التقى حول مائدة صغيرة بجامعة برمنجهام باحثون من العالم العربي وبريطانيا للحوار حول نماذج التطرف، بدعوة مشتركة من مكتبة الإسكندرية، وجامعتي برمنجهام وكامبريدج. خلاصة هذا النقاش الممتع أن البحث المعمق حول ظاهرة «التطرف» لم يبدأ بعد، ولا زال المتابعة الإعلامية السريعة، والعبارات السيارة المستهلكة، والكلام الفضفاض هو السائد. ومما يلفت أن يُعقد الحوار في جامعة برمنجهام، التي بدأت رسالتها عام 1900، وقدمت نموذجا مهما في التعليم، ونُظر إليها على أنها أول جامعة في بريطانيا يلتحق بها الطلاب والطالبات من كل الأديان، والخلفيات الثقافية على قاعدة المساواة الكاملة بينهم. في برمنجهام استمعنا إلى كلام بحثي رصين لا نستمع إليه كثيرا من الباحثين الغربيين، ولاسيما الذين لهم ارتباطات بدوائر سياسية لها تحيزاتها. قدمت «كاترين براون» رؤية مهمة حول التطرف في «الدولة الإسلامية» المعروفة باسم داعش وتوقفت أمام عدد من الملاحظات المهمة. أولا مسألة التسمية ذاتها.هل مصطلح «الدولة الإسلامية» تعبير عن مفهوم «إسلامي» في تنظيم وإدارة الدولة أم هي مجرد تسمية لإنتاج صورة نمطية معينة، أو لإضفاء شرعية على جماعة سياسية وجدت في التطرف فرصة لكسب الانصار، والسيطرة على مساحة جغرافية؟مبعث السؤال أن البحث في خلفية الأوروبيين الذين انضموا إلى داعش يكشف عن كون العديد منهم لم يٌعرف عنهم الاهتمام بالدين من الأساس. ثانيا أن العنف الذي تمارسه «داعش» بأقصى درجات البشاعة، وتدرب أوروبيين على ممارسته على هذا النحو غير منبت الصلة عن البيئة التي نشأ فيها. هناك مستويات كثيرة للعنف تمارس في المنطقة العربية نتيجة فشل السياسات العامة، وعدم الإدارة السلمية للتعددية بين الجماعات والطوائف المختلفة، وأضاف إليها التطرف الديني مساحات غير مسبوقة من العنف والتدمير. وبالتالي فإن البحث في ظاهرة التطرف الديني يجب ألا يصرفنا عن النظر في العوامل الكامنة في البيئة العربية التي تشجع على ممارسة العنف على مستويات عدة. ثالثا إن النزوع شبه التلقائي نحو مصادرة التنوع، وتأكيد «اليقين» الدائم في كل شيء، واعتبار الحياة لونين: «أبيض» و«أسود»، يشكل في ذاته تشجيعا للتطرف ليس الديني فقط، ولكن أيضا السياسي والثقافي، والحل يكمن في تربية العقل العربي على ثقافة «النسبية» في النظر إلى الظواهر، والتخلص الشعور بوهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وإدراك أن الحياة بها ألوان عديدة، وليس فقط لونان أو فسطاطان ينبغي أن يُحشر المرء في أي منهما. باحثة أخرى متميزة هي «جوسلين سيزاري» اقتربت من سؤال مهم في إطار بحثها عن ظاهرة التطرف هو العلاقة بين الفرد المتطرف والتدين، وطرحت جملة من الأسئلة الأساسية: هل المتطرف متدين؟ هل هو منخرط في تفاعلات المجتمع؟ هل يمتلك عقلا مدنيا؟ وخلصت إلى أن الأعضاء في مجتمعات دينية، على اختلاف تنوعهم، يميلون بصفة عامة للانخراط في الحياة الاجتماعية، ولكن الشعور بالتقوى الزائدة قد يدفع الشخص إلى الانعزال، والانكفاء. وإذا اندمج الفرد اقتصاديا وثقافيا في المجتمع، وحصل على منافع مادية من جراء عضويته في المجتمع يصعب أن يرتمي في أحضان أية جماعة راديكالية سياسية أو دينية. والعكس صحيح، يزداد خطر الانخراط في التطرف في حالة الشعور بالتهميش الاقتصادي. من هنا فإن الباحثة تقترح على صانع السياسات العامة أن يحقق التوازن بين أن يكون الفرد أٌقل تدينا (مزاجه الديني معتدل)، وبين اندماجه في شئون المجتمع. محاولة أخرى قدمها باحث مهم هو «نيكولاس آدامز» تحدث فيها عن مستويات التحليل في النظر إلى التطرف، وهو ما يجعلنا أكثر قدرة على التخطيط الجيد لمواجهة هذه الظاهرة. وفي رأيه أن المجتمع البريطاني، وقياسا عليه يمكن أن ندرج مجتمعات أخرى، مولع بالتصنيف. في العهد الاقطاعي كان التصنيف بين أصحاب الأرض، والفلاحين، ثم مرحلة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية ساد تصنيف يستند إلى الحقوق المدنية والسياسية بين أصحاب البشرة البيضاء وأصحاب البشرة السمراء الذين يواجهون تمييزا، ثم عقب أحداث 11 سبتمبر ساد التصنيف حول الدين، ويلفت النظر إلى ملاحظة مهمة أن «دونالد ترامب» لم يطالب في حملته الانتخابية بحظر دخول العرب أو الباكستانيين إلى الولاياتالمتحدة بل تحدث عن «المسلمين» مستندا إلى التصنيف الديني. وأضاف أن تحديد مستويات التحليل لظاهرة التطرف مسألة مهمة، ما بين مستوى «الأفكار»، في الحديث عن المعتقدات واتجاهات التفكير، وبين مستوى أخر هو مستوي السياسات، والحكومات، في هذا المستوي يثار حديث عن التعليم الديني، السياسات العامة، استراتيجيات مكافحة التطرف، الخ. أما المستوى الثالث فهو المحلي الذي يشهد ممارسة التدين بين الجمهور، وعادة ما تثار إشكاليات تتعلق بارتداء ملابس دينية أو إظهار رموز دينية في الحياة العامة، الحلال في الطعام، التفاعل الاجتماعي بين المختلفين في المعتقد الديني، وهكذا. في كل من هذه المستويات يلزم ممارسة التفكير النقدي حتى يمكن وضع دراسات جادة حول ظاهرة التطرف. نقاشات كثيرة، نخلص منها إلى أن هناك المزيد ينبغي أن نبذله على طريق الدراسة العلمية الجادة للتطرف، وكالعادة فإن العقلية البحثية في المجتمعات المتقدمة أكاديميا تدرس ظواهر، نحن مسرح لها، أفضل مما نفعله نحن. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى ;