أقدمت الدولة وبجسارة على اتخاذ قرارات اقتصادية صعبة، أهمها: خفض قيمة الجنيه، وتقليص دعم الطاقة، فى مواجهة اختلالات جسيمة فى موازنة الدولة وميزان المدفوعات فرضت اصلاحا ماليا ونقديا، وهذه هى الضرورة التى ينبغى تفهمها. وقد أشاد صندوق النقد الدولى بالقرارات؛ فوافق على تقديم أولى دفعات قرضه الميسر لمصر، مع ربط بقية الدفعات- كعادته- بتقديره لمدى استمرارية التزام الدولة بمواصلة تنفيذ سياسات الاصلاح، بغض النظر عن الأعباء الاجتماعية الثقيلة لهذا الإصلاح على محدودى الدخل، وبغير ربط بينه وبين تسريع التنمية خاصة عبر التصنيع لتعظيم الإنتاج والإنتاجية، وهذه هى الفلسفة التى يتوجب تجنبها. وفى مقالات سابقة أوجزت ضرورات تصحيح الاختلالات المالية والنقدية، وسجلت أهم مؤشرات وأسباب الإخفاق الموروث فى التنمية والتصنيع الذى يفسر هذه الاختلالات، التى تمثل بدورها أهم أسباب الثورة المصرية، وأشرت إلى العواقب الاقتصادية والاجتماعية السلبية للثورة فى مصر كما فى كل مكان وإلى تفاقمها فى ظل إخفاقات فترة الانتقال، خاصة جراء عدم استيعاب معنى الثورة، وعدم ضبط خروج الأموال، والتخريب الاقتصادى لقوى الثورة المضادة فى الداخل، والضغوط الاقتصادية الخارجية لتركيع مصر. كما أشرت إلى مخاطر عدم مراعاة التناسب بين الاستثمار فى التطوير الضرورى للبنية الأساسية والتوسع العمراني، من جهة، والاستثمار فى تعظيم الإنتاج خاصة عبر التصنيع باعتباره الرافعة الأساسية لزيادة الإنتاج والإنتاجية والدخل والتوظيف والتصدير، من جهة ثانية. وأما عن فلسفة ونهج وغاية الإصلاح المالى والنقدى يفسر هذه الاختلالات- وهذا هو الأهم- فقد سجلت فى مقال سابق اعتراف رئيس البنك الدولى عقب الأزمة الآسيوية، يقول فى نقد ذاتى نادر: إن بلدانا اتبعت سياسات صارمة للإصلاح الاقتصادى على امتداد سنوات عديدة: يتعرض عمالها للطرد من وظائفهم، ويتوقف أطفالهم عن متابعة التعليم، وتتحطم آمالهم وأحلامهم. ويضيف أنه لن يتحقق أى استقرار سياسى إذا لم نحقق قدرا أكبر من العدالة الاجتماعية، ودون الاستقرار السياسى لن يحقق أى مبلغ من المال يتم جمعه الاستقرار المالى المنشود. وحين نصحح اختلالات الموازنة يجب أن ندرك أنه قد تضيع البرامج التى تبقى الأطفال فى المدارس، والبرامج التى تضمن الرعاية الصحية لأشد الناس فقرا، وأن مؤسسات الأعمال الصغيرة والمتوسطة، التى تحقق دخلا لأصحابها وفرص عمل للكثيرين، قد تنهار. وقد أعلن رئيس البنك الدولى باستقامة أنه يجب أن نوازن بين ضرورة الإصلاح الجذرى وحماية مصالح الفقراء، وبهذا فقط يكون الإصلاح قابلا للاستمرار ويدعمه المواطنون. إن فكرة أن التنمية تتطلب برنامجا اقتصاديا واجتماعيا متوازنا ليست فكرة ثورية، ومع ذلك فإنها لم تكن النهج الذى نسير عليه، ولم نفكر بدرجة كافية فى تمكين بلد معين من النمو