المسكوت عنه في خطاب الليبرالية الاقتصادية د. طه عبدالعليم جديرة دون شك بحوار مجتمعي واسع دعوة الرئيس مبارك إلي مناقشة سبل تخفيف عبء الدعم علي موازنة الدولة. وفي بدء النقاش ينبغي إدراك أن الدعم ليس بدعة مصرية وإنما يقدم في أعتي البلدان الرأسمالية وأكثرها تقدما وثراء, كما هو حال دعم التعليم والصحة والاسكان والصناعة في الولاياتالمتحدةالأمريكية, استنادا الي ضرورات الأمن القومي, خاصة الأمن الاجتماعي والاقتصادي, كما تؤكد الوثائق الرسمية والدراسات الأكاديمية الأمريكية. لكنه يجب التسليم بأن مثل هذا الدعم هو الاستثناء, حيث يكمن أساس مجتمع الرفاهية والاستهلاك الأمريكي في ارتفاع مستويات الدخل والمعيشة بفضل ارتفاع مستوي انتاجية العمل, وهي الانتاجية التي تتحقق بفضل المستوي الراقي للتصنيع والتحديث التكنولوجي المتواصل وقيادة اقتصاد المعرفة والقدرة علي المنافسة في السوق العالمية وامتلاك كل عوامل رفع الانتاجية من نوعية المنتج وجودة التعليم وجدية التدريب والبحث والتطوير وكفاءة الإدارة.. إلخ. لكن أمر الدعم يختلف في حالة مصر, حيث يقدم من لا يملك( الموارد) دعما يذهب الكثير منه إلي من لايستحق( المساعدة), بالنظر إلي ضيق ذات اليد وعبء الدين العام الداخلي واستمرار الاعتماد علي المعونة الأجنبية, من جهة, وحيث نصيب الأسد من الدعم تستحوذ عليه صناعات تتمتع بأوضاع احتكارية( فردية أو أقلية) وتتهم بممارسات احتكارية ولا تخضع أسعار منتجاتها لقيود رادعة وتحقق أرباحا غير عادية! ولست بحاجة إلي عقد مقارنات بين مستويات الدخل ومحددات الانتاجية وانجازات التصنيع ومؤشرات التنافسية ونشاطات الخدمات في كل من مصر وغيرها من البلدان الصناعية الجديدة والصاعدة ولا أقول المتقدمة كي أصل إلي استنتاج أن جوهر مشكلة الفقر والدعم يكمن في الفرق بين استراتيجيات التنمية والتصنيع. ورغم واقع الوجود العالمي لليبرالية اقتصادية واجتماعية وسياسية منسجمة في الفكر والواقع, كما نري في أوروبا الغربية أساسا وحتي في الولاياتالمتحدة, فإن خطاب الليبرالية الاقتصادية المصرية, هو المهيمن مقارنة بخطاب الليبرالية الاجتماعية والليبرالية السياسية, بحكم موقف التيار الرئيسي للفئة العليا من الرأسمالية المصرية, واتجاه التيار الرئيسي في المجموعة الاقتصادية بالحكومة وفي أمانة سياسات الحزب الوطني الديمقراطي. وقد تمكن الرئيس مبارك بحكمته من جعل قضية العدالة الاجتماعية محور أعمال المؤتمر التاسع للحزب الوطني الديمقراطي. بيد أن الأوراق المقدمة من المؤتمر وإن ركزت علي طرح آليات محددة تكفل قدرا من إعادة توزيع الدخل لمصلحة الفئات والمناطق الفقيرة تعاني في تقديري من نقص خطير! وأشير باختصار الي المسكوت عنه في خطاب الليبرالية الاقتصادية في الحكومة والحزب والواقع أنه رغم الاهتمام بالتنمية الصناعية, وهو ماحققت الحكومة فيه إنجازا جديرا بالتنويه في العامين الأخيرين تؤكده مؤشرات الاستثمار والانتاج والتصدير, كما تبين تقارير المتابعة التي تصدرها وزارة التنمية الاقتصادية, استمر تجاهل طرح رؤية استراتيجية لتصنيع مصر في عصر اقتصاد المعرفة, رغم ما أفصحت عن ضروراته وبشفافية تامة التقارير ربع السنوية لوزارة التجارة والصناعة وإن توقف إصدارها المفيد دون سبب مفهوم! والأمر أنه علي التصنيع دون غيره يتوقف حجم الناتج القومي ومستوي الدخل الفردي ومستوي معيشة الأمة. وعبر التصنيع قبل غيره يمكن توفير تكاليف الارتقاء بنوعية التعليم وجودة الخدمة الصحية وتوفير الخدمات الجماهيرية وتحسين نوعية الحياة عموما.وبدون التصنيع تستحيل حماية أمن مصر القومي بمفهومه الواسع, مرتكزا إلي تعظيم القوة الشاملة للدولة, ومتضمنا كفالة الأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي والاستقرار الداخلي, وشاملا تقليص الانكشاف إزاء الضغوط الخارجية المحتملة وبوجه التقلبات في السوق العالمية للنفط أو غيره! وقد أشرت في مقال سابق إلي الخطوط العامة لورقة التفكير المهمة التي أعدها عرفان الحق لمؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية, عن السياسة الصناعية في ظل متغيرات العولمة, وأوجزت ما أوضحته الورقة من قيود تعوق تصميم وتنفيذ سياسة صناعية تستهدف تصنيع البلدان النامية, وهي سيطرة الليبرالية المحافظة الجديدة علي صنع السياسة الاقتصادية, والقواعد الجديدة التي تحكم التجارة الدولية, وهيمنة الشركات عابرة القومية علي سلاسل الانتاج وشبكات التسويق العالمية, وغيرها من جوانب العولمة الاقتصادية غير المنصفة! والأمر هنا أن مسألة السياسة الصناعية لا تثار فقط في سياق مجابهة إخفاقات السوق من منظور تلبية احتياجات التصنيع رغم أهمية هذا الحافز, وإنما يتوجب أن ترتكز إلي التطلعات المشروعة للتصنيع من جانب غالبية البلدان النامية التي تأخرت عن ركب التصنيع السابق لقيود العولمة. كما أشرت إلي تأكيد دراسة مهمة أصدرتها جامعة هارفارد الأمريكية أن تبني سياسة صناعية أمر معروف جيدا في شرق آسيا والصين والبرازيل, وأن هذه السياسة الصناعية الناجحة قد وضعت ونفذت بتدخل حاسم الأهمية للدولة في الإقتصاد! وأعود إلي ورقة مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية التي تبرز أنه عكس التصور الشائع المتولد عن الموجة الجديدة الراهنة لليبرالية المحافظة, فإن البلدان التي تتبني الليبرالية الاقتصادية تطبق سياسة صناعية ترتكز إلي تدخل الدولة, حين تتخذ إجراءات لتشجيع الصادرات أو جذب الاستثمار الأجنبي إلي قطاعات محددة. ولايزال هناك علي الأجندة السياسية في البلدان المذكورة طلب مؤثر علي حماية انتقائية لصناعات محددة في البلدان الصناعية بزعم أن استيراد منتجات العمل الرخيص مسئول عن البطالة وانخفاض الأجور! وتشكلت فرق عمل تستهدف التوصل إلي سياسات تعزز عملية التصنيع! وفي سياق مناقشة ماتضمنته مفاوضات منظمة التجارة العالمية حول ما هو مطروح علي البلدان النامية من خفض للتعريفات الجمركية علي السلع المصنعة, أعاد عدد من أبرز الاقتصاديين فتح باب المناقشة حول دور السياسة التجارية في تصنيع البلدان النامية, وطالبوها بالحذر في قبول خفض أكبر للرسوم الجمركية الصناعية في إطار جولة الدوحة, ولايزال بنك التنمية الآسيوي معنيا بوضع سياسات لدعم الصناعة! والأمر أن الحاجة إلي التصنيع والسياسة الصناعية اللازمة للتسريع بانجازه ترجع إلي حقيقة أنه سبيل رفع ارتفاع الانتاجية ومن ثم رفع مستويات المعيشة, وأن قدرة البلدان النامية علي مضاعفة الدخل ومكافحة الفقر تعتمد إلي حد بعيد علي ماذا تنتج وتبيع في السوق العالمية. وإذا استثنينا الاعتماد علي موارد النفط الناضبة, يتوقف النمو والعدل والأمن علي تغيير بنية الاقتصاد والصناعة, من النشاطات منخفضة الانتاجية إلي النشاطات مرتفعة الانتاجية, وبالذات من الصناعات بسيطة التقنية إلي الصناعات راقية التقنية. وقد تتحقق عملية التحول الهيكلي والتحسين التكنولوجي جزئيا بفعل قوي السوق, التي قد توفر حوافز حين يبحث المستثمرون عن فرص الربح, وأن عجزت عن تقديم مؤشرات ربحية مشروعات لم تتأسس بعد! ومثل هذه التنمية الصناعية العفوية تتم بمعدل لايتناسب مع تحديات التقدم والتقادم التكنولوجي, حيث لاتكفي المنافسة وحدها لدفع مشروعات الأعمال لأن تبتكر وتعزز الاستثمار اللازم لرفع الانتاجية, أي طوق الحياة في عصر العولمة! ولاشك أن التسليم باخفاقات السوق في مصر يفسر تبني سياسات الدعم وتمويل الدولة لخدمة التعليم والصحة وتطوير البنية الأساسية وبرامج تدريب العمالة والضمان الاجتماعي.. إلخ, إلا أن تدخل الدولة لدفع عجلة التصنيع ليس مطروحا بوضوح وقوة علي جدول الأعمال. وربما علينا التعلم من تجارب بلدان شرق آسيا للتصنيع الناجح عبر تدخل للدولة لم يتقيد بنظريات الليبرالية الاقتصادية المحافظة! ومن طرح قضية إعادة تصنيع أمريكا في تسعينيات القرن الماضي باعتباره ركيزة الأمن القومي. وللحديث بقية عن صحيفة الاهرام المصرية 18/11/2007