أعادت ثورات الربيع العربي للمواطن حريته المسلوبة وكرامته المهدرة وحقوقه المستباحة, ليس هذا فقط ولكنها اعادت العرب كلهم الي قلب التاريخالذي عاشوا علي هامشه سنوات طويلة مظلمة تحت نظم حكم استبدادية عاتية في جبروتها وتخلفها وفسادها. لم يعد العرب ولن يكونوا بعد اليوم الاستثناء الديمقراطي الوحيد في العالم, ولن يكونوا ايضا الثقب الأسود في هذا الكون المتقارب بفعل ثورة الاتصالات وأحلام الحرية والعدل والمساواة التي تجمع شعوب الارض علي اختلاف الوانها وثقافتها وحظوظها من الثراء والتقدم, ارادت الشعوب العربية الحياة واستجاب القدر بعد ان عاندها طويلا, وأشرقت شمس الحرية بعد ان احتجبت سنين عددا. بزغ نورها المبارك من الغرب من تونس الخضراء ليبدد ظلمات الليل الطويل في مصر وليبيا واليمن وقريبا سوريا, ما يحدث في مصر والمنطقة العربية هو اعادة ميلاد جديد لها, تحول تاريخي حقيقي وجذري سيعيد رسم الخريطة السياسية في المنطقة وخارجها لسنوات مقبلة, المشهد الداخلي والإقليمي بالغ التعقيد والسيولة, الاحداث متلاحقة والتطورات سريعة والتغييرات تخطف الابصار, لهذه الاسباب رحنا نبحث عمن يقف خارج المشهد برمته يروي لنا كيف تبدو الصورة من بعيد لا من قلبها, فلن نطمئن ولن نكتفي برصد الجانب الذي نراه فقط. من اجل هذا تفتح الأهرام صفحاتها اعتبارا من اليوم لنشر سلسلة من الحوارات أجراها محرروها ومراسلوها حول العالم مع عدد من الخبراء والسياسيين والمفكرين الأجانب والعرب خارج مصر, لعلنا نجد في رأيهم ما يعيننا علي رؤية أوضح لواقعنا ومسيرتنا. اين نحن الان وفي أي اتجاه نسير وتسير بنا ومعنا المنطقة كلها. في ذلك التوقيت الحرج والدقيق والذي يتشكل فيه مصير ومستقبل مصر ودول الربيع العربي وبالتالي المنطقة يصبح الحوار مع إعلامي بحجم وثقل الإعلامي البريطاني المخضرم تيم سيباستيان فرصة جيدة لمعرفة صورتنا في عيون الغرب وتقييم الفترة الانتقالية وتجربة مصر للتحول الديمقراطي وخاصة من أحد رموز وأعلام الحوار التلفزيوني في مؤسسة ال بي بي سي والعالم. وقد حاول الأهرام الحصول علي عصارة فكر وفلسفة الرجل ورحيق تجربته الممتدة علي مدي نحو40 عاما في مجال الإعلام والصحافة والسياسة حيث بدء العمل في وكالة رويترز عام1974 بعد تخرجه من كلية اللغات الحديثة بجامعة أوكسفورد البريطانية العريقة ثم انتقل للعمل مراسلا ل بي بي سي للشئون الخارجية في وارسو ببولندا في1979 وفي أوروبا في عام1982 ثم مراسلا لها في موسكو في عام1984 قبل أن يتم طرده من الاتحاد السوفيتي آنذاك في عام1985 ثم تحول من الشرق الشيوعي الماركسي للعمل في الغرب الرأسمالي الليبرالي في العاصمة الأمريكيةواشنطن بين عامي1986 و1989 قبل أن يعاود العمل كمحاور في تلفزيون ال بي بي سي في برنامجه الحواري الشهير هارد توك والذي مكنه من إجراء حوارات مع أشهر الشخصيات السياسية والمؤثرة في العالم. وقد التقيت بسيباستيان في قطر قبيل المشاركة في مناظرات الدوحة التي يرأسها وكان لنا هذا الحديث: أولا أود أن أشكرك علي هذا الحوار مع الأهرام ولنبدأ بالشرق الأوسط الذي مازال أمامه طريق طويل من أجل التحول إلي الديمقراطية كيف تقيم تجربة الربيع العربي حتي الآن؟ إنها تجربة مختلطة وتنطوي علي قدر من التحدي حيث أنها كلفت دول الربيع العربي الكثير من الضحايا في الأرواح وربما تستمر في استنزاف المزيد من الضحايا في المستقبل, وإنني لست متأكدا عما إذا كانت دول الربيع العربي تتجه نحو الديمقراطية ولست متأكدا إذا ما كانت تتجه إلي مسلك يختلف عما كانت عليه تلك الدول من قبل. فعندما ننظر إلي العام الماضي في مصر وما رأيناه من استمرار حكم قانون الطواريء بشكل أسوأ ما كانت عليه الأمور في الأيام الأخيرة من حكم مبارك.. لقد رأينا أناس يقتلون في الشوارع وقد رأينا اشخاص يعذبون في السجون العسكرية ورأينا الآلاف من الأشخاص يمثلون أمام محاكمات عسكرية غير عادلة لهذا فإنني لست متأكدا إذا ما كانت الأوضاع تتحسن ورغم ذلك فإن الجيش مازال لديه نسبة قبول وتأييد تصل إلي85% بين الشعب وهذا ما لم أفهمه, لهذا فأنا لست متأكدا مما إذا كان العالم العربي يتجه صوب الديمقراطية علي الإطلاق. وكل ما يمكننا قوله أن كثير من الناس الشجعان قد فقدوا حياتهم وعانوا من قبل من أجل الوصول إلي مستقبل أفضل. وأنا لست متأكدا إذا كان هذا المستقبل الأفضل قادما. هؤلاء الناس يطالبون بالحرية في الواقع هناك الكثير من الناس( في مصر) يطالبون بنهاية الاحتجاجات وأن تعود البلاد إلي العمل وأن يعودوا لكسب أقواتهم وقدر من المال من أجل سبل العيش. إنني لا أسمع عمن يتحدث عن الفقراء في ثورة مصر فالحديث عن هموم الفقراء قليل. فقلة من الناس من يتحدثون عن رعاية هؤلاء الفقراء والمعدمين ممن لا يملكون شيئا بل أقل من ذلك والذين ازدادوا فقرا بعد الثورة. وهل تعتقد أن الربيع العربي يقترب من دول أخري في المنطقة بعد كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا؟ اعتقد أن الدول الأخري عليها أن تعدل أوضاعها إذا كانت ترغب في تجنب احتجاجات مماثلة لتلك الثورات واعتقد أن هناك تحركات في الدول الأخري لمحاولة القيام بهذا الأمر في كل من الأردن والمغرب والجزائر ولكن كيف تسير الأمور علينا أن ننظر إلي الانتخابات الأخيرة في الجزائر فنجد أن لا أحد يثق في النتائج ولا أحد يعتقد أنها انتخابات حقيقية. ويبدو أنه كلما أراد الناس قدرا من التنازل والتغيير من قبل حكوماتهم فإنهم ينتزعون ذلك بقدر كبير من الصعوبة وأقصي درجة من الألم والمعاناة لأن تلك الأنظمة لن تستسلم( للشعوب) بسهولة. فهي لن تترك السلطة وترحل. بالتأكيد تلك الأنظمة لن تتخلي عن السلطة بسهولة لهؤلاء الناس. هل كنت في مصر عند اندلاع ثورة يناير وما انطباعك عندما رأيت الناس تخرج في مظاهرات هائلة خاصة في ميدان التحرير؟ لا لم أكن في مصر ولكني كنت في تونس بعد فترة قصيرة من ارغام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي علي الرحيل.. ومن المثير للاهتمام أن الجميع كان يقول إن هذا الأمر لا يمكن أن يحدث في مصر وقد تحدثت مع أحد الأساتذه بجامعة القاهرة وقال لي إن هذا لن يحدث هنا ولقد كانت( تلك الثورة) مفاجأة وقد حدثت بالفعل هنا في مصر لذا فقد فاجأت الجميع واعتقد أن الناس أخطئوا في النظر فقط إلي ما يدور في ميدان التحرير وليس تركيز النظر إلي الأمور التي لا تتغير وتبقي علي نفس الوتيرة وليس النظر والتفكير في كون الحرس القديم لديه قوة ونفوذ هائل وهو مازال كذلك. وكما قلت اعتقد أن ما حدث في مصر لم يكن ثورة بل انتفاضة لأن الثورة تأتي وتزيح النظام القديم ولكن النظام القديم لم يتم إزاحته أو التخلص منه. هو مازال قائما. مارأيك في الفترة الانتقالية في مصر ؟ اعتقد أنها كانت فترة سيئة للغاية ومضرة للغاية كبدت( مصر) الكثير من الأرواح حيث فقد كثيرون حياتهم بدون داع وهناك الكثير من جرائم القتل والتعذيب والكثير من المحاكمات العسكرية غير العادلة واعتقد أنها فترة محزنة للغاية في مصر. وبالنسبة للنتيجة هل تعتقد أن تلك المرحلة تحقق طموحات الشعب المصري في التحول إلي الديمقراطية؟ لا أدري إذا كانت تلك هي طموحات الشعب المصري فربما تلك هي طموحات بعض أفراد الشعب واعتقد أن الطموح السائد للمصريين الآن هو الحصول علي قدر من السلام والهدوء والاستقرار في البلاد وعودة الحياة إلي طبيعتها وعودة الاستثمار والسياحة وجلب الأعمال للبلاد ومحاولة البدء في تجاوز الظروف الاقتصادية الصعبة التي وجدوا انفسهم فيها. هذا ما يريده معظم المصريين وهذا ما يقولونه لي. بوصفك إعلامي كبير ومراقب سياسي.. ما الذي تعتقد أن مصر بحاجة إلي أن تحققه في الوقت الراهن والمستقبل القريب؟ اعتقد أن مصر في حاجة إلي صحافة قوية ومستقلة.. صحافة تضع الحكومة والقادة تحت المجهر وتطرح عليهم الأسئلة الصعبة بالنيابة عن الرأي العام وتتأكد من أنهم شرفاء وينفذون ما يعدون به وتساءلهم عما ما لا ينجزونه أو ما لا بنجحون فيه لماذا يغيرون اتجاهاتهم ؟ وماذا يفعلون بأموال الشعب تلك هي الأسئلة التي تحتاج الصحافة أن تطرحها.. فالصحافة يجب أن تكون أداة للرقابة في المجتمع المصري. واعتقد أنكم بحاجة أيضا إلي حرية التعبير وكذلك التشريعات والقوانين التي تكفل حرية التعبير وتحتاجون إلي أناس تهتم بذلك الأمر لأنها إحدي الحريات التي تؤدي إلي الحربات الأخري وتدعمها. هذا ما تحتاج إليه مصر وأنتم لديكم صحفيون أقوياء وشجعان ناضلوا خلال حقبة مبارك وأنا متأكد أن لديكم الكثير من الصحفيين الموهوبين يكفون لإنجاز تلك المهام. هل الغرب قلق حقا بشأن صعود الإسلاميين من السلفيين والإخوان المسلمين وهيمنتهم علي السلطة وإذا قلقا بالفعل ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا القلق؟ إن الغرب دائما قلق بشأن اشياء لا يعلم الكثير عنها فبالنسبة لهم فإن الإخوان المسلمين والسلفيين مجهولون وبالإضافة إلي ذلك فإن لا أحد يتصرف في السلطة كما كان يفعل عندما كان في صفوف المعارضة.. وأقول لك شيئا إن الغرب وأمريكا سيتعاملون مع أي من كان الفائز وسيرتبطون بأعمال معه وسيتفاوضون مع أي من كان الفائز لأنهم ليس لديهم خيارات أخري. وهل سيحدث هذا حتي وإن كان الغرب لا يتفق مع وجهات نظرهم وأرائهم؟ إن الغرب يتعاملون مع الصين وروسيا ودول مختلفة في أنحاء العالم وهم يجلسون في بعض الأحيان للحوار مع إيران. فلذلك فهم سيتعاملون من اي من كان القادم. وهذا قائم علي المصالح. هل تعتقد أن الانتخابات الرئاسية المصرية ستكون نزيهة فالبعض متوجس ومتشكك في ذلك ؟ آمل أن تكون الانتخابات نزيهة وقد جري لديكم انتخابات برلمانية حرة ومعظم الناس قبلوا أنها انتخابات حرة كما جري لديكم استفتاء( علي التعديلات الدستورية) وقد كان أيضا حرا ونزيها وآمل أن تكون انتخابات الرئاسة. التقرير السنوي لمؤسسة فريديم هاوس المعنية بالحريات بشأن حرية الصحافة في العالم وصف الصحافة في مصر بأنها حرة جزئيا وبذلك فإن الصحافة المصرية قد تحسنت من كونها صحافة غير حرة إلي حرة جزئيا نتيجة لتوفر منافذ إعلامية مستقلة والإقلال من الرقابة الذاتية علي الصحافة بعد ثورة25 يناير.. فما تعليقك علي هذا وما هي روشتك لتحسن الصحافة المصرية لتصبح صحافة حرة؟ إنهم الصحفيون الشجعان الذين يناضلون ويقاتلون من أجل قضاياهم ولن يحدث شيء إذا لم يتم النضال من أجل ذلك وإزاحة الحدود والإصرار علي الحصول علي اجابات للأسئلة الصعبة والتي يجب أن تطرح بالنيابة عن الجماهير. وتلك الأمور بأيدي الصحفيين وهم بحاجة إلي أن يدعمهم الشعب والرأي العام لأنهم يعملون من أجل الجماهير ومن المهم الا يعمل الصحفيون لمصالح خاصة أو تجارية ولكن يجب أن يعملوا باسلوب نزيه ومستقل. وبالنسبة إلي الأوضاع في سوريا.. فإن الموقف ليس في صالح الثورة ونجاحها فهل تعتقد أن الأسد سيتنحي بعد كل أعمال القتل وسفك الدماء؟ لا أدري ولكني آمل أن يفعل. وفي الشأن الإيراني هل تعتقد أن إسرائيل ستشن ضربة استباقية للمنشآت النووية في إيران ؟ ليس لدي أي فكرة عن ذلك ولكن يظل الأمر احتمالا جادا مع المناقشات التي تجريها مع أمريكا. وبالنسبة لمناظرات الدوحة إلي اي مدي تعتقد أن مناظرات الدوحة تثري ثقافة الحوار خاصة في العالم العربي إذا كان برنامجك بالإنجليزية والأغلبية في العالم العربي لا تتحدث الإنجليزية بل هم محسوبون في عداد الأميين؟ ما هو هدفكم من هذا البرنامج ؟ إن هدفنا كمؤسسة بث عريقة( بي بي سي) هو الوصول إلي أكبر عدد من الناس بقدر الإمكان ولا يهم إذا ما كانوا قلة أو ملايين.. وإننا نصل إلي الملايين في أنحاء العالم لأننا نعرض لهم كيفية الأوضاع في العالم العربي ونريهم التنوع العربي والاراء المختلفة التي تطرح وتناقش في العالم العربي وهذا أمر ذو قيمة وهناك أجيال شابة داخل العالم العربي تتقدم وتشارك في مناظراتنا ولدينا المئات من الشباب العرب وشارك قاعات النقاش الخاصة بنا واعتقد أنهم تعلموا ليس فقط قيمة حرية التعبير بل أيضا كيف أنها امر بناء في المجتمع وكيف ساعدتهم في لعب دور في الحياة السياسية ببلادهم ويعتادون علي ذلك وعلي طرح الأسئلة الحيوية والإصرار علي الحصول علي اجابات لها. لذلك اعتقد أن تلك المناظرات لها قيمة وهي ربما ليست للجماهير العريضة في العالم العربي ولكن لنتذكر أن التاريخ ليس عن تحركات جماهير وإنما هو عن عدد صغير من الناس الذين أسهموا في تغيير العالم لأن التحركات الجماهيرية لا تغيير مطلقا العالم بل الأعداد القليلة والأفراد هم الذين يغيرون العالم. وقد حصلنا علي ميزة الوصول إلي أعداد وبعض الأفراد الذين قد يصبحون ذوي نفوذ في بلدانهم وآمل إذا ما أصبحوا كذلك أن ياخذوا معهم قيمة حرية التعبير التي نحاول ترسيخها. أنت معروف ببرنامجك الحواري هارد توك وأحيانا تحاصر ضيفك في ركن وتلكمه باسئلة محرجة.. يرد مقاطعا أنا لا ألكم أحدا وإنما أطرح أسئلة صعبة نيابة عن الجماهير وإذا كانت الحقيقة محرجة فلتكن كذلك. ما هو برنامجك التلفزيوني المفضل وصحيفتك ومجلتك المفضلة ؟ يرد ضاحكا.. يا إلهي لن افصح لك عن ذلك فلن أجلس هنا لدعم برنامج تلفزيوني أو صحيفة لن أفعل.. إن هذا ليس للدعاية وإنما نحاول أن نعرف الصحيفة والبرامج التي ساهمت في تشكيل أفكار وأراء إعلامي كبير مثلك. يرد متملصا إنني أحب قراءة الكتب. أشكرك علي وقتك واجاباتك القيمة.