فى إطار نوع الاقتصاد الذى يختاره شعبه وقيادته. ويمكن أن للدول أن تقيم اقتصاد السوق، وتنفذ عمليات الخصخصة، وتخفض الدعم الحكومي؛ وتجتذب رأس المال الخاص، وتحقق النمو.. إلخ. ورغم هذا، تكون التنمية معرضة للخطر ولا تدوم، إذا لم تحارب الدولة الفساد، ولم تحشد تأييد شعوبها، واذا همشت الفقراء. إن أزمة إنسانية صامتة تلوح فى الأفق، وقد تعلمنا أنه يجب أن يستشار الناس وأن يُشرَكوا، ويجب ألا نفرض التنمية بأمر يصدر من أعلى أو من الخارج. وليس جديدا أن أقول إن الإصلاح الاقتصادى ليس غاية فى ذاته، لكنه مجرد وسيلة لتحقيق التقدم الاقتصادى والاجتماعي، بتعظيم كفاءة تخصيص الموارد الوطنية، وتأمين عدالة توزيع الدخل القومي. ومن حيث وسائله، يتحقق الإصلاح الاقتصادى بسياسات وبرامج تستوجب المراجعة على الدوام، مادام أنه لا نهاية للتاريخ عند نموذج ما للتقدم، ولأن الحياة تولد بالضرورة تناقضات جديدة تهدد أو تخل بالتوازن الواجب بين الكفاءة والعدالة! ومن زاوية أهدافه، فان الاصلاح الاقتصادى عملية متواصلة، وهو ما نرى برهانه فى التجربة التاريخية والسياسية فى أكثر دول العالم تقدما! وقد صارت مهمة ملحة أمام جميع البلدان إعادة صياغة سياسات الإصلاح الاقتصادى بما يرتقى بالكفاءة الاقتصادية والتنمية الإنسانية والاقتصاد الحقيقي! وعن فلسفة الاصلاح أزعم أنه من بواعث القلق- دون ريب- أن وهم إعادة إنتاج النظام الاقتصادى الاجتماعي، الذى فجر ثورة 25 يناير، مازال مهيمنا على فكر ونهج قوى مهيمنة فى السلطة وعلى الثروة. وقد كتبت وأكرر أن مصر لن تشهد استقرارا وتقدما اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بغير إقامة نظام اقتصادى اجتماعى جديد. وبالتعلم الإيجابى من الخبرة التاريخية والثورة الشعبية فى مصر، وخبرة سقوط الأصولية الاشتراكية والرأسمالية فى العالم، قدمت- قبل وبعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو تصورى لنظام جديد يحقق كفاءة تخصيص الموارد وعدالة توزيع الدخل، وهما ركيزتا شرعية واستمرارية أى نظام اقتصادى اجتماعي. وأختم بما سجلته وشرحته مرارا، أقول: إنه دون إستراتيجية للتصنيع أى تبنى سياسات اقتصادية وصناعية تضمن أسبقية تنمية وتعميق وتنويع الصناعة التحويلية- لن تعزز مصر أمنها القومى بتملك القدرة الصناعية والتكنولوجية, ومن ثم القوة الاقتصادية والشاملة، اللازمة لحماية مصالحها وقيمها وتعزيز مكانتها ودورها. ولن يتمتع المصريون بأمنهم الإنساني، فيتحرروا من الحاجة والفاقة والخوف من المستقبل, إلا بفضل ما تتيحه عملية التصنيع من وظائف غير محدودة ومرتفعة الإنتاجية, تؤمن لهم عملا لائقا ودخلا عاليا وحياة كريمة مديدة بصحة جيدة. ولا جدال أن قدرات مصر الكامنة تسمح لها بإنجاز التصنيع وبلوغ ما تستحقه: أن تصبح دولة صناعية! لمزيد من مقالات د. طه عبدالعليم