كان ألم أسنانى هذا الأسبوع موجعا. والسبب قديم قدم التاريخ الذى عشته منذ الطفولة ؛ السبب ببساطة هو الضغط على الأسنان حين تزدحم الحياة بما يتطلب احتمالا فوق العادة. وكان تعويم الجنيه هو النكد الذى غمر حياة الطبقة الوسطى وما دونها ؛ لكن الاحتمال مطلوب لأن القرار جاء من شخص أثق فى أن مجموع أيامه هو عطاء لفكرة استقلال هذا البلد. وهو من نشأ فى المؤسسة التى لم تعرف إلا العطاء منذ اعادة بنائها على يد الشهيد عبد المنعم رياض والفريق محمد فوزى بعد هزيمة يونيو 1967 ، مؤسسة أهدتنا من قبل صديق أحلامى منذعامى الثانى عشر المسمى جمال عبد الناصر . جاء قرار التعويم يحمل موافقة عبدالفتاح السيسى عليه لأن فيه بداية لرحلة خروج من ترهل صار موغلا فى حياتنا ، ترهل ضمائر سمحت وتاجرت فى بيع القطاع العام ؛ ثم احتراف اللهث وراء المعونة الأمريكية التى قال أحد وزراء خارجيتها جملة لا تغادر مخيلتى فقد قال كرستوفر ذات نهار « كل دولار نصدر به بضائع كمعونة لغيرنا ، هو سنارة تصطاد أربعة دولارات تأتينا فى ذيل هذا الدولار الذى أرسلنا به انتاجا أمريكيا كمعونة لغيرنا» ولكن تعويم الجنيه جعل فكى الأعلى يشارك فكى الأسفل فى ضغط كل منهما على الآخر، فأنا ابن حياة تتعامل بما تؤسسه الدولة من خدمات منذ ان عملت بالصحافة ، كان علاجى صحيا بمستشفيات المؤسسة العلاجية ، وقد أجريت عملية صعبة وشاقة ذات يوم قديم على يد سيد من سادة جراحة العظام هو الأستاذ الدكتور أحمس الحمامصي، وساعده فيها تلميذه الأثير أحمد زعفان ، وكان مقابل عمل الاثنين مصحوبا برعاية استمرت عاما كاملا ، كان الأجر ثمانية عشر جنيها فى سبتمبر 1969 ؛ وحين تقدم العمر ضجت شرايين القلب بالارهاق وتطلب الأمر تركيب دعامات دوائية ثلاث بمبلغ 42 ألف جنيه ولأن العمر كان فوق سن المعاش ، ولأن من قام باجراء تركيب الدعامات هو الأستاذ الدكتور شريف مختار؛ فلم تكن هناك أى مكافأة له مقابل ذلك الا مودة صديق يرتبط بمحبة أسرة له، وتكلفت مؤسسة الأهرام بتحمل مبلغ عشرين ألف جنيه كتقدير منها لكاتب ضيف على صفحاتها ودفعت روز اليوسف عشرة آلاف جنيه وتحملت أنا مبلغ اثنى عشر ألفا. طبعا لاداعى للسؤال عن التأمين الصحى الذى طالبنى بأوراق ومستندات لا قبل لى باستخراجها. علما بأن تركيب ثلاث دعامات فى أى مستشفى خارجى كان يحتاج الى ما يربو على مائتى ألف جنيه . لذلك عندما جاء تعويم الجنيه احسست بأن هناك قوة جبارة تلقى العديد من المصريين فى أمواج محيط عارم صارم تفوق أمواجه غير المرئية ما تفعله الأمواج بقوارب الهجرة غير الشرعية فى البحر المتوسط . طبعا لم أعد أتساءل عن ثروات رجال الأعمال فى عصر مبارك والتى قيل إنها استنزفت من دمنا ما يساوى مليارات الدولارات من نهب وتجارة أراضى وغير ذلك فى سنوات مبارك الثلاثين التى ورثت منهج جلوس عثمان أحمد عثمان بجانب الرئيس السادات فصار هناك انفتاح يغلق مصانع بناها المصريون ليجرى تجميدها بقيادات مهمتها عرقلة نموها ودفعها الى التوقف ليأتى عاطف عبيد كرئيس حكومة فى عهد مبارك ويعرضها للبيع بعد تجميدها الى حد مهين . وهو صاحب أول تخفيض لقيمة الجنيه، وطبعا بعد نمو وانتشار ميكروب التأسلم فى عهد السادات وكيف ترعرع فى عهد مبارك من أجادوا تزييف فكرة الايمان ، ليحولوها الى مغناطيس غير مرئى يشد عموم المصريين من شعر اى منهم ويطوحه يمينا ويسارا وليبيعوا لنا الوهم الأردوغانى بأمبراطورية تدعى الإسلام ويذهب خيرها لحلف الأطلنطى وليس منا من لا يتذكر قول مرشد التأسلم «طظ فى مصر » ثم استولى أعداء اٌلايمان بفكرة الوطن على الحكم بعد سرقة ثورة الشباب فى الخامس والعشرين من يناير لتمر أسابيع ويكتشف عموم المصريين أن ادعاء التأسلم هو قناع لبدء احتلال مصر لقوى خارجها ، احتلال منخفض التكاليف لكل من تركيا كوكيل أعمال استعمارى وتابعتها قطر. قطر التى لا أنسى أبدا مارواه لى صديق شبابى الكاتب محمود السعدنى حين روى ما جرى عام 1970 وكيف دبر أحد أفراد الأسرة الحاكمة هناك انقلابا ضد الشيخ الذى كان يحكمها ، فطلب الشيخ الحاكم مقابل التنازل عن الحكم أن يمنحه الحاكم الجديد توكيل احدى شركات المياه الغازية مع توكيل السجائر الفرجينية . وكان ذلك قبل اكتشاف الغاز بدويلة قطر. ولن أنسى أن دويلة قطر وضعت وديعة فى البنك المركزى المصرى بفائدة تفوق أى فائدة وكأنها تلعب حتى مع عملائها لعبة شيلوخ فى مسرحية تاجر البندقية. وما إن تحركت جموع المصريين تطلب من الجيش أن يخلع مندوبى الاحتلال منخفض التكاليف عن حكم مصر حتى طالبت قطر بوديعتها فأخذتها غير مأسوف على خروجها من السوق المصري. وتمر أيامنا صعبة ، لتأتى ضرورة الصدق مع الواقع فجاء تخفيض الجنيه ، مصحوبا بثقة لا حد لها فى أن المشاريع الكبيرة التى بدأ العمل بها سوف تقوم بتغيير وجه الحياة على أرض المحروسة. ولأن التماسك كان عنوان قيادتنا خصوصا فى الجيش؛ لذلك كان لابد من ان يتحرك الفأر الاعلامى المسمى قناة الجزيرة محاولا قرقضة حبال الثقة التى تربط الجيش بعموم المصريين. طبعا سوف تتساقط أسنان الفأر الاعلامي. ولن نلتفت الى ما يقال عنه «محاولات صلح» بين المتأسلمين وعموم المصريين، فليس الأمر خلافا بين جيش وفئة من السياسيين، ولكنه فجوة بين ايمان بضرورة الاستقلال الوطنى دون تفريط أو تبعية . وكان ذلك هو الشرط الأول لصعود عبد الفتاح السيسى لمكانة قيادة هذه البقعة المطهرة من ارض المعمورة ؛ فهذه البقعة ينطبق عليها قول الأبنودى «أول نور فى الدنيا شق ظلام الليل». فنحن أهدينا البشرية فكرة الإيمان بالله وبالبعث وبالحساب ولم يكن بيننا مرشد يدعى أنه وريث الخلفاء الراشدين . طبعا يستمر القلق الشخصى حالما بأن يتسع الدخل لما نحتاجه من مصاريف ، ويتسبب ذلك فى مزيد من ضغط كل من الفكين على بعضهما. وهو ما تسبب فى ذوبان كثير من طاقة الأسنان والضروس ؛ فأضحك لنفسى متذكرا اول ضغط مؤلم للفكين وقت ان كان العمر ستة أعوام ، وأظن أن التاريخ كان شتاء 1946 حين خرجت الاسكندرية كلها تطلب طرد الانجليز وكنت مع والدتى عند طبيب الأسنان ونزلنا من عيادته لنجد فوهات البنادق الانجليزية وهى مصوبة الى جموع متظاهرة ضد الاحتلال فى شارع نبى الله دانيال السكندرى ؛ وكانت أمى تمسك بيدى لنجرى حماية أنفسنا كى نختبئ فى مدخل عمارة كبيرة ، وانتبهت الى أنى أزوم راغبا فى الصراخ لكنى عاجز عن الصراخ «فقد انطبق فكى الأعلى على فكى الأسفل دون قدرة على خروج الصرخات من فرط الألم ، فعدنا الى عيادة طبيب الأسنان ليوخز ابرة مسكنة فخرج صوتى صارخا » ياأولاد ال» ولأنطق سبابا بكلمات لم أكن أجرؤ على النطق بها فى حضرة والدتى . وها أنا أردد الكلمة فى خيالى واصفا كل من يقف ضد أمن أو آمان هذا البلد، متمنيا أن يقوم جهاز الخدمة الوطنية بادارة شركات القطاع العام لتعود الى انتاجها بعيدا عن ادمان الترهل الذى عاشته من لحظة الانفتاح «السداح مداح» الى لحظة كتابة هذه السطور ؛ لعل ضغط الفكين على بعضهما يخف قليلا. لمزيد من مقالات ◀ منير عامر