن يتأدب وهو يتحدث عنه، فهو أمام رجل اكتمل له واكتمل به فن الرواية العربية، وانضم بفضله لتراث الرواية فى العالم كله، فنجيب محفوظ الآن فى كل اللغات. وقد رأيت أعماله معروضة على القراء فى مكتبات باريس، ولندن، وروما، ومدريد، واستوكهولم التى توج فيها بجائزة نوبل، وفى نيويورك، وهافانا، وبوجوتا، ونيودلهي، وبكين، إلى جانب أعمال فلوبير، وبلزاك، وديكنز، ودستوفيسكي، وجابرييل جارثيا ماركيز. نجيب محفوظ لم يعد مجرد كاتب فرد يستطيع كل من هب ودب أن يتطفل عليه، ويتحرش به، ويقول فيه ما يعن له صوابا كان أو خطأ، دون تردد أو احتياط، وإنما أصبح نجيب محفوظ وهو لايزال على قيد الحياة رمزا لمصر وثقافتها، ثم احتل بعد رحيله هذا المقام الرفيع الذى احتله فى تراثها الخالد. فإذا كان هذا السيد السند قد قرأ شيئا لنجيب محفوظ فوجده خادشا لحيائه، ألم يكن أفضل له وأعقل أن ينصرف عن نجيب محفوظ ويكف عن قراءته حتى لا يتعرض حياؤه لمن يخدشه، وحتى لا يدلى بشهادته فى قضية يجهلها ولا يعرف عنها ما يؤهله لأن يكون شاهدا فيها؟ فإذا كان ما قرأه فى روايات نجيب محفوظ أو سمع عنه قد شغله وأقض مضجعه إلى الحد الذى لم يعد قادرا على إخفاء رأيه فيه، فقد كان من واجبه أن يستشير النقاد والدارسين الذين يستطيعون أن ينبهوه للفرق بين قول أو فعل أو سلوك خادش للحياء، وعمل أدبى يصور هذا القول أو هذا الفعل، بين ما يقوله الكاتب فى روايته، وما تقوله الشخصيات التى يصورها ويلتزم بنقل ما يصدر عنها. نجيب محفوظ الذى كتب الثلاثية غير السيد أحمد عبدالجواد بطلها، فإذا كان نجيب محفوظ قد حدثنا عن هذا السيد فى بيته وخارج بيته، مع زوجته ومع خليلته، فى مكان عمله وفى مسرح لهوه، فنجيب محفوظ ينقل لنا الواقع ويصور ما فيه، لا لنقلده، بل لنتخيله وننفعل به، ونتمثل ما فيه من نماذج وشخصيات، ومن مشاعر وأحاسيس وحقائق وأوهام وغرائز نعرفها فى أنفسنا، كما نعرفها فى غيرنا، وبقدر ما يكون من صدق الكاتب وتمثله لشخصياته فى سرها وعلنها وانفرادها واجتماعها بقدر ما يكون من انفعاله هو بهذه الشخصيات وفهمه لها، ولما تواجهه وتعانيه وتحلم به وتخاف منه، يكون انفعالنا نحن بروايته وبالحياة، الحياة التى نعيشها مرتين، مرة فى الواقع، ومرة فى الأدب الذى يجسد لنا هذا الواقع. والأدب العربى وآداب العالم كلها حافلة بهذه الصور، وهذه الموضوعات وهذه الشخصيات التى نجدها فى روايات نجيب محفوظ، والمشكلة التى نواجهها فى هذه الأيام مع هذا السيد ومع آخرين كثيرين يشتغلون بالسياسة والدين والتشريع والقانون، تتمثل فى تصديهم لقضايا لا يعرفونها، وفى توليهم مسئوليات لا يستطيعون القيام بها، لأنها تحتاج لثقافة لم يحصلوها، مع أنها متوافرة متاحة للجميع. لو أن هؤلاء السادة الذين أرادوا أن يحاكموا نجيب محفوظ بتهمة خدش الحياء بعد أن حاكموا أحمد ناجى بهذه التهمة، قرأوا كتاب الدكتور رمسيس عوض عن محاكمة جيمس جويس بهذه التهمة، أو كتابه عن محاكمة د.ه. لورنس وهنرى ميلر بها فى انجلترا وأمريكا، لتعلموا شيئا من التحلى بسعة الصدر، وعرفوا الفرق بين من يخدشون الحياء بسلوكهم، ومن يصورون هؤلاء فى رواياتهم. د. ه. لورنس يحدثنا فى روايته «عشيق الليدى تشاترلي»، وهى بالمناسبة مترجمة للعربية، عن رجل مثقف أصيب فى الحرب إصابة أفقدته قدرته الجنسية، وقد حاولت زوجته بنت الأستاذ الجامعى أن تتحمل هذا الوضع القاسي، وأن تتعايش معه، وتقنع بما يستطيع زوجها العاجز أن يقدمه لها، لكنها لم تستطع فى النهاية وأسلمت جسدها الجائع للحارس الذى يخدم زوجها، وتعلقت به حتى تحولت المتعة العابرة إلى حب جارف انتهى بالليدى وعشيقها إلى الزواج. هذه الرواية التى رأى كاتبها أن يستخدم فيها اللغة التى يستخدمها الناس حين يرفعون الكلفة، ويلغون المسافة، اعتبرتها السلطات المسئولة فى انجلترا وأمريكا رواية خادشة للحياء، وصادرتها، فرفع الناشر قضية طالب فيها بإعادة النظر فى قرار المصادرة، والسماح بنشرها وبيعها وقراءتها، وقد نظرت القضية واستمعت المحكمة للنيابة، واستمعت للشهود الذين استدعتهم من الكتاب والنقاد والناشرين ورجال الدين، الذين دافع معظمهم عن الرواية، وأوضحوا للقضاة مغزاها الاجتماعي، وجوهرها الإنساني فحكم القضاة بتبرئة الرواية وسمحوا بنشرها. وللحديث بقية ... لمزيد من مقالات بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى