تعلمت منذ هزيمة يونيو 1967 أن أسحق أصابع الاكتئاب عندما تلتف حول رقبتى بأنباء مؤلمة. وتمسكت بحلم غريب أطلقه الراحل الجميل يوسف ادريس حين تخيل أننا عموم سكان المحروسة علينا أن نجتمع صفوفا صفوفا على ضفة القناة لنضحك بصوت عال ، وهنا سيتيقن الاسرائيليون أن المصريين غير قابلين للانكسار . ولم أكن أعلم أن تلك الفانتازيا تتطابق مع فن قتالى يابانى اسمه الأى كيدو ، حيث تقابل خصمك لا بأن تتصادم معه ، ولكن أن تفسد عليه محاولته لهزيمتك ، هنا يمكنك أن تصرعه بقوتك مضافا اليها ارتداد قوته الى قلبه كطاقة غيظ ، لأنه لم يكسر معنوياتك .. وأثناء المتابعة اليومية لما كان يجرى على ضفتى القناة بعد 1967 كنت مثل عموم المصريين نملك حلما وعزما على ألا نستسلم للهزيمة ، وكلما ارتفعت روح شهيد كلما كانت دماؤه تعاقدا جديدا على حتمية الانتصار . وحدث ما لم أكن أتوقعه ، حين دخل مكتبى بروز اليوسف ثلاثة مندوبين من القوات المسلحة ليبلغونى خبر صعود روح الطيار عماد ذوالفقار شقيق زوجتى الوحيد الى السماء بعد سقوط طائرته أثناء التدريب . ولم يجدوا سواى ليحمل هذا الخبر للعائلة ، فوالد الشهيد كان نزيل المستشفى للعلاج ، ووالدته تجلس وحيدة فى منزلها بشبرا . ولم أجد مفرا من أن أخبرها بنبأ افتقاد ابنها الوحيد . فأطلقت صرخة لم تغادر أذنى كهاجس مؤلم؛ ثم تحولت الصرخة الى ذكرى بعد بيان عبور المقاتلين لخط بارليف فى السادس من أكتوبر 1973 التى كان جوهر النصر فيها بسبب التدريب مع الايمان بأن النصر حق لمن يعمل. لكن ما حدث بعد النصر كان غريبا فلم يكن هناك شيطان يمكن أن يزين لأى كائن مصرى أنه سيوجد من بيننا من سيستخدم الدين قفازا يخدم به مصالح الخصوم ، وتزامن ذلك مع مجئ انفتاح غير مسئول تنازل فيه القطاع العام عن قرابة الأربعة آلاف توكيل للشركات الأوروبية والأمريكية ليولد لنا أربعة آلاف مليونير ؛ بعضهم صار من سدنة الرضوخ لأطماع الغرب فى الاستحواذ على قيادة مصر واعادتها الى مربع الدولة الغارقة فى الاستهلاك غير المتجه لما تحتاجه. جاء وحش الانفتاح الناعم ليلتهم حلم تصنيع السلاح الذى تحتاجه العروبة بل لنستورد ما يقال عنه حضارة استيراد تسليم المفتاح ، وهبط الترهل كثيفا على الأرض العربية ، وليتشرذم الحلم العربى قطعا متناثرة بين أيدى قادة لم يلتفتوا الى أهمية التآزر لبنيان ما حلم به أمين جامعة الدول العربية الأسبق محمود رياض عندما كتب فى الأهرام عام 1974راجيا القادة العرب ألا يقبلوا الدولارات وحدها كثمن للبترول ، بل عليهم استبدال البترول بالتعليم والانتاج بالتكامل الصناعى والزراعي، فما فائدة أن نستورد من الغرب معظم ما نحتاجه فى يومنا ، ثم يكون الرضوخ العاجز عن انتاج ما ندافع به عن أنفسنا . ولمعت فى أعين بعض من قادة العرب جسارة غباء قاتل ، موجزه الحلم فى ميراث دور مصر القائد ، لكن بقى عدد قليل من القادة يعلمون أن قيادة العمل العربى هى نسيج مشترك بين انتاج ما يحمى ، وزراعة ما يطعم ، وتأهيل من يجهل ليكون صاحب دور ومكانة ، وكانت السعودية والأمارات أبرز الأمثلة على هذا الفهم، ولذلك سقط صدام حسين من حالق الغرور ليجرى القبض عليه فى بئر تحت الأرض ، وليلحق به معمر القذافى مسحولا بعد سحبه من ماسورة