غدا هو الثالث من يوليو الذى يمكن اعتباره عيد ميلاد يوم جديد من أيام الصدق مع النفس ، فهو يوم استمرت فيه رحلة الضمير المصرى لاسترداد أحلامه ممن شاءوا أن يجعلوها مجرد أوهام يتم عرضها فى سوق النخاسة المعاصر. وتواصلت رحلتنا لاسترداد وطننا بمساندة من القوات المسلحة ، ليظهر على أرض الواقع تجسيد جديد لزعامة تم تأليفها من الضمير المصرى، وأعنى بها زعامة عبد الفتاح السيسى الذى تحرك ليقول لزحف التخلف والتجارة بالدين «ليس لك مكان فى قيادة مصر» . أكتب ذلك وأنا أعلم أنه من الصعب إعتبار أى كلمة من كلماتى نفاقا، بحكم الخمسة وسبعين عاما التى قضيتها على سطح الدنيا . وحين أنظر إلى التاريخ المعاصر سأجد جمال عبد الناصر وهو منحوت من الضمير المصرى ، وتركزت فى وجدانه وخطواته السياسية رؤية للمنطقة العربية والإسلامية والإفريقية ، واستطاع عبر تأسيس الواقع الثورى أن تمتد صيحاته لتسهم فى تحرير الجزائر وقلب إفريقيا ثم تعبر المحيط الهندى ليشارك فى تأسيس عدم الانحياز ، وتعبر دعوته المحيط الأطلنطى ليصل إلى قلب أمريكا اللاتينية . وأسست خطوات هذا الزعيم مبدأ الصوم عن الكذب السياسى ، بل عندما جاءته الهزيمة فى عقر داره فى الخامس من يونيو 1967 كان الأمين مع شعبه بقرار التنحى ، وعندما ذابت صحته فى تصحيح الأوضاع الخاطئة عبر إعادة بناء القوات المسلحة ، ومد الجسور بين الفرقاء المنتمين إلى الخريطة العربية ، عند ذلك صعدت روحه إلى خالقها ليأتى السادات قابلا لتحجيم ما شاءته إرادة المصريين منذ الثالث والعشرين من يوليو 1952 ، واستطاع الجيش المصرى أن يحقق معجزة كونية جديدة بانتصار أكتوبر ، ولأن كلا من المعسكر الشرقى بقيادة موسكو وأنور السادات قد تنافرا بشكل ظاهر ، لذلك عاد الحلم الأمريكى بأقدام هنرى كيسنجر ، راغبا فى تحويل أفكاره التى سبق وبشر بها منذ 1957 كما كشفت لنا دراسات أستاذنا الكاتب الجميل الراحل كامل زهيرى ، وهى دراسات مكتوبة ومنشورة فى روز اليوسف منذ عام 1957 ، وأعيد إصدارها عبر الهيئة العامة للكتاب. وتلخصت أفكار كيسنجر بأن تكون المنطقة العربية هى مجموعة من دويلات الطوائف ، وتكون البداية تقزيم مصر . وهو التقزيم الذى لم يستطع السادات مقاومته ، خصوصا مع تكاثر الراغبين فى القفز على موقع قيادة الأمة العربية ، بدءا من صدام حسين ، ومرورا بخافظ الأسد ونهاية لمعمر القذافى ، وكلهم لم ينتبهوا أن جمال عبد الناصر لم يكن سوى زعيم من تأليف الشعب المصرى الذى لا يطلب ولا يرجو سيادة على آخرين ، ولم ينتبهوا إلى قول الراحل الكريم فيصل بن عبد العزيز آل سعود حين وصله نبأ رحيل عبد الناصر ، قال الجليل فيصل « رحم الله الرجل ، فقد أعطى هذه الأمة فكرة عن إمكاناتها «. وكان إكتشاف إمكانات العروبة إبنة تصميم مصرى لا على سيادة على الأقران والأخوة والجيران ولكن بناء قوة عربية مؤثرة ، لم ينجح أى من عبد الناصر أو السادات فى بنائها ، لأن الظروف لم تكن مواتية ، فضلا عن أن الغرب كان يموه حلمه بتحويل المنطقة العربية إلى دويلات الطوائف ، خصوصا بعد أن مدت أجهزة المخابرات الغربية جسور التواصل مع من ارتدوا مسوح التدين ، وهم فى الأصل أبناء المخابرات الإنجليزية ، وأعنى بهم جماعة الإخوان ، وهى الجماعة التى استبد بها شبق الشوق إلى السلطة دون ولاء لوطن أو صحيح عقيدة . ووقعنا فى بئر جمود مبارك الذى أتقن صناعة الفقر البشع فى ربوع مصر ، فضلا عن تقطيع التواصل مع أفريقيا والشعوب العربية، والرضوخ شبه الأعمى لما يأتيه من الغرب ، وكان كل ذلك كفيلا بأن يلد التاريخ يوم الخامس والعشرين من يناير كصرخة ترفض إستمرار الفقر والتبعية والقهر ، وإستطاعت جماعة المتأسلمين القفز على السلطة ، لكن أقدامهم غاصت فى رمال التجارة بالإستقلال الوطنى ، مع التعالى على جموع المصريين ، بإدعاء أنهم اختيار ربانى ، فجاء الثلاثون من يونيو ليحكى للكون كله جدارة مصر فى تأليف زعيم جديد رأى رأى العين أن الشعب هو القائد ، وأن الجموع هى التى أصدرت أمرها للقوات المسلحة أن تعيد الثورة إلى بداياتها فى الخامس والعشرين من يناير دون تسلل المخادعين أبناء أجهزة التجسس إلى واجهة الصدارة . وإذا كان الغرب بمراوغته قد عجز عن قراءة حركة المصريين ، فقد انزعج تماما من رؤية الخليج العربى خصوصا فى السعودية والإمارت والكويت لما يريده هذا الغرب من تحويل المنطقة العربية إلى دويلات الطوائف ، لذلك كانت المساندة بغير حد لجموع المصريين تحت قيادتها الجديدة ، وهى بالتأكيد مساندة مشكورة . ولعل الغرب الآن يعيد قراءة الواقع ؛ فينتبه إلى أن إمبراطوريتين سابقتين تكسرت تيجانها على مذبح عدوانهم على مصر 1956 ، بل وكان طرد السوفييت من مصر فى أوائل السبعينيات هو مسمار أخير فى نعش أمبراطورية ثالثة ، هى إمبراطورية المعسكر الإشتراكى ، فهل تعمى الولاياتالمتحدة وفلاسفتها عن رؤية مصير عدم القدرة على قراءة أحلام الشعوب التى تجسدت بداياتها فى إستمرار الحشد الجماهيرى منذ الثلاثين من يونيو وحتى قرأ عبد الفتاح السيسى بيان خريطة المستقبل ؟ لقد كان العام الماضى طويلا وشديد الوطأة فى بعض الأوقات ، ولكن من قال أن طريق بناء المستقبل مفروش بالورود . لمزيد من مقالات منير عامر