تمثلت أهم إخفاقات النظام قبل ثورة25 يناير في تخلف مصر عن ركب التصنيع. وكان إجهاض فرص التصنيع نتاج نظام اقتصادي واجتماعي جمع بين إخفاقات' اقتصاد الأوامر' و'السوق الحرة', من جهة, وتبني سياسات اقتصادية مناوئة للتصنيع فرضتها جماعات مصالح الفساد وإملاءات إدارة العولمة, من جهة أخري. واستمرار التصنيع فريضة غائبة عن رؤي وبرامج جميع الأحزاب السياسية بعد الثورة, سيكرس الأوضاع التي أشعلتها, وسيبقي أساس تهميش الذات, الذي جعل يد مصر هي السفلي بعد أن كانت العليا, تتلقي العون بدلا من أن تقدمه!! وفي استشراف فرص وقيود تصنيع مصر بعد ثورة25 يناير, ينبغي البدء بالتعلم الإيجابي من دروس تاريخ مصر الحديث, التي تبين لنا أن مشروعات تصنيع مصر الحديثة رغم ما حققته من انجازات رائدة بمقاييس زمنها ومقارنة بنقاط انطلاقها, أخفقت جميعها في استكمال مهام التصنيع; وفق المعايير العالمية في عصرها, ومقارنة بالتطلعات الوطنية في حينها. وأسجل أولا, أن مصر قد حققت انجازا تاريخيا للتصنيع, قبل كثير من البلدان المتقدمة حاليا, في زمن ولاية محمد علي. وقد ترتب علي سياسة الباب المفتوح, التي فرضها التدخل الأوروبي وكرسها الإحتلال البريطاني, وأد تلك المحاولة الرائدة للتصنيع الاقطاعي الحكومي في مصر. لكن الأهم كان تفضيل الأجانب المسيطرين علي رأس المال التجاري والربوي الاستفادة من فرص الريع الأعلي والآمن للاقراض الربوي والتجارة الخارجية, وتفضيل كبار ملاك الأرض الحائزين علي الثروة النقدية المتراكمة من انتاج وتصدير القطن للاستخدامات الاستهلاكية التبذيرية, مقارنة بالمخاطرة والربح الأقل للاستثمار في التصنيع, ثم حرمان الصناعات الحرفية من فرص تحقيق التراكم الرأسمالي في ظل احتكار الدولة وتحرير التجارة. وثانيا, أن مصر قد شهدت, قبل غالبية البلدان الصناعية الجديدة والصاعدة حاليا, مبادرة رائدة للتصنيع بفضل الدور التأسيسي لبنك مصر بقيادة طلعت حرب, والاستقلال النسبي للسياسة الاقتصادية والتجارية الذي انتزعته مصر بثورة.1919 وكان عاملا حاسما في وأد هذه المحاولة للتصنيع الرأسمالي الوطني هو النهب الاستعماري لمصر, واشتراط البنك الأهلي المصري- الإنجليزي ملكية وادارة- عزل طلعت حرب ووقف تأسيس الصناعات مقابل دعم بنك مصر لتجاوز أزمة سحب الودائع منه عشية الحرب العالمية الثانية. لكن الأهم كان تواطؤ الأسرة المالكة وغيرها من كبار ملاك الأرض في فرض قانون الدعم, ونقص التمويل وضيق السوق للصناعة بالاستهلاك التبذيري والإنحياز للإستيراد وإفقار المصريين, وتضارب مصالح الرأسمالية المصرية, التي نهضت بأدوار رجال الصناعة وملاك الأرض ووكلاء الأجانب!! وثالثا, أن مصر قد شهدت في عهد ثورة يوليو تحت قيادة عبد الناصر محاولة طموحة للتصنيع, وضعت مصر بين أكثر خمس دول تصنيعا في الجنوب. وتحقق هذا الانجاز بقيادة القطاع العام وتعاون الاتحاد السوفييتي السابق, بل وبالاستفادة من فرص التجارة والتمويل والاستثمار مع الغرب في ظروف الحرب الباردة. وقد تلقي مشروع التصنيع المستقل اشتراكي التوجه ضربة قاصمة مع عدوان وهزيمة يونيو.1967 لكن الأهم, أن التصنيع قد حرم من التراكم التاريخي لخبرة رواد التصنيع الرأسمالي الوطني بالتأميم الإشتراكي, بدلا من الإضافة الي الاستثمار الجديد الأوسع للقطاع العام الصناعي. كما تأخرت مصر عن التحول من التصنيع لاحلال الواردات في اقتصاد حمائي الي التصنيع في اقتصاد تنافسي. ودخل اقتصاد الأوامر مأزقا حادا بعد استنفاد قدرته علي تعبئة وتنمية الموارد. ورابعا, أن التصنيع لم يوضع علي جدول أعمال حكومات مصر منذ اعلان سياسة الانفتاح الاقتصادي في عهد السادات, وظل فريضة غائبة عن جدول أعمال النظام السابق. فقد رضخ النظام لإملاءات المنظمات الاقتصادية الدولية, التي إنطلقت من أيديولوجية السوق الحرة ومعاداة القطاع العام ونبذ سياسات حفز التصنيع. وأهدرت فرصة إستثنائية للتصنيع وفرها تقليص المديونية الخارجية والاصلاح المالي والنقدي والعائد الاقتصادي للسلام وتجديد البنية الأساسية وتأسيس المدن الصناعية. وحين تم تصنيف الاقتصاد المصري باعتباره صاعدا واعدا, صار التوريث مشروع النظام, وصار الإفساد ركيزة النظام! وحل السعي الأناني لتعظيم وتبديد وتهريب الثروة الفردية محل تعظيم ثروة الأمة بالاستثمار في التصنيع. ولمعرفة حجم تحدي تصنيع مصر بعد ثورة25 يناير, تبرز ضرورة التحليل المقارن بين إخفاقات تصنيع مصر وإنجازات تصنيع غيرها من البلدان الصناعية, الجديدة والصاعدة. وأكتفي بالمقارنة هنا بين مصر وكوريا الجنوبية, اللتين صنفتهما منظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية بين خمسة بلدان نامية; أعتبرت الأكثر تصنيعا في الجنوب في مطلع السبعينيات. لكنه بينما استمر ارتقاء تصنيع كوريا رافعه لإنجازها التنموي, أضحي تراجع تصنيع مصر سببا لمأزقها التنموي, وهو ما تكشفه فجوة مؤشرات التصنيع والتنمية البشرية في البلدين! وأرصد أولا, أنه بينما زادت القيمة المضافة للصناعة التحويلية في مصر علي مقابلها الكوري في بداية الستينيات, وتساوت القيمتان تقريبا في منتصف الستينيات, انخفضت في مصر لكنها مثلت نحو78% من نظيرها في كوريا في عام1970, ثم تدهورت الي8% فقط من مقابلها الكوري في عام1990! ونمت الصادرات الكورية, وهي من السلع المصنعة أساسا, بنحو35% في المتوسط سنويا أي نحو11 مثل معدل نمو اجمالي الصادرات السلعية المصرية, ومعظمها من السلع الأولية, بين عامي1960 و1993! وكانت قيمة صادرات مصر من السلع المصنعة أقل من6% من نظيرتها الكورية, في عام.2009 وبينما قفزت نسبة الصادرات المصنعة الكورية من السلع راقية التكنولوجيا الي33% لم تتعد نظيرتها المصرية1% في عام.2009 وكانت هذه الفجوة التكنولوجية نتاج تدني نسبة الإنفاق علي البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي في مصر الي أقل من8% من نظيره في كوريا بين عامي2000-.2005 وأخيرا, لندرك أن محاولات تصنيع مصر, رغم ما تعرضت له من إخفاقات, تؤكد ولا تنفي قدرتها علي أن تصبح دولة صناعية. ولنتذكر أن الزواج الحرام بين السلطة والثروة, الذي قاد الي تجريف وتبديد وتهريب ثروة الأمة المتاحة للتصنيع المهدر; كان حصاده المر هو تكريس تخلف وتبعية وتهميش مصر, وإفقار وإذلال وإغتراب غالبية المصريين. وبفضل التصنيع بمفهومه الواسع, أي بفضل تحديث وتعميق الصناعة التحويلية ونشر ثمار التحديث الصناعي التكنولوجي في بقية قطاعات الاقتصاد, سوف تصبح مصر مصدرا للسلع المصنعة ذات المحتوي المعرفي الأرقي والقيمة المضافة الأعلي, بل ومصدرا للمعرفة والتكنولوجيا والخدمات والغذاء والاستثمار! وسوف تعزز أمنها القومي بتعظيم قدراتها الشاملة اللازمة لحماية مصالحها وقيمها واستعادة مكانتها ودورها. وبفضل التصنيع يمكن للمصريين التمتع بأمنهم الإنساني, فيتحرروا من الحاجة والفاقة والخوف من المستقبل, بفضل ما يتيحه من وظائف غير محدودة ومرتفعة الإنتاجية; تؤمن عملا لائقا ودخلا عاليا وحياة كريمة مديدة بصحة جيدة. وبالتصنيع سيتمتع المصريون بعدالة توزيع الغني في بلد متقدم يتمتع بالثراء, بدلا من نيل عدالة توزيع الفقر في بلد متخلف! المزيد من مقالات د. طه عبد العليم