كان محمد على قوى القبضة على أمور مصر، لكن كبار التجار كانوا يتلاعبون به ويبتكرون فى كل يوم وسائل لاستغلال الفقراء. وتراكم الغضب وخشى محمد على من الانفجار واكتشف أن المحتسب «يوالس» مع التجار ويحكى الجبرتى «وفى يوم رؤية هلال رمضان المبارك خرج المحتسب عثمان أغا الوردانى على رأس موكب مشايخ الحرف فى موكب الرؤية ، واثبتوا رؤية الهلال ، لكن المحتسب يعود بالبشرى ليجد نفسه معزولا ، فمحمد على أراد أن يسترضى الناس، فالمحتسب هو المسئول عن ضبط الأسواق، ولكن الأسعار تلتهب» والجبرتى يقول «وفيما يهل رمضان يجد الناس أن السمن والعسل والقمح قد شحت من الأسواق أو هى غير موجودة أصلا، ومن أرادها يبحث عنها سراً وبالسعر الزائد» وقد تباكى عثمان أغا مقسما للوالى كما قال الجبرتى «إنه خزم أنوف الجزارين وعلق فيها قطعا من اللحم، وقطع آذان تجار السمن وأمر بحبس الكثيرين، بل شنق منذ أيام تاجرا على باب زويلة وعلق فى عنقه ريال فرانسه كان قد زاده على السعر».. ورفض محمد على كل هذه الأقاويل وأتى بمحتسب جديد هو مصطفى كاشف كرد وقال له أمام أعضاء المجلس «إنى أطلق يدك فافعل ما تشاء فى هؤلاء التجار» ورد كاشف كرد «افعل إن شاء الله ولكن أرجو أن تأذن لى بأن أبدأ بكبار التجار .. فأذن له». هكذا كان كاشف أكثر ذكاء، وربما وعيا وإخلاصا، فملاحقة صغار التجار ومهما عاقبتهم فإن كبار التجار يظلون بمأمن من العقاب ويواصلون إجرامهم. ونزل كاشف كرد وليس إلى الأسواق وإنما إلى بولاق، حيث يقيم كبار التجار الذين كانوا يرسلون أتباعا يتصدون للفلاحين الآتين إلى المحروسة بمحاصيلهم فيأخذونها منهم بالإكراه والأثمان الرخيصة ثم يخبئها الكبار فى حواصلهم [مخازنهم] ليبيعونها بأفحش الأسعار» والى هذه الحواصل توجه المحتسب ليخرج قمحا وسمنا وعسلا وخيرات كثيرة، وحملها رجاله ليعرضوها فى الأسواق بالسعر المفروض». ويمضى الجبرتى وكأنه يتحدث عن أيامنا غير السعيدة فيقول «وفى بادئ الأمر تحداه كبار التجار وأمروا بإغلاق الحوانيت وأوقفوا البيع والشراء». لكن كاشف كرد لم يتوقف بل أخذ رجاله إلى بولاق مرة أخرى «وهاجم بهم حاصلا واحدا من أكبر التجار ليخرج منه ثلاثمائة وخمسين ماعونا ، ووبخ كاشف كرد هذا التاجر الكبير قائلاً لديكم رواتب وعلائق ولحوم وسمن وخلافه فهل يجوز أن تحتكروا أقوات الناس وتبيعونها بالثمن الزائد» ويمضى بنا الجبرتى ليقول ز وعندما رأى التجار كباراً وصغاراً وأرباب الحوانيت الجد وعدم الإهمال وعدم الموالسة مع الكبار فتح المغلق منهم حانوته وأظهروا مخبوءاتهم، وملأوا السدريات والطسوت من السمن وأنواع الجبن، وكان التاجر منهم يقول لزميله لقد فعلها كاشف كرد مع فلان وفلان فهل يتركنا نحن؟ .. وهذا الدرس نهديه لبعض السادة الوزراء والسيد رئيسهم لعلهم يستطيعون التعامل الجاد مع كبار التجار وكبيرهم. ونعود إلى الجبرتى عين مصر الساهرة وهو يغمس ريشته فى حبر من الحقيقة المصرية فيقول ثم «انه حصلت فى شهر ذى القعدة سنة 1231ه. شحة فى الصابون وانعدام وجوده فى الاسواق، وقام تجار وكالة الصابون بزيادة ثمنه زيادة فاحشة، وكلما أمر الكتخدا بسعر ملائم ادعو الخسران وبالغوا فى التشكي» [ولم يكن فى أيامهم مؤتمرات صحفية كتلك التى يعقدها شاهبندر التجار متوعداً الجميع ومطالباً بما هو غير معقول] .. وأخيراً حاسبهم المحتسب وزادهم خمسة أنصاف عن كل رطل وحلف ألا يزيد على ذلك. ثم أرسل شخصاً من طرفه إلى خان الصابون لمباشرة البيع وعدم الزيادة، ولكنه فوجئ بالموالسة مع كبار التجار الذين يحاصر رجالهم خان الصابون ويشترون كل ما يباع بالسعر المقرر ولا يتمكن خلافهم من أهل البلد من أخذ شيء، ثم يخرج الأتباع فيبيعون الرطل بقرشين وقد اشتروه بقرش «ونمضى مع الجبرتي» وذات يوم استدعى الباشا أحد المشايخ لمباحثته فى أمر من الأمور فحضر الشيخ وقد غطى وجهه وسأله الباشا عن السبب فقال أنا لثلاثة أيام لم أغسل وجهى بسبب شحة الصابون، فهاج الباشا واستدعى الكتخدا وعنفه وأمر بتخفيض سعر الصابون وإنهاء الاحتكار فقال الكتخدا يا مولاى «منع الأكابر من الاتجار تكثر الأرزاق ويختفى الاحتكار وتنخفض الأسعار». وأترك كتاب الجبرتي. وإن كان لديه الكثير من حكايات مماثلة ولدى كتب أخرى تحكى حكايات أخرى لكنها تقول ذات الحكمة «منع الكبار من الاحتكار تخفض الأسعار» مثل كتاب ابن إياس «بدائع الزهور فى وقائع الدهور» وغيره.. فهل أواصل يا سيادة رئيس الوزراء.. أم أن الحكايات السابقة كافية؟ وحذار من مصير كمصير المحتسب لأى من وزرائك أوحتى لسيادتكم شخصيا. والى لقاء. لمزيد من مقالات د. رفعت السعيد;