مجارى ضخمة . وعندما سبح المجتمع المصرى فى فيضان الانفتاح الراضخ لدوامات التبعية للغرب اقتصاديا ، تاه السادات ثم مبارك عما يجرى فى قاع المجتمع من تجويع وتجريف للثروة ، وأرتدى الغرب قفازا من جماعات التأسلم ليقوموا بتزوير الدين للعامة ، فسبح خيال المتعطلين مع الحور العين وأنهار خمور الجنة ، ولم يخبرهم أحد بحقيقة أساسية فى الايمان بأن الطريق الى الجنة يبدأ من تعمير الأرض مع ضمان توزيع خيراتها علما وعملا على عموم أبنائها . وهكذا استيقظ الاستعمار من جديد بعد أن كان قد حمل عصاه ورحل عن مصر عام 1956 ثم عن عموم بلدان العرب ، عاد من جديد بوجوه تحترف تزييف الدين ، وكانت جماعات المتأسلمين هى سند احتلال منخفض التكاليف؛ بعد أن تم تأهيلهم فى مدارس مخابرات الغرب . وحين ضج الشباب معبرا عن حلمه فى أوطان مستقلة رأينا الشاب التونسى الذى أحرق نفسه فى تونس ، لتتلوه صرخات عموم المصريين رافعين شعار الحرية والكرامة والعدل ، وموهت جماعة المتأسلمين ملامحها لتسرق الثورة وبدأت رحلتها فى تبديد مستقبل الوطن بمن عليه ليكون تابعا لوهم الخلافة التى لم ينص عليها دين ، ولكن أعادت تركيا الحلم بها بعد أن وقفت على باب أوروبا تطلب اللحاق بها دون جدوى . وكان الهدف هو كسر ارادة العرب من المحيط الى الخليج ليكونوا مجرد سكان لا أصحاب أوطان ، فكان انقاذ ثورة الخامس والعشرين من يناير بتجديدها فى الثلاثين من يونيو باضافة الاستقلال الوطنى الى قائمة أهداف الثورة . ولم يهدأ من استخدمهم الاستعمار الجديد فبدأوا محاولات اغراق الأرض المصرية فى دماء أبنائها ، فشاهدنا _ على سبيل المثال لا الحصر _استشهاد الضابط أبو شقرة الذى كان يعلم شفرة الارهاب وليلحق به الضابط مبروك الذى علم بالدليل أن المعزول مرسى لم يكن سوى جاسوس تخفى بعباءة الدين ، وأن اسرائيل التى زرعت حماس _ باعتراف اسحق رابين رئيس وزراء اسرائيل الأسبق _ هى التى تضع شعار ما يسمى بالصحوات الاسلامية ، ثم تقدم جليل الخدمات لمقاولين جدد هم حكام قطر ، وليقدمهم هؤلاء الحكام كسدنة للاحتلال المنخفض التكاليف. ولم يكن الشهداء الثلاثون فى العريش سوى زفرة تنبيه لعموم المصريين ولعالمنا العربى كى يفيق من التخدير بأن المتأسلمين يبحثون عن كرامة أحد ، ولا يشغلهم فى كثير أو قليل صيحات الكرامة الانسانية أو العدل أو الاستقلال الوطني. ويبقى لمن أثرى على حساب عموم المصريين أن ينتبه لما يطلبه منهم تاريخ تحرر الأوطان ، ألا وهو الاسهام فى التنمية مصر، ففضيلة الانتماء للتراب الوطنى تضمن لهم مستقبلا ثريا وكريما على هذه الأرض ، والا فليسألوا التاريخ عن حادثين كبيرين أولهما مذبحة القلعة التى أقامها محمد على للمماليك الذين رفضوا مساندته فى تنمية مصر ، والحادث الثانى هو اجراءات التأميم التى طبقها جمال عبد الناصر عام 1961 بعد سنوات أشعل فيها أصابعه كى يقنع أهل الثروة أن يكونوا مستثمرين كبارا ، فلم ينتبهوا . وأنا لا أذكر بهذين الحادثين فى محاولة لتخويف أحد ، ولكنه مجرد تذكير بأن مكر التاريخ لا يسمح بتكرار طرق تطبيق أحلام الشعوب كما سبق من قبل ، ذلك ان مكر التاريخ يهب الشعوب طاقات منوعة تحقق بها الشعارات التى صاغت أحلامها . لمزيد من مقالات منير عامر