تعرضت المحكمة «الجنائية الدولية» لزلزال غير مسبوق يهدد بانهيارها وخروج الكثير من أعضائها تباعا إثر إعلان جنوب إفريقيا رسميا فى ال 19 من أكتوبر الماضى قرار انسحابها من هذه المحكمة اعتراضا على ماوصفته «بعدم الحيادية» ضد قادة القارة الإفريقية ومحاباة مسئولى الأوساط الغربية فى المقابل. وأخذت بعض دول القارة الأخرى الأمر على محمل الجد وبدأت تفكر فى اتخاذ الخطوة ذاتها لدرجة أن الاتحاد الإفريقى من المرجح أن يناقش فى قمته المزمع انعقادها فى يناير المقبل فى أديس أبابا قضية المشاركة الإفريقية برمتها فى هذه المحكمة بوصفها «قضية الساعة» فى القارة.وترجع بوادر الأزمة الحالية بين «الجنائية الدولية» وجنوب إفريقيا إلى مطالبة المحكمة لهذه الدولة باعتقال الرئيس السودانى عمر البشير خلال زياته لجوهانسبرج عام 2015 للمشاركة فى قمة للاتحاد الإفريقى وقتها. وأوضحت أن جنوب إفريقيا بموجب عضويتها وتوقيعها على الميثاق التأسيسى «للجنائية الدولية» فإنها ملزمة بتنفيذ مختلف القرارات الصادرة عن هذه المحكمة بما فيها هذا القرار. وفى المقابل، رفضت جنوب إفريقيا تنفيذ طلب اعتقال البشير بناء على حصانته الرئاسية.وللإيضاح، علل مايكل ماسوثا وزير العدل فى جنوب إفريقيا قرار انسحاب بلاده من «الجنائية الدولية» بأسباب عدة، أبرزها أن التزامات المحكمة الجنائية الدولية وتطبيق بنود معاهدتها التأسيسية الموقعة عام 2002 يتعارض مع بنود القانون التقليدى لعام 2001 الذى يمنح حصانات وامتيازات دبلوماسية لرؤساء الدول الذين لا يزالون فى مناصبهم، كما هو الحال فى قضية البشير. وثانى الأسباب يتمثل فى الرد على الانتقادات التى وجهتها المحكمة لبلاده جراء تجاهل أمر باعتقال البشير بحجة حكم مسيس، وقال إن السبب الثالث يرجع إلى أن استمرار عضوية بلاده بهذه المحكمة سيعرقل جهودها الرامية إلى المساعدة فى حل الصراعات الدائرة فى أنحاء إفريقيا وسيحد من دورها كلاعب رئيسى فى إنهاء أزماتها.ولمزيد من أسباب الانسحاب، أوضح ماسوثا أن اعتقال قادة أفارقة داخل بلاده كالبشير مثلا سيصعب على بلاده مهمة استضافة محادثات سلام بين طرفى أى نزاع إفريقى بهدف حله، كما سيفرض أيضا «تغييرات للنظام» فى دول هؤلاء القادة، ويتجلى السبب الرابع فيما عبرت عنه صحيفة «ديلى مافريكس الجنوب إفريقية بسانحياز» المحكمة الواضح ضد دول القارة السمراء وقادتها واستهدافها لهم، فى مقابل استبعاد قادة آخرين وخصوصا غربيين معروفين بارتكاب هذه الفظاعات فى أماكن أخرى خارج افريقيا. ويصدق الواقع ذلك، حيث إنه ومنذ بداية عمل هذه المحكمة فى 2003 فتح قضاتها تحقيقات فى 9 دول، 8 دول منها إفريقية، وكان ذلك محل نقد فى القارة خصوصا من الاتحاد الإفريقى الذى رأى فى موقف المحكمة نوعا من الملاحقة على أساس عنصري.وفيما يتعلق بقانونية القرار من عدمه، أوضح وزير العدل بجنوب إفريقيا أن بلاده تملك الحق فى الخروج من المعاهدات الدولية دون موافقة برلمانية وفقا للدستور، مؤكدا مع ذلك أنه سيتم قريبا تقديم مشروع قانون للبرلمان بشأن الانسحاب من «الجنائية الدولية». وحول صحة القرار والمدة الزمنية لتطبيقه، أكدت الأممالمتحدة صحة خبر انسحاب جنوب إفريقيا من «الجنائية الدولية» وتسلمها فى 19 أكتوبر الماضى رسالة خطية من جوهانسبرج كبريد وارد ومسجل فى هذا الشأن، وأوضحت أن نص وثيقة الانسحاب سيسرى العمل به بعد عام واحد من الآن وفقا للقوانين المنظمة لعمل المحكمة فى حالة انسحاب أحد أعضائها وإيداعه إعلاما بذلك لدى أمين عام اللأمم المتحدة.وعلى غرار ما فعلته جنوب إفريقيا قبل عام وترجمته عمليا الآن، أصدر الرئيس البوروندى بيير نكورونزيزا مرسوما بانسحاب بلاده رسميا من ذات المحكمة بعد موافقة برلمان بلاده على هذا التحرك. والخطير على مستقبل العضوية بهذه المحكمة يتمثل فى أن الانسحاب منها لم ولن يكون مقتصرا على هاتين الدولتين بل يبدو أن عقدها انفرط. فقد نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن هنرى أورييم أوكيللو وزير خارجية أوغندا قوله إن بلاده لم تتخذ قرارا بعد بشأن بقاء عضويتها فى «الجنائية الدولية» من عدمه. كما طالب الرئيس الكينى أوهورو كينياتا الذي، لطالما حاولت «الجنائية الدولية» التمكن من مثوله أمامها لمحاكمته بزعم تورطه فى جرائم حرب وباءت محاولاتها بالفشل، مجلس نواب دولته إلى الموافقة على قرار الانسحاب من تلك المحكمة.كما ألمحت ناميبيا لاحتمال القيام بالمثل. وأما الأخطر من نوعه على الإطلاق فيكمن فى اعتزام الاتحاد الإفريقى مناقشة قضية مشاركة دول القارة بأكملها فى هذه المحكمة من عدمه خلال القمة الإفريقية باعتبارها «قضية الساعة» فى إفريقيا. ويعضد هذا الطرح تحذير أنطون دو بليسيس مدير معهد الدراسات الأمنية بجنوب إفريقيا من أن القرار قد يكون له «تأثير الدومينو» ويدفع دولا إفريقية أخرى إلى الخروج من المحكمة. وبكل حيادية، يعكس قرار هذه الدول الإفريقية بالانسحاب المخاوف الموجودة عبر القارة السمراء من كون المحكمة قد فشلت فى التعامل بشكل كاف مع شتى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادات الجماعية فى مناطق أخرى من العالم، لدرجة أن المحكمة منذ تأسيسها وحتى اليوم لم تدن سوى الأفارقة وكأنها مسلطة عليهم وليس أمامها غيرهم. وفى النهاية، وضع قرار جنوب إفريقيا الرسمى بالانسحاب من «الجنائية الدولية» واعتزام غيرها من شقيقاتها الأفريقية القيام بالمثل مصداقية المحكمة على المحلك ومستقبلها فى خطر ودفع بأسهمها إلى أدنى مستوى لها منذ تأسيسها عام 2003. ولم يعد الآن أمام الغرب سوى أحد خيارين إما إصلاحها وإعادة النظر فى أحكامها، وإما إفلاسها وهروب أعضائها الواحد تلو الآخر والعودة إلى نقطة صفر العضوية لحظة تأسيسها.