يكاد برنامج الحكومة للاصلاح الاقتصادى، مقصورا على مجابهة مخاطر انفلات عجز الموازنة العامة للدولة، وتضاعف أعباء خدمة الدين العام، وتفاقم عجز ميزان المدفوعات، وتدهور قيمة الجنيه. لكنه ليس بمقدور هذا البرنامج اقتلاع جذور الأزمة المالية والنقدية، لأن مضاعفة المديونية تكرس البقاء فى أسرها، ولأن عدم التناسب بين الاستثمار الانتاجى والاستثمار فى البنية الأساسية لا يعد بتعظيم الموارد. ولا يضيف بيع القطاع العام أصولا انتاجية أو فرص عمل، ولا يزيد الصادرات ولا يخفض الواردات؛ بل يحمل آثارا معاكسة. وأما خفض عجز الموازنة بتقليص الدعم- بدلا من مضاعفة الضرائب من استثمارات متنامية فيدفع ثمنه الفادح الفقراء ومحدودو الدخل وصغار ومتوسطو المستثمرين. وأكتفى هنا بايجاز الدروس المنسية للأزمة الآسيوية كما لخصها خطاب نقد ذاتى لرئيس البنك الدولى فى 6 أكتوبر 1998 تحت عنوان الأزمة الأخرى. وأسجل أولا، قوله انه كان مفروضا أن أقدم تقريرا عن انجازات البنك، غير أنه من غير اللائق أن أتحدث عن تنظيم البيت بينما القرية كلها تحترق!! والواقع أننا ننتبه الى أننا لا نملك كل الحلول، وكانت منطقة شرق آسيا تتهاوى لكن أحدا لم يتنبأ بدرجة هذا التردى، ثم حل عام من الاضطراب؛ فسقط 17 مليون اندونيسى فى وهدة الفقر مرة أخرى، وفى مختلف أنحاء المنطقة لن يعود مليون طفل الى مدارسهم مرة أخرى. واليوم تحيط بنا المعاناة الانسانية فى كل مكان, حيث يعيش 1.3 مليار انسان فى مختلف أنحاء العالم على أقل من دولار واحد يوميا، ولا يحصل 1.3 مليار انسان على مياه نظيفة، ولا يحصل 3 مليارات انسان على خدمات الصرف الصحى، ولا يحصل 2 مليار انسان على الكهرباء. وثانيا، أنه لن يتحقق أى استقرار سياسى اذا لم نحقق قدرا أكبر من الانصاف والعدالة الاجتماعية، وبدون الاستقرار السياسى لن يحقق أى مبلغ من المال، يتم جمعه برامج الاستقرار المالى المنشود لمواجهة الأزمة الراهنة. وقد تعلمنا أننا عندما نطلب من الحكومات اتخاذ الخطوات المؤلمة اللازمة لتنظيم أوضاع اقتصاداتها، فاننا نوجد قدرا هائلا من التوتر. إن الناس هم الذين يشعرون بالألم وليست الحكومات, ويجب أن ندرك- حين نصحح اختلالات الموازنة- أن البرامج التى تبقى الأطفال فى المدارس قد تضيع، وأن البرامج التى تضمن الرعاية الصحية لأشد الناس فقرا قد تضيع، وأن مؤسسات الأعمال الصغيرة والمتوسطة، التى تحقق دخلا لأصحابها وفرص عمل للكثيرين، قد تفقد الائتمان وتنهار. وتعلمنا أنه يجب أن نراعى الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية معا، وألا تهيمن الحسابات الرياضية على مصير البشر، وأن نوازن بين ضرورة الاصلاح الجذرى وحماية مصالح الفقراء، وبهذا فقط يمكن التوصل الى اصلاح اقتصادى قابل للاستمرار، ويلقى دعما من المواطنين. وثالثا، أنه فى بلدان اتبعت سياسات صارمة للاصلاح الاقتصادى على امتداد سنوات عديدة، يتعرض فيه عمالها للطرد من وظائفهم، ويتوقف فيه أطفالهم عن متابعة التعليم، وتتحطم فيه آمالهم وأحلامهم. إننا لا يمكن أن نغلق عيوننا عن حقيقة، أن الأزمة كشفت مواطن ضعف وعيوبا يجب علينا معالجتها بجسارة، وبواقعية. ولكن لا يسعنا أن نجتاز من جديد تجربة عقد ضائع كذلك الذى فقدته أمريكا اللاتينية عقب أزمة ديونها فى أوائل الثمانينيات؛ لأن أرواح العديد من البشر معرضة للخطر. وإن المشاكل بالغة الضخامة وعواقبها بالغة الأهمية، بحيث لا يمكن أن نسترشد بالحلول السريعة التى طبقت فى الماضى، أو الأيديولوجيات السائدة اليوم. واقترح نهجا يرتكز الى, أولا، الوقاية، بفهم أسباب الأزمة وانشاء بنى اقتصادية تقلل تكرارها وتخفض حدتها. وثانيا، التصدى، بوسائل تتسم بالكفاءة والانصاف، ولا تنزل هذا القدر من الألم بالعمال وأصحاب مؤسسات الأعمال الصغيرة . وثالثا، الأمان، بتوفير الحماية لمن سيتعرضون للبطالة المتزايدة خلال الفترة الطويلة، حتى يتم وضع وسائل التصدى. وفى لحظة الأزمة هذه ينبغى تقديم المساعدة للبلدان التى تعانى من الأزمة لدعم الاصلاح، ومساعدة البلدان التى تفتقر الى الموارد حتى لا تصبح بلدانا تعانى من الأزمة. وفى هذه اللحظة بالذات تعانى الأسواق العالمية من نقص الأموال؛ حيث تنسحب أموال القطاع الخاص من الأسواق الناشئة، وتقدم الدول الأكثر ثراء مساندة مباشرة ضئيلة. ويمكن أن تتحرك الدول نحو اقامة اقتصاد السوق، وتنفذ عمليات الخصخصة، وتخفض الدعم الحكومى؛ كما يمكن للدول أن تجتذب رأس المال الخاص وأن تحقق النمو.. الخ. ورغم هذا، فان التنمية يمكن أن تكون معرضة للخطر ولا تدوم، إذا لم تحارب الدولة الفساد، ولم تطبق نظاما جيدا للحكم وممارسة سلطة الادارة، ولم تحقق الاتفاق الاجتماعى والسياسى على الاصلاح. ورابعا، إن فكرة أن التنمية تتطلب برنامجا اقتصاديا واجتماعيا متوازنا ليست فكرة ثورية, ومع ذلك فانها لم تكن النهج الذى نسير عليه فى المجتمع الدولى. وكثيرا ما ركزنا أكثر من اللازم على الجوانب الاقتصادية بدون فهم كاف للأوضاع الاجتماعية والسياسية والبيئية والثقافية فى المجتمع. ولم نفكر بدرجة كافية فى تمكين بلد معين من النمو بطريقة متكاملة فى اطار نوع الاقتصاد، الذى يختاره شعبه وقيادته. ولم نفكر بدرجة كافية فى مواطن الضعف؛ أى أجزاء الاقتصاد التى يمكن أن تتسبب فى انهيار مكوناته، كما لم نفكر فى الاستمرارية، أى ماذا يلزم لجعل عملية التحول الاجتماعى والاقتصادى تدوم وتستمر. وقد تعلمنا من خبرتنا أنه يجب أن يستشار الناس ويجب ألا نفرض التنمية بأمر يصدر من أعلى أو من الخارج. إن أزمة إنسانية صامتة تلوح فى الأفق، ولو خصصنا مواردنا وفقا لذلك فبوسعنا أن نمنح أطفالنا عالما أكثر سلاما وانصافا، وينخفض فيه مستوى الفقر. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم