نحن الآن في حارة برجوان.. وبرجوان هذا للذين يعلمون والذين لا يعلمون كان مملوكا خصيا من مماليك ست الملك وماتسألونيش يعني ايه خصي بفتح الخاء وكسر الصاد هذه لأنه لا هذا وقته ولا هذا مقامه.. وصاحبة الدار الحاجة زهرة تستعد للخروج معي بلباس محتشم يجرجر علي الأرض وطرحة سوداء فوق رأسها.. وبرقع بضم الباء وسكون الراء وضم القاف يخفي عيونها الكواحل أو التي كانت «كواحل».. عندما كانت الأرض فى درب المغربلين تهتز لخطواتها والتي قال فيها وغني مطربنا الشعبي الأصيل محمد رشدي فيما بعد.. «ما تبطل تمشي بحنية ليقوم زلزال».. في أغنيته الشهيرة: كعب الغزال.. هي صاحبة الأغنية دون جدال.. سألتها: علي فين العزم يا ست الملك؟ قالت: وعملتني كمان ست الملك أخت الحاكم بأمر الله اللي قالوا انها اللي أرسلت رجالها لقتله في جبل المقطم! أقاطعها: ياه دا انتي مذاكرة تاريخ كويس أهوه؟ قالت: تاريخ حتتنا اللي احنا عايشين فيها من أبد الآبدين.. أنا يا باشا فتحت عيني في البيت هناوهاموت هنا! قلت لها مازحا: بعد الشر وينحرم منك شارع المعز لدين الله اللي اتولدت فيه القاهرة قبل ألف عام ويزيد! مشينا صامتين.. لكن متجاورين.. لم أسألها: احنا رايحين فين؟.. لانني أعرف تماما.. انها ستقودني إلي صديقنا وصديق وحبيب كل الصحفيين والفنانين الذي اسمه الحاج بهادر العطار الذي اختفي فجأة من حي الحسين بحاله في ظروف مريبة! مشيناها خطي.. من حارة برجوان.. إلي جامع الحاكم بأمر الله.. إلي حارة الغوازي وهذا هو اسمه عند العامة وليس في كتاب التاريخ إلي ساحة بيع الجواري والغلمان زمان طبعا.. ومنها تسللت الحاجة زهرة بخطوات ثابتة منتظمة وكأنها آمر عسكر السلطان بحاله وأنا يادوب أدب بخطواتي المتثاقلة البطيئة فوق أحجار شوارع الغورية والمغربلين والسروجية ودار الكسوة النبوية الشريفة التي خلت من صناعها وصبيانها وخطاطيها العظام.. وآه يا زمن.. حتي تعبت مني الساقان وتسارعت مني دقات القلب.. أمسكت يدها لأوقف هذا الفرس الجامح الذي لا يلوي علي شيء وقلت لها: ناخد هدنة شوية انت ايه يا ست الستات فكوا عنك اللجام؟ قالت: ماشي ناخد نفسنا مع فنجان قهوة محوجة عند الست باتعة ما أنت عارفها! سألتها بريبة: واعرفها منين الست باتعة دي كمان؟ قالت: ما حضرتك أيام صولجانك شغلت جوزها شغلانة كويسة عندكم في الصحافة.. لما تشوفها هتفتكر كل حاجة ولو ما افتكرتش هي تفكرك! ................. ................. علي مقهي صغير في زقاق المغاربة هكذا اسمه جلست التقط أنفاسي بينما غابت الحاجة زهرة إلي داخل الزقاق.. وما هي إلا دقائق معدودة.. حتي عادت وفي كتفها الست باتعة.. قمر زمان الحتة في شبابها.. وآه يا زمن.. بعد السلامات والتحيات.. وكلمات في »السر كده« بين الحاجة زهرة والست باتعة.. حتي أعلنت الأخيرة قرارها: يا خبر الحاج بهادر العطار.. أنا جاية معاكم.. استنوني لما البس لبس الخروج.. هاحط طرحة سودة فوق وشي موش معقول بجلالة قدره حنروح المقابر وأنا كده علي سنجة عشرة! أمسكت بيد الحاجة زهرة وقلت لها مندهشا: مقابر ايه يا حاجة.. هو ده وقته.. احنا رايحين نقابل الحاج بهادر العطار في بيته اللي عايش فيه دلوقتي بعد ما طردوه ولاده.. واللا هو اللي طفش من العقوق ونكران الجميل؟ قالت بكل هدوء: ما احنا يا باشا رايحين بيته الجديد.. موش حضرتك برضه عاوز تقابل الحاج بهادر.. احنا حنوديك لحد عنده! كمن القمتني في فمي حجرا كما يقول جهابذة اللغة سكت ولم أنطق أنا الآخر ببنت شفة.. يعني بالبلدي كده »نطقتها بسكوتي.. كما يقول العامة! في الطريق رحت أقلبها في دماغي في مونولوج داخلي.. ايه اللي حصل للدنيا يا ولاد.. الراجل بعد ما شقي وتعب وعمل لأولاده كل حاجة.. يقوم ما يلاقيش ولا حتي ضل حيطة يتسند عليها في أواخر أيامه.. ايه اللي حصل.. هي الدنيا غدارة بالشكل ده.. واللا الزمان بيعمل كده ليه في الناس الطيبين؟ أيقظتني من سرحاني صاحبة المقهي التي جاءت معنا وهي ما اعرفش ليه زي ما بيقولوا ولاد البلد »علي سنجة عشرة«.. يعني لابسة اللي علي الحبل كله« كما يقولون.. ومتزوقة كما العروس في ليلة زفافها.. وهي تردد: والله الحاج بهادر وحشنا! لم أسألها: لم؟.. وعشان ايه؟ وقلت لنفسي دون صوت: خلينا كده ندخل علي الرجل الهارب من ظلم الأولاد والزمان معا.. وبصحبتي صنفين من »الحريمات الأراري« الذي لا يتكرر في هذا الزمان.. واللاتي يعرفن التايهة.. وكل واحدة منهن كما يقول أولاد البلد دوبت من صنف الرجال.. قول ما تعدش! يعني بالزواج واحدا بعد الآخر وآسف لهذه العبارة التي تسللت وحدها إلي هنا رغما عني! .................. ................ نحن نمشي الآن بأقدامنا داخل مقابر المماليك.. وعلي مقربة من مقبرة الأمير طاز وهذا هو اسمه وله قصر بديع يطل علي شارع المعز لدين الله.. وتقام فيه ليال قاهرية ينقلها التليفزيون المصري علي الهواء مباشرة. الوقت بعد الظهيرة بقليل.. نزلت الست زهرة سلالم من الرخام.. ثم دلفت يمينا.. ثم يسارا.. لنجد أمامنا عمنا الحاج بهادر العطار بشحمه ولحمه جالسا وحده أمام بوابة حديدية مغلقة.. قام لفوره عندما لمحنا بطرف عينيه.. واحتضننا جميعا واحدا بعد الآخر.. نزلت دموعا ساخنة علي وجنتيه وهو يقول: موش معقول.. موش مصدق عينيا والله. خطوة عزيزة جاي ومعاك كل الحبايب الحاجة زهرة والله زمان.. والست باتعة كمان جاية تسأل عني.. ونزلت دموعه فوف وجهه مدرارا.. قلت له: موش وقته يا حاج بهادر.. احكيلنا ايه الحكاية.. وايه الرواية؟ الست باتعة تكمل سؤالي بس من الأول وحياتك؟.. هو يحكي ونحن له منصتون: أنتم عارفين إن الحاجة الست بتاعتي أم الأولاد.. ست الكل ربنا افتكرها واخذها عنده: لكن حا اقول ايه واللا ايه.. بعد اسبوع واحد من كتابتي كل شيء باسم الأولاد والبنات.. المحل والبضاعة.. والخزينة واللي فيها.. والبيت وفدادين الأرض اللي في البلد.. والدوار الكبير اللي بيسموه دوار العمدة.. لقيت الوجوه غير الوجوه.. والكلام متغير.. زي ما تحط في كباية شوية ملح بدل السكر.. موش تبقي ممررة.. وهي حياتي بعد كده بقت يوما بعد يوم في مرارة العلقم! دموع تسيل علي وجنتي الحاجة زهرة ربما دون أن تدري.. والحاج بهادر يحكي وسط هدوء المقابر وصمت الموتي: الوجوه أصبحت غير الوجوه.. والكلام لم يعد هو الكلام.. حتي المعاملة تغيرت وتبدلت.. حتي أصبحت أتسول الرضا واللقمة وكباية الشاي! لكن اللي ضربني بسكينة في قلبي هو أول يوم بعد ما كتبت كل حاجة للأولاد وكل واحد اطمن علي نصيبه من الميراث.. نزلت الدكان زي العادة.. بصيت لقيت ابني الكبير قاعد في مكاني علي النصبة وعمال يبيع ويشتري ويحاسب ويستلم النقدية! قلت له كما كنت أناديه دايما: ايه يا شرلوك هولمز قاعد مكاني.. قوم فز بكسر الفاء وسكون الزين! قال لي بكل برود: ده بقي مكاني أنا من النهارده.. حضرتك يا والدي تقعد علي باب الوكالة تراقب اللي رايح واللي جاي.. وخليني آخد بالي من الزباين! ................ ................ مازلنا نتحاور ونتداور مع الحاج بهادر في حوش المماليك.. الست باتعة تسأل: أمال ايه اللي جابك هنا يا حاج؟ هو يكشف السر: قلت في نفسي يا حاج دول ولادك.. أصبر شوية هو ده اللي عملته في نفسك.. بقي المال مالهم.. ومادام المال أصبح مالهم.. يبقي الرأي رأيهم والشورة شورتهم.. وأنا لا حول ولا قوة حتي مصروفي أصبحت باخده من ابني الكبير مع تكشيرة.. زي ما تقول كده: أنت لسه عايش ما تروح كده تتاوي في حتة بعيد عنا.. وقبل ما يقولوها.. وبعد ما أخذوا الشقة اللي كنت عايش فيها في الدور الثاني مع الحاجة الله يرحمها عشان يجوزوا فيها بنتنا آخر العنقود.. وقالوا لي: احنا فرشنالك الاوده اللي تحت السلم! قلت لهم: بتاعة البواب اللي طفشتوه هو راخر؟ قالوا: أيوه.. لكن خليناها لك زي الفل! ساعتها قلت في نفسي الأب يتكلم: ما بقاش ليه عيش في البيت ده.. واخدت قرشين كده كنت مخبيهم لوقت عوزة.. زي ما تقول كده.. كان قلبي حاسس بأن غدر الأولاد قادم.. قادم.. قلت لنفسي مافيش حل إلا اني أروح أعيش مع أبويا وأمي وأعمامي وجدودي في مجاورة المماليك.. واديني قدامكم أهوه! تدمع عينا الست زهرة وتنهمر دموع الست باتعة التي تسأل خلال دموعها: مافيش حد من ولادك سأل عنك.. وقال حتي الراجل ده راح فين؟ قال في أسي: البنت الصغيرة اللى اتجوزت في شقتنا بعد ما طردوني أنا.. جاتني هي وعريسها وقعدت تعيط وقالتلي: ما تزعلش يابا.. كله سلف ودين! ولما سألتها: يعني ايه يا ست الكل.. وهذا هو اسمها؟ قالت: اللي عملوه فيك يا بابا.. ولادهم هيعملوه فيهم إن طال الزمان أو قصر.. صدقني يابا.. كله سلف ودين! وتوتة.. توتة.. فرغت الحدوتة!{ لمزيد من مقالات عزت السعدنى;