ليس صحيحا أن دونالد ترامب كسب معركة الرئاسة الأمريكية، إنه لم يخضها بعد، لأن معركته الحقيقية ستبدأ يوم يدخل البيت الأبيض فى يناير المقبل، فعندئذ سيواجه معضلة صنعها بنفسه وسيصعب عليه حلها، تلك هى استحالة التوفيق من ناحية بين ما وعد به الأمريكيين من التصدى للمؤسسة السياسية المسيطرة على الحكم فى البلاد، ومن ناحية أخرى إعلانه الانحياز الكامل لإسرائيل الى حد الاعتراف بالقدسالمحتلة «عاصمة أبدية للدولة اليهودية». فالمؤسسات المسيطرة على الحياة السياسية فى الولاياتالمتحدة والمتمثلة فى أجهزة الدولة العميقة والمؤسسات المالية والإعلامية الداعمة لها، انما يتحكم فيها ويوجهها اللوبى اليهودى الذى يعلن ترامب انحيازه له، فكيف سيتصدى لهذه المؤسسات بينما فى القلب منها جميعا الجماعات المعبرة عن المصالح الإسرائيلية والتى تعمل منذ سنين على تسخيرها لخدمة المصالح الإسرائيلية.لقد أكد ترامب منذ بداية ترشحه للرئاسة أنه لا يخوض حملة انتخابية، وانما يقود «حركة» جديدة فى المجتمع الأمريكى ترفض سيطرة المؤسسات السياسية الرسمية المسماة The Political Establishment على حياة الناس، وأن هذه الحركة تهدف الى تمكين المواطنين الأمريكيين العاديين الذين لم يعد أحد يلتفت لرغباتهم، وتحريرهم من سطوة هذه المؤسسات، التى - على حد قول ترامب فى أكثر من مناسبة - «لا تخدم إلا مصالحها الشخصية»، وقد اتهم ترامب المؤسسات السياسية - التى كان يرى هيلارى كلينتون الممثل الأمثل لها - بالفساد وبالفشل فى تحقيق مطالب الجماهير، وقال إنه سيسعى لاستبدال هذه المؤسسة الفاسدة بحكومة جديدة يتحكم فيها الشعب الأمريكي، وهو يقول إن رئاسته الولاياتالمتحدة ليست مجرد فترة رئاسية جديدة، وانما هى «نقطة فارقة فى تاريخنا، ستحدد ما اذا كان لهذا الشعب أن يتحكم فى حكومته»، كما قال: «إن هذه الانتخابات ستحدد ما إذا كنا أمة حرة حقا، أم أن لدينا مسمى الديمقراطية فقط، فى الوقت الذى تتحكم فى حياتنا مؤسسات عملاقة توجه السياسة لما يخدم مصالحها وحدها وليس مصالح الشعب.. هذه هى الحقيقة وانتم تعلمونها وأنا أعلمها وهم يعلمونها والعالم أجمع يعلمها». ولم يفلت الإعلام الأمريكى من هجوم ترامب باعتباره إحدى المؤسسات الداعمة للمؤسسة السياسية الحاكمة، حيث قال للجماهير صراحة إن «الإعلام الأمريكى لم يعد يعمل وفق الاعتبارات الصحفية، وانما هو يعمل تنفيذا لأهداف سياسية، وأن له أجندة سياسية واضحة، وهذه الأجندة لا تخدم مصالحكم وإنما تخدم مصالحهم هم، ولخدمة هذه المصالح فهم يكذبون ويكذبون ويكذبون». وأوضح ترامب أنه قد آن الأوان لتحرير البلاد من قبضة جميع تلك المؤسسات الفاسدة، وأن «الجماهير وحدها هى القادرة على أن تستعيد منهم بلادنا مرة أخري». إن هذا الخطاب لترامب هو سر شعبيته التى أهلته للفوز على منافسته الممثلة لهذه المؤسسات، وهذا الحديث ليس به جديد، فقد بُح صوت العرب وغير العرب فى التنبيه إليه والتحذير من خطورته، لكن كنا نتهم دائما بأننا أسرى للنظرة المتخلفة التى تفسر كل التطورات السياسية باعتبارها مؤامرة خفية، وقد وجدنا ترامب الآن يبنى حملته الانتخابية كلها على كشف هذه المؤامرة التى تحيكها مؤسسات الحكم الأمريكية، دون أن يتهمه أحد بالسقوط ضحية لنظرية المؤامرة، بل وجدناه يحصل على تأييد الجماهير التى وجدت فيه تعبيرا عما تعانى منه، وتحقيقا للثورة على تلك المؤامرة، وهو ما لم تجده فى أى من المرشحين السابقين. على أن مواجهة تلك الشبكة الأخطبوطية للمؤسسة السياسية الحاكمة فى أمريكا لا يمكن أن تتم بدون مواجهة اللوبى الصهيونى الذى يتحكم فيها، لكننا وجدنا ترامب يعلن على الملأ تبنيه الكامل للصالح الإسرائيلي، وتخطى كل الرؤساء الذين سبقوه فى اعترافه بالقدسالمحتلة باعتبارها «العاصمة الأبدية» لإسرائيل، والتى قال إنه سينقل اليها السفارة الأمريكية بمجرد توليه الحكم، دون أن يذكر طوال حملته الانتخابية كلمة واحدة عن ضرورة جلاء اسرائيل عن الأراضى العربية التى تحتلها دون وجه حق، وبالمخالفة لكل الأعراف الدولية، والتى من بينها القدس التى نص قرار التقسيم على تدويلها ولم يمنحها لإسرائيل، لكن إسرائيل احتلت قطاعها الغربى بالحرب عام 1948، واحتلت قطاعها الشرقى بالحرب أيضا عام 1967، فى الوقت الذى وعد ترامب بوقف ما سماه «قتل الفلسطينيين اليومى لليهود»، والذى قال إنه لن يسمح به، منتقدا وصف «الإرهابيين» - على حد قوله - بالشهداء، وطالب الفلسطينيين بوقف تعليم الحقد على اليهود وكراهيتهم فى المدارس والمساجد. من هنا فإن دونالد ترامب يوم يدخل البيت الأبيض وتبدأ الناس فى مطالبته بتنفيذ وعوده الانتخابية، سيجد نفسه فى مواجهة معضلة لا يمكن حلها، فإذا التزم بما قامت عليه حملته من التصدى للمؤسسات السياسية والمالية والإعلامية، فهو سيصطدم لا محالة بالجهات المسيطرة على هذه المؤسسات وهى جماعات الضغط اليهودية، التى كانت طوال الحملة الانتخابية داعمة لمنافسته فى الانتخابات هيلارى كلينتون، بمثل ما كانت بقية مؤسسات الدولة وفى مقدمتها مؤسسات إنتاج السلاح داعمة لها أيضا، واذا التزم بما أعلنه من التبنى الكامل للخطاب السياسى الإسرائيلي، فإنه لن يستطيع مواجهة هذه المؤسسات السياسية التى تخدم المصالح الإسرائيلية. تلك هى المعضلة السياسية التى وضع ترامب نفسه فيها، وهى المعركة الحقيقية التى سيواجهها من اليوم الأول لتوليه مقاليد الحكم فى واشنطن، والتى ستبدو المعركة الانتخابية الى جوارها أسهل بكثير، فمعركته هذه سيخرج منها مهزوما فى الحالتين، فإما أنه سيتنازل عن مواقفه الانتخابية السابقة التى تحدى فيها المؤسسة السياسية الحاكمة، وفى هذه الحالة سيكون فى نظر من انتخبوه مثله مثل بقية الرؤساء الذين خلفوه والذين حكموا من خلال تلك المؤسسة، أو أنه سيتصدى للمؤسسة السياسية ومن ورائها اللوبى اليهودي، وعندئذ فلن يبقى فى البيت الأبيض يوما واحدا، بل سيخرج إما مطرودا، وهناك من الوسائل القضائية فى النظام الأمريكى ما يسمح بذلك، أو ربما مقتولا، وهناك فى التاريخ الأمريكى ما يشير الى أن ذلك عادة ما يكون مصير الرئيس الذى يتحدى الأوضاع القائمة. لمزيد من مقالات محمد سلماوى