لا يمكن إنكار أن خطوات الإصلاح المالى والاقتصادى الأخيرة قد خرجت عن المألوف فى التعامل مع الشأن الداخلى وأصابت كبد الحقيقة فى المواجهة المباشرة مع أسباب التعثر فى سوق الصرف وفى الخلل فى الدين العام الداخلى بعد وصوله إلى أرقام قياسية. وقد كانت خطوة موافقة صندوق النقد الدولى على منح مصر قرضا ماليا بقيمة 12 مليار دولار شهادة لبرنامج الإصلاح الذى قدمته الحكومة المصرية دون تدخل من أطراف أخري، وهو ما يعكس قوة وقيمة تلك الخطوة من المؤسسة المالية الدولية التى تزن تلك الأشياء بموازين خاصة لا مجال فيها للمجاملات، فهى مؤسسة إقراض تمنح أموالا لضبط الأداء المالى فى دول كثيرة حول العالم وتتابع تنفيذ برامج الإصلاح لضمان الحصول على أمواله التى أقرضها. نعم، لم تكن تلك التجربة الأولى أو الوحيدة مع صندوق النقد، فقد سبقتها تجربة قبل سنوات لم تأت بالثمار المرجوة لأنها لم تدخل فى عمق أزمات الاقتصاد المحلى فى حينه فأداء الحكومة والبنك المركزى والجهاز المصرفى فى عملية تأهيل السوق للتعامل مع تحرير سعر صرف العملة جاء مطمئنا ومتميزا ومتوقعا بشكل جيد لنتائج عملية التعويم وآثاره على حركة العملة فى البيع والشراء فكانت النتيجة تراجعا متدرجا لسعر الدولار فى السوق المصرية. وتفاعل السوق مع الإجراءات الجديدة جاء خاليا من الارتباك والذعر المعتاد، وهو ما أسهم فى امتصاص صدمة الأيام الأولي. واحدة من النتائج الرائعة لما يجرى هو استعادة صانع القرار والمخططين فى الحكومة لزمام المبادرة وظهورهم أمام العالم الخارجى فى شكل من يعرف جيدا ما يفعل ونالوا بالتالى إشادات دولية عديدة من مؤسسات ودول ترحب بشدة اليوم بدعم الاستثمار فى مصر... انظروا إلى تصريحات مسئولين أمريكيين كبار وإلى تصريحات المقربين من الإدارة القادمة بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة... وانظروا إلى تغيير لهجة بعض الأطراف الدولية التى رأت الجدية ظاهرة على القرار الاقتصادى المصرى بصورة لم تحدث على مدى عقود إلا أن الرئيس السيسى قد أقدم دون حسابات ومواءمات على خطوة طال انتظارها وربما لو كان أحد غيره لفكر ألف مرة قبل اتخاذ خطوات ليست جماهيرية أو شعبية ولا تأتى ثمارها بسهولة فى المدى القصير. ولو كانت لديه رغبة فى الانتظار قليلا لما اقدم على تلك الخطوات قبل ايام قليلة من 11/11 وهو اليوم الذى حددته الجماعات الإرهابية ومن يدورون فى فلكها للخروج بمظاهرات ضد السلطة وجاءت النتيجة صفرا كبيرا لكل من يريدون شراً لمستقبل هذا الوطن. في ظل المناخ الجديد، لا تأتي رؤية الحكومة مكتملة تماما وهناك مشكلات تعترض طريق إنجاز أهداف برنامج الإصلاح لأن ما قاله الرئيس - عن ضرورة مراقبة الأسواق وإحكام السيطرة علي حركة بيع السلع للمواطنين حتي لا تسقط فريسة سهلة في يد التجار بعد تحرير سعر صرف العملة الأجنبية - لم نسمع في مقابله سوي تصريحات عنترية من هنا ومن هناك.. ولو كلف أي مسئول في الحكومة نفسه مشقة الخروج دون حاشية الوزارة سيجد أن الناس مازالت محتقنة ليس من الإجراءات الاقتصادية والمالية التي تأخرت كثيرا ولكن بسبب غياب الرقابة الواجبة والضرورية التي مازال القائمون عليها في الجهاز الحكومي لا يعطونها حقها وينشغلون فقط بسد الفجوات بتصريحات باتت مكشوفة للرأي العام ولم تعد تنطلي عليه... وقد قلنا مرارا وتكرارا وفي مواضع عديدة في السابق، إن فكر الرئيس وطموحاته يحتاج إلي من يواكبها ومن ثم فعلي الأطراف القادرة علي إنفاذ تلك الرؤية ان تطور من أدائها ومن أدواتها ولا تنتظر تعليمات من أعلي! الغالبية الساحقة استقبلت خطوات الإصلاح الاقتصادي بوعي وصبر شديد وتنتظر أن تتحرك الأجهزة المعنية بمراقبة وضبط الأسواق لمنع الممارسات الاحتكارية... لا أحد ينكر ما تقوم به الرقابة الإدارية في الشهور الأخيرة من حملات مكثفة في جميع المحافظات وعلي أصعدة عديدة تركت انطباعا حقيقيا بأن هناك من يحارب ويتصدي للفساد. لكن هناك أجهزة مازالت خارج الصورة ولا تعمل بالكفاءة المطلوبة بسبب الأداء البيروقراطي العقيم ونظرية «سد الخانة» التي تعمل بها الأجهزة الحكومية علي مدي سنوات طويلة من عمرها ولا يوجد بها الكثيرون ممن لديهم قناعة بضرورة التغيير، فالأفضل في حالاتهم أن يأتيهم التغيير من أعلي ولا ننتظر منهم أن يغيروا أنفسهم حتي يتوافقوا مع احتياجات التغيير. في الماضي، كانت تلك الأجهزة تطوع القيادة السياسية والأجهزة المعاونة وفقا لمصالحها الضيقة وعدم الرغبة في إحداث تغيير، واليوم يقود رئيس الدولة بنفسه نسف الأفكار القديمة للبيروقراطية المصرية والتعنت الوظيفي. في حوار سابق مع الرئيس، قال السيسي: إن أنواع الفساد عديدة ولا تقف عند حدود سرقة أو اختلاس الأموال العامة، فهناك أنواع عديدة منه مثل عدم أداء المهام وعدم الإتقان في العمل وهي رسائل بعضها يصل مباشرة إلي الهدف ويحاول البعض الآخر الالتفاف حوله بإشغال الرأي العام بتصريحات عنترية... وبمناسبة التصريحات، فالرئيس نفسه قد أبدي عدم ارتياحه حيال إطلاق تصريحات بغرض «الشو الإعلامي» وتحدث عن تلك الظواهر بانفتاح شديد لعل الرسالة تصل ولكن يبدو أن بعضهم لا يهتم ولا يريد أن يستوعب ما يجري حوله! الردع بات مطلوبا ولنبدأ الحلقة من أولها من مجلس النواب فهو الأقدر علي تبني تشريعات صارمة لإحداث ثورة في الرقابة علي الأسواق ووقف الممارسات الاحتكارية لو أراد أن يكون ممثلا حقيقيا لمصالح القطاعات الواسعة من المصريين... قبل أيام، قال الوزير محمد عرفان رئيس هيئة الرقابة الإدارية إن الشعب المصري هو البطل الحقيقي في عملية الإصلاح واصفاً القرارات الاقتصادية الأخيرة بالجريئة، وأنها حتمية لمكافحة الفساد. وهو ما يعني أن أعلي جهاز رقابي في الدولة يري الرابط ما بين قرارات الإصلاح ومحاربة الفساد ويمنحها أولوية قصوي. فالقرارات الإصلاحية ضرورية لمكافحة الفساد، ومواجهة الفساد حتمية لإنجاح عملية الإصلاح... ومازال المواطن ينتظر تحرك جهاز حماية المستهلك ومباحث التموين ومفتشي التموين والنيابة العامة للقيام بأدوارهم الواجبة لمحاصرة قوي الجشع والمتاجرة بقوت الشعب وحرمان طبقات من سلع ضرورية، حيث من المؤسف أن يمارس هؤلاء كل تلك الأفعال ولا يجد رئيس الدولة في نهاية المطاف سوي تكليف القوات المسلحة بأن توفر سلعا بشكل عاجل لبعض المناطق بعد أن شحت فيها السلع دون سبب واضح. مثلما كانت هناك جرأة سياسية في اقتحام الوضع الاقتصادي الموروث، ننتظر تضافر الجهود من الجهات التشريعية والتنفيذية والقضائية لملاحقة الفاسدين وحتي نختصر خطوات الإصلاح بدلا من أن نجلس نندب حظوظنا ونبكي علي ما فاتنا رغم أننا في واقع الأمر نمتلك المستقبل ولدينا الأدوات اللازمة للتعامل معه.. لو شئنا! لمزيد من مقالات محمد عبدالهادى